info@suwar-magazine.org

تكاليف الزّواج في زمن الحرب تثقل كاهل الشّباب

تكاليف الزّواج في زمن الحرب تثقل كاهل الشّباب
Whatsapp
Facebook Share

 

 

المكمورات وإجراءات "اللابعزقة" والمبادرات كلّها حلولٌ غير كافيةٍ

"اللي ما معه مصاري لازم ما يفكر يتزوج بحياته"

 

 

تنويه: تمّ إنجاز التحقيق في شهر آذار الفائت  

 

بعد اثني عشر عاماً من الحبّ والانتظار، عندما بدأ يامن وسالي يفكران جدّيّاً بالزّواج حسب شروط المنظومة الدّينيّة والتّقاليد، يدور بينهما الحوