info@suwar-magazine.org

الخدمة العسكرية..عقبة في طريق عودة اللاجئين من الخارج ومعضلة اجتماعية في الداخل

الخدمة العسكرية..عقبة في طريق عودة اللاجئين من الخارج ومعضلة اجتماعية في الداخل
Whatsapp
Facebook Share

 

 

- الخدمة العسكريّة ..  (قطبة مخفيّة) في ملفّي اللاجئين وإعادة الإعمار

 

-  المُسرّحون من الجيش ... العائدون للحياة

 

 

الخدمة العسكريّة ..  (قطبة مخفيّة) في ملفّي اللاجئين وإعادة الإعمار

 

نوار ناصر

 

يقول مسؤولون في الاتحاد الروسي، بأن أكثر من 1,7 مليون لاجئ سوري أبدوا رغبتهم بالعودة إلى سوريا، وقد أطلقت روسيا حراكاً إقليمياً بدأ نشطاً في صيف العام الحالي ثم همد قليلاً، وربما مؤقّتاً، عنوانه الأساسيّ: (إعادة اللاجئين)، إذ يتمّ الربط بين إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار الملفّين المرتبطَين في كثير من الجوانب، ولكن تحديداً في مفصل أساسي، وهو وضع الخدمة العسكريّة وقوائم المطلوبين..

 

النظام السوري لا يبدي الحماس ذاته تجاه ملفّ إعادة اللاجئين، بدليل أن مفاتيح أساسية لعودة الراغبين، أو ترغيب غير الراغبين، هي في يده، ويمتنع حتى الآن عن تحريكها وفتح الأبواب، وفي مقدّمتها: ملفّ الخدمة العسكريّة. الذي يُعتبر عقدة أساسية في وجه: عودة اللاجئين، ووقف الهجرة، واستقرار الشريحة الشابة السورية العاملة داخل البلاد.

 

ملايين من المطلوبين

 

قد يقارب عدد المطلوبين إلى الخدمة الإلزامية في سوريا، خلال سنوات الأزمة الثمانية وسطيّاً 1,4 مليون شاب. حيث كان عدد الملتحقين في صفوف الدورات العسكرية الإلزامية يتراوح بين 150-200 ألف شاب سنوياً. أمّا إذا احتسبنا مع هؤلاء من يمكن أن تشملهم الخدمة الاحتياطية، أي شريحة الشباب بالأعمار بين 18-42 سنة، فإننا نتحدّث عن شريحة واسعة قد تقارب 3,5 مليون شاب سوري. (وفق تقديرات شرائح العمر والجنس لتركيبة السكان السوريّة في عام 2010).

 

الهرب من الموت

 

قد تقلّ الأعداد عن هذه التقديرات، إذا ما أخذنا طبعاً المعفيّين من الخدمة لأسباب متعدّدة أهمّها الشابّ الوحيد لوالدته..

 

ولكننا بكافة الأحوال نتحدّث عمّا يقارب 2 مليون شابّ من الشريحة الحيّة والفاعلة من القوى العاملة السوريّة، والتي يخرج الكثير منها دورياً من البلاد هرباً من استحقاق الخدمة العسكريّة.

 

فالخدمة العسكرية في سوريا ارتبطت خلال الأزمة، باحتمالات الموت العالية، أو بضياع سنوات طويلة من العمر وسط المعارك والانتظار... لا يوجد تقديرات دقيقة لعدد الشباب الذي قتلوا في صفوف الجيش السوري والقوى العسكرية المرتبطة به، ولكنّ البعض يشير إلى أن الرقم يقارب الـ 100 ألف، بينما يرفع آخرون التقديرات ليوصل الأرقام إلى مستويات أعلى بكثير، ففي محافظة طرطوس الساحلية وحدها، يُقال أن عدد الشباب المتوفين في صفوف الجيش والقوات المرتبطة به: 200 ألف شاب، بحسب ما نقلته تقارير لقناة الميادين اللبنانية.

 

لذلك فإن السحب إلى الخدمة العسكرية، هو العتبة الأساسية التي تمنع العديد من السوريين في الخارج من العودة، والتي تدفع الكثير من السوريين في الداخل للهرب إلى الخارج... ووسط هذه الدوّامة لا يمكن الحديث عن عودة واسعة للاجئين، أو حتى استقرار في قوة العمل السوريّة. فإذا ما كنّا نتحدّث عن 2 مليون مطلوب للخدمة العسكريّة أو الاحتياطيّة فإنّ هؤلاء مع أسرهم يشكّلون شريحة غير مستقرّة تتراوح وسطياً بين 8-10 مليون سوري. حيث إن أغلب هؤلاء الشباب هم مُعيلون أساسيّون لأسرهم، وكل منهم يرتبط بإعالة 4-5 أفراد آخرين.

 

 

بوادر حلّ (تحت الضغط)

 

مع نهايات العام الماضي، بدأت بوادر عمليات تسريح لدفعات ودورات من الشباب الذين يخدمون في الجيش السوري منذ ستّ سنوات. ثم صدر العفو عن الفارّين من الخدمة، وما أثير حوله من التباسات.. إذ ترافق مع الحديث عن العفو عن الخدمة الاحتياطية، وشطب أسماء أكثر من 800 ألف مطلوب، وما تلاه من إصدار قوائم احتياطية واسعة جديدة. وأخيراً تسريح دفعات الاحتياط ومن تمّ الاحتفاظ بهم، ولكن من مواليد عام 1981 وما قبل.. أي ممّن يخدمون في قوات الجيش السوري وهم بعمر 40 عاماً وما فوق.

 

أشارت القرارات والتصريحات المتخبّطة والمتناقضة حول موضوع التسريح والخدمة العسكريّة، إلى وجود تناقضات في الموقف من هذه المسألة، ولكن يبدو أنها تنحسم لصالح الضغط الروسي الذي يريد حلحلة في هذا الملفّ، لأنه يرى فيه عقبة أمام مسألة عودة اللاجئين، التي يوليها الطرف الروسي أهمّية، ويضعها مهمة في الأمد القريب. كما أن لتسوية أوضاع العسكريين وتخفيف ضغط الخدمة عن الكثير من الشباب، أهمّية بالنسبة للطرف الروسي؛ لأنه يرتبط بتأمين الاستقرار الذي يريده في مناطق التسويات والمصالحات كما في درعا، ومناطق الغوطة، وريف حمص وغيرها.

 

النظام (لا يبدي حماساً)

 

بمقابل الرغبة الروسية، هنالك أطراف في النظام السوري لا يبدو أنها تريد التجاوب سريعاً مع هذا الضغط، لأن أي تقدّم في هذه المسألة يُعتبر فكّاً لعقدة أساسية لمجموعة من الملفّات: فإزالة أو تخفيف ضغط الخدمة العسكرية، يشجّع عودة جزء كبير من اللاجئين، ويفكّ ارتباط شريحة واسعة من الشباب السوري بالنظام، بعد إنهاء الخدمة العسكرية، وعودتهم للحياة المدنية. ويفتح استحقاق المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية تجاه هؤلاء، الاستحقاق الذي يبدو أن النظام يستشعر ضغطه، ولكنه غير قادر على تقديم أي شيء جدّي تجاهه.. لتقتصر (العطايا) على قروض للسيارات السياحية لمن يثبت عجزه من جرحى الجيش وقوى الأمن الداخلي، أو إعطاء المسرّحين رواتب إضافية لمدّة عام بمعدّل الأجر الوسطيّ السوريّ: 35 ألف ليرة، أي أقلّ من 70 دولاراً شهرياً! وغيرها من الإجراءات التي لا تتناسب، بل تبدو هزيلة، أمام واقع شباب قضَوا شبابهم وسط المعارك وفي أقسى الظروف.

 

قنبلة موقوتة

 

إنّ مئات آلاف الشباب السوري قضَوا سنوات الأزمة الثمانية في ساحات المعارك في الطرفين، وهؤلاء كانوا من الشرائح الاجتماعية الأضعف والأفقر، والتي لا تمتلك القدرة على الهرب وتأمين خيارات بديلة جدّيّة خارج البلاد. يشكّل هؤلاء واحدة من المهمّات الأساسية لسورية في المستقبل، حيث من الضروري إعادة تأهيلهم ومساعدتهم ليدخلوا مجالات العمل والإنتاج، التي تحتاج إلى هذا الكمّ من القوى العاملة الشابّة.

 

ولكن الأساسيّ أيضاً، أنّ هؤلاء يحتاجون أيضاً إلى انطلاق عملية إعادة الإعمار؛ لتؤمّن لهم فرص العمل المناسبة، وتعيد دمجهم في الحياة المدنية، الأمر الذي يُعتبر ضرورة... بل إن جزءاً هامّاً منهم ربما يحتاج إعادة تأهيل نفسيّ واجتماعيّ، للتخلّص من آثار مرحلة العنف القاسية.

 

فعدم احتواء هؤلاء وإعادتهم للفعالية، يعني استمرار وجود وقود العنف والفوضى في سوريا.. ويعني وجود قنبلة موقوتة من شريحة الشباب المهمّشين اجتماعياً ممّن عايشوا دموية الأزمة السوريّة بأقسى أشكالها.

 

- - - - - - - - - - - - - - - - - -      

 

 المُسرّحون من الجيش ... العائدون للحياة

 

أليمار لاذقاني

 

بصوت خافت مبحوح يترنّح ( حسن م. ) تحت وطأة كلماتٍ ثقيلةٍ على قدراته المتهاوية، لقد جاء أمر التسريح، بعد سبعٍ عجاف كان يصغي فيها جيداً لطعنات حياته الذليلة متخيّلاً صورة ابنته الوحيدة تنجو من هول الحرب، محافظاً على حبل نجاته الوحيد؛ الوظيفة الحكوميّة.

 

هذا المشهد يلحّ عليّ منذ أن قرّرت الشروع بكتابة هذا التحقيق حول المسرّحين من جيش النظام، حيث بدأت معاناة الشباب مع الجيش منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة في سوريا /آذار 2011/، مع بدء النظام بزجّ الشباب في خندقه بشتّى الوسائل، ومنها التجنيد في صفوفه كمقاتلين سواء كخدمةٍ إلزاميّة أو احتياطيّة (تشمل الخدمة الاحتياطيّة المدنيين المسرّحين من الجيش والمجنّدين الذين أنهوا خدمة العلم ليدخلوا بشكل مباشر في الخدمة الاحتياطيّة، وتسمّى احتفاظاً أيضاً لهذا النوع من الخدمة الاحتياطيّة).

 

بدأ النظام باستدعاء الشباب للخدمة الاحتياطيّة للمرة الأولى بعد اندلاع الاحتجاجات، في /24/ 4/ 2011/، تمّ استدعاء الشبّان الذين خدموا الفترة الإلزاميّة في الأفرع الأمنيّة وأفرع الشرطة العسكريّة والجنائيّة، و شملت مواليد 1975  وصولاً لمواليد 1985، قام النظام بعدها بتسريح ثلاث دفعات من المجنّدين المحتفَظ بهم بدءاً من شهر آب 2011 وحتى كانون الأول 2011 حيث تمّ تسريح جزء من الاحتياط المدني مع الدورة 100 /المجنّدين المحتفَظ بهم /، وتوقّفت بعدها أوامر التسريح للمجنّدين والاحتياطيّين حتى نهاية عام 2011،  حيث شهد هذا العام تخلّف أعداد كبيرة من الشبّان المطلوبين لخدمة العلم، وخاصّة من المناطق التي كانت تشهد مظاهرات واحتجاجات واسعة، ولم تصل أعداد الملتحقين لأكثر من خمسة آلاف، جميعهم من مناطق الساحل السوري فقط، حيث تخلّف جميع المطلوبين من المحافظات الأخرى حسبما أفاد (ك. ت.) أحد الذين التحقوا بتلك الدورة وتمّ تسريحة نهاية العام، كما أصدر رأس النظام في نفس العام أربعة مراسيم عفو تشمل جميعها المتخلّفين عن خدمة العلم.

 

بدأ النظام باستدعاءات الاحتياط الكبيرة منذ آذار 2012، حيث استدعي مئات الآلاف من الشبّان من مختلف الاختصاصات، شملت مواليد 1975 حتى مواليد 1988، وركّز على الموظفين في القطاعات العامّة حيث تمّ تهديدهم بالفصل عن العمل مع زوجاتهم (في حال كنّ موظّفات) إذما تخلّفوا عن الخدمة الاحتياطيّة، (حسب شهادات مطلوبين للاحتياط، حيث التقينا المهندس (ع. ش.) الذي كان موظفاً في إحدى الوحدات الإرشاديّة في ريف طرطوس مع زوجته، والذي تمّ فصله من الوظيفة بعد تخلّفه عن الاحتياط بشهر، كما تمّ فصل زوجته بعدها بستّة أشهر، كما أفاد لنا بأن الأمن العسكري كان يضايق زوجته قبل فصلها بالكثير من الأسئلة والمراجعات، وأكّد لنا وجود تعميمات لمدراء الشركات العامّة بهذا الخصوص لم يتسنَّ لنا التأكّد منها أو الحصول عليها)، مع ذلك بدأت أعداد الممتنعين عن اللحاق بالخدمة الاحتياطيّة بالتزايد في هذا العام رغم مرسومَي العفو الصادرَين في نفس العام واللذَين يخصّان المتخلّفين عن الخدمة العسكريّة.

 

دأب بعدها النظام على طلبات الاحتياط تزامناً مع مراسيم العفو[i] [1] للحضّ على الالتحاق، حتى بات جميع الشبّان إمّا عسكريّين أو متخلّفين عن الخدمة العسكريّة، وتزايدت أعداد المتخلّفين عن الالتحاق لتصل لقرابة المئة ألف شابّ في الساحل السوري وحده، حيث تختلف المصادر المصدّرة لهذه الأرقام التي تسجّل تضارباً كبيراً، إلّا أنّ تقديرات عسكريين عاملين في شُعَب التجنيد تؤكّد أن هذا الرقم معقول جدّاً قبل مرسوم العفو الخاصّ بالمتخلّفين عن الجيش نهاية عام 2018.

 

آخر مراسيم العفو كانت في تشرين 2018، /جاء بعد تسريح الدورة 101 مجنّدين ودورة ضبّاط مجنّدين أو ما تبقّى منهم كما عبّر الكثيرون/،  أعفى رأس النظام جميع المتخلّفين عن الجيش والفارّين من الخدمة ومن القطع العسكريّة، حيث حظي هذا المرسوم باهتمام معظم المتخلّفين عن الخدمة الإلزاميّة ، كما أنّه أعفى المتخلّفين عن الاستدعاء للخدمة الاحتياطيّة، لكن ماهي إلا شهور قليلة حتى بدأ النظام بإعادة استدعاء الشبّان للخدمة الاحتياطيّة، حيث تمّ استدعاء جميع المُعفي عنهم في المرسوم السابق، وأيضاً قام العديد منهم بالالتحاق هذه المرّة؛ لتنامي الشعور العام بانتصار النظام وانتهاء الحرب، وتوافد الكثير من المتخلّفين للالتحاق بقطعاتهم، وبدأ احتياط عام 2012 يتفاءل بقرب تسريحهم من الجيش وعودتهم لحياتهم الطبيعيّة، لكنّ قرار التسريح الذي صدر بداية شهر شباط الفائت عكس تخبّطاً واضحاً في هيئات النظام العسكريّة، حيث قام النظام بتسريح كل من هم من مواليد عام 1981 وما دون بشكل عشوائي وبغضّ النظر عن مدّة الخدمة أو عن الالتحاق بالخدمة الاحتياطيّة، ممّا خلق حالة تظلّم واسعة خاصّة عند أولئك الذين تجاوزت سني خٍدمتهم الاحتياطيّة سبع سنوات، ومواليد عام 1982، دورات المجنّدين الإلزاميين 102 وما بعدها (يفصل كل دورة عمّا قبلها 6 شهور فقط)، تقدّر أعداد المسرّحين بالعشرين ألف احتياطي، ومن المرجّح "حسب تسريبات" أن تتوالى عمليات التسريح الجماعيّة في الأشهر القليلة القادمة.

 

الأوضاع النفسيّة للمُسرّحين من العسكرة وجبهات القتال

 

الطبيب والمحلّل النفسيّ (حسام. م.) في مقابلة معه حول ملفّ المسرّحين من الجيش، قسّمهم إلى ثلاثة أقسام:

 

القسم الأول: وهم الشبّان الذين قضَوا سنوات خدمتهم في الثكنات العسكريّة أو على حواجز أمنيّة بعيداً عن جبهات القتال.

 

القسم الثاني: أولئك الذين خاضوا معارك طويلة، وتعرّضوا لمخاطر شديدة، وقاموا بأعمال عنيفة مع أعدائهم منها القتل.

 

القسم الثالث: يتفرّعون عن القسم الثاني، وهم أولئك الذين تعرّضوا لإصابة متوسّطة أو خطيرة أو حالات بَتْر أطراف أو فقدان أعضاء أدّت لنِسَب عجز مختلفة ملازمة لهم مدى الحياة.

 

يقول الطبيب (حسام. م.): إن نسبة الأذى النفسيّ المتوقّع أو ما يعرف اصطلاحاً ب "الصدمة ما بعد الشدّة"، ترتفع من القسم الأول صعوداً نحو القسم الثاني فالثالث، إذ يعاني المسرّحون الذين تنطبق عليهم مواصفات القسم الأول من حالات فقدان الثقة بالنفس، واختلال التوازن النفسيّ الأوّلي الناجم قضاء فترات طويلة ضمن بيئات غير صحّيّة، يشعر من خلالها المرء بأنّه مجرّد أداة تتحرّك بأمر من مرؤوسيه، ويضيف إن مثل هذه الحالات لا تُصنّف كذهانات مرضيّة يجب علاجها، بل تندرج ضمن الأذيّات النفسيّة البسيطة، ومن النادر جداً أن تتفاقم لسويّة العُصَاب أو الذهان.

 

يتابع الطبيب (حسام. م.): في القسمين التاليين يصبح هذا النادر مرجّحاً، وبالتالي فإنهم بحاجة ماسّة للمعايدة النفسيّة والدعم المجتمعيّ، للتخلّص من شعور انعدام الثقة بالنفس وانسداد الأفق، وفقدان الحسّ العام بالأمان.

 

كما شدّد الطبيب (حسام .م) على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حالات الإدمان على المخدّرات والكحول والتي انتشرت في أوساط الجيش والميليشيات، والتي تفرز ظواهر نفسيّة اجتماعيّة تحتاج لمعالجة كيميائيّة ـ تحليليّة ـ مجتمعيّة، في أغلب الأحيان.

 

وعن سؤالنا عن مدى توافر الإمكانيات لتوفير مثل هذه العلاجات يجيب: لا يوجد لدينا مراكز لمعالجة الإدمان، كما تندر عيادات التحليل النفسي، مقابل انتشار عيادات الطبّ النفسيّ التي تعتمد على العلاج الدوائي الذي لا يفي بالغرض وحده أغلب الأحيان، كما أنّ منظمات المجتمع المدني، والتي تُعنى بالدعم النفسي هاوية وفاسدة، لا ترغي ولا تزبد، ولمعالجة هذه المشاكل علينا العمل جميعاً بجديّة أكثر.

 

وفي لقاء معه شدّد الناشط في منظمات المجتمع المدني (م.ع.) على ضرورة العمل على الجانب النفسي لهؤلاء المسرّحين، كما أكّد خلوّ منظمات المجتمع المدني من هذا النوع من العمل، ويرجع ذلك لسببين هما :

 

 1- مازالت نشاطات المنظمات بعيدة كل البعد عن نشاط الدعم النفسيّ الفعليّ، إذ تأخذ نشاطات الدعم النفسي منحىً اقتصاديّاً أغلب الأحيان، من تأمين مدرّسين للتعليم وملابس وغذاء ودواء ضمن عناوين عريضة للعمل مثل (دعم الطفل - تمكين المرأة ..إلخ)

 

 2- هناك منظمات تُعنى بجرحى الجيش من الناحية الصحّيّة، ومن الناحية الماديّة، إذ يتمحور العقل المدني لدعم الجيش حول المسائل الاقتصاديّة، وماتزال ثقافة الطبّ النفسي والاجتماعي بعيدة عن سلّم الأولويّات لجميع المنظمات.

 

يُذكر أن (م.ع.) ناشط في منظمات المجتمع المدني منذ عام 2012 وإلى الآن، وقد كانت له تجارب مع معظم المنظمات التي تنشط في الساحل السوري.

 

المسرّحون ينقلون منطق الجيش إلى المدن

 

جرت في الآونة الأخيرة الكثير من الأحداث التي تُنبِئ بمشكلة وشيكة ستواجه المجتمع السوري، تتعلّق بسحب العسكرة للحياة المدنيّة، والتي تعمّد النظام في كثير من الظواهر السابقة غرزها في بنية المجتمع السوري، بدءاً من تنظيم دعوات الاحتياط وانتهاءً بنشوء الميليشيات ذات المميّزات الكبيرة في هيئات النظام، إذ يحظى هؤلاء بمعاملة خاصّة في الدوائر الحكوميّة، وفي منافذ الخدمات التموينيّة، هذا ما شكّل ظاهرة ترخي بأبعادها على المجتمع المدني، إضافةً لمظاهر حمل السلاح واقتنائه، والذي انتشر بكثرة وبدعم من النظام بعد موجة الاحتجاجات الشعبيّة، بهدف عسكرة المجتمع ككلّ، ومن بين هذه الظواهر انتشرت ظاهرة استخدام السلاح لحلّ المشاكل الاجتماعيّة على يد عسكريين مسرّحين[ii] [2]، أو مقاتلين سابقين في إحدى الميليشيات، وأشهرها تلك التي حدثت منذ قرابة الشهرين عندما أقدم مجنّد سابق في جيش النظام على إطلاق الرصاص على فتاة رفضت الارتباط به، ومن ثم قام بالانتحار بنفس السلاح، سبقتها ما يشبه حادثة القتل الجماعيّ في قرية صغيرة قرب مدينة بانياس راح ضحيّتها خمس شبّان في حادثة إطلاق نار متبادلة على خلفيّة خلاف حول مسائل عائليّة.

 

 

كما انتشرت ظواهر تتعلّق بالسطو المسلح والمنظّم والتي تضمّنت غالباً عمليات قتل متعمّد، من عصابات محلّيّة تمتهن السرقة بعد نضوب مصادر التعفيش/سرقة الأحياء المنتفضة في وجه النظام/ التي كانت تدرّ عليهم الكثير من الأموال.

 

ومن الجدير بالذكر فإن أغلب ردّات الفعل من الأهالي تتمحور حول غياب الثقة في مستقبل البلاد وغياب الثقة في شكل النظام والدولة بعد انتهاء الحرب، ولسان حالهم يقول (الحرب الحقيقيّة لم تبدأ بعد، داعش تغلغلت فينا وأصبحت منّا) على حدّ تعبير العديد من الأهالي، مشيرين للأخطار الكبيرة التي تنتظرهم جرّاء فوضى السلاح العارمة، وفي هذا الشأن يقول الأستاذ (م, ش.) الأخصائي بعلم الاجتماع: ( البيئة الخاصّة بالجيش والقوات الأمنيّة غير صحّيّة، وتسبّب الكثير من الأزمات الاجتماعيّة، إذ تبدأ المشاكل بالاختلاط الأحاديّ الجانب (ذكور فقط)، وتنتهي بالقلق الوجودي، وقلق المصير الذي لا يفارق الكثير من العاملين في هذه البيئات، هذه الأزمات سينقلها الشبّان معهم بعد تسريحهم؛ إذ إن الفجوة الحاصلة في بنيتهم النفسانيّة- الاجتماعيّة الخاصة بالتواصل، وبنية العلاقات الاجتماعيّة سترخي بظلالها على علاقاتهم ما بعد التسريح.

 

المشاكل الماديّة والاجتماعيّة التي تقف في طريق المسرّحين من الجيش

 

يعيش المجتمع السوري في حالة من الفقر المدقع، ما يجعل الحياة قاسية والعمل لا يمكن أن يقدّم سوى كفاف العيش، وقد تفشل الكثير من الوظائف والأشغال في تأمين الحاجيّات الأساسيّة أغلب الأوقات، هذا يتراكب مع أزمة طاقة معقّدة تجعل من اندفاع العجلة الاقتصاديّة أمراً يشبه المستحيل، بالأخصّ بعد تركيز النظام مداخيله على الضرائب ومضاعفتها ليزيد الأمر سوءاً على الأهالي.

 

يخرج المسرّحون من الجيش الآن مدانين لذويهم بالمال أو بدون أي رصيد مادي، بعد سنوات قضوها بعيداً عن مناخاتهم الدراسيّة والعمليّة، باستثناء بعض العناصر الانتهازيّة التي استغلّت الوضع للتربّح من السرقات والحواجز الأمنيّة، وأغلب هؤلاء لم يخرجوا بمبالغ ضخمة، بل تحصّلوا على ما يشبه البحبوحة في فترات متقطّعة من خدمتهم العسكريّة، في حين تركّزت الثروات السوداء في أيدي حفنة قليلة من الضبّاط ورجال الأعمال المقرّبين من النظام، وبالعودة للمسرّحين الذين سيواجهون الحياة بدون أسلحة تقريباً، وبدون أدوات تعينهم على تحمّل أعبائهم المستقبليّة، بما في ذلك تأمين المسكن والزواج، إذ تبدأ المشكلة بطبيعة الوضع الاقتصادي والمعيشي الراهن، وتنتهي بفقدان هؤلاء الشباب لروح الاندفاع والرغبة في بناء المستقبل وفقدان أصالة العمل كحافز للأفراد نتيجة فترات طويلة قضوها بلا(عمل) بالمفهوم الإنساني للعمل.

 

يقول (جابر. س.): من عناصر الدورة 101، ذهبت للجيش بعد نيل شهادتي الثانويّة وقضيت هناك عشر سنوات متضمّنة فترة خدمتي الإلزاميّة والاحتياطيّة التي قاربت ثماني سنوات، لم يعد بإمكاني الآن التفكير بإتمام دراستي الجامعيّة أو حتى تعلّم مهنةٍ ما، فكلّ هذا سيأخذ مني المزيد من السنين والمزيد من الأعباء على أهلي الذين أُنهِكوا في سنوات الحرب هذه.

 

أيضاً (هاني .ك.) الاحتياطي منذ أربع سنوات، كان يعمل في مهن الإكساء السكنيّ، يقول: أنا متزوّج ولديّ ثلاثة أطفال، منذ أربع سنوات كان طفلي الصغير مازال رضيعاً، وكنت بالكاد أستطيع تأمين قوت يومنا، بعد أن اعتقلني حاجز للنظام وأجبرني على الالتحاق بالخدمة الاحتياطيّة، بدأت الديون تتراكم عليّ، فراتبي الذي أتقاضاه من الجيش بالكاد يكفي أجرة مواصلات وبعض مصاريفي الشخصيّة، أمّا عائلتي، زوجتي وأطفالي، فقد كانوا يتنقّلون بين بيت أهلي وبيت حماي، وكنّا نستعين على الاستدانة للاستجابة لمصاريف الصحّة وعلب الحليب لأولادي، لم يعش أولادي بتوازن عائليّ، ولم يستطع ابني الأكبر أن يلعب مع الأولاد لفترات طويلة، والآن أواجه مصاعب تأسيس بيت من جديد بعد أن فقدت عملي ومعظم زبائني.

 

خاتمة:

 

ماتزال مشكلة العسكرة إحدى أكبر المصائب على جيل الشباب وعلى المجتمع، إذ إن الكثير من الشبّان الذين نجَوا من الموت، قضوا جلّ سنيّ شبابهم مكبّلين بهذه الخدمة، يعانون الكثير من الأزمات، عدا أشكال العسكرة غير المباشرة والعسكرة العامّة لكل هيئات الدولة التي ماتزال ترتبط بأفرع الأمن بشكل جذريّ.

 

وفي ظل استحالة انقلاب الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة بشكل كبير في الفترات القادمة، بعد سنوات من تثبيت معطيات على الأرض لا تُنبئ بقرب حدوث أي انفراج، بل تعكس المزيد من حالات الفوضى الأمنيّة والفقر الشديد، يبقى جيل الشباب هو الهدف الأول لنظام الأمر الواقع، لتحييدهم عن سكّة الحياة الأصيلة، وتحويلهم لأدوات مرنة جلّ ما تسعى إليه، حياة بأبسط شروط العيش الإنساني التي قلّما طالها أحد في أيامنا هذه.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard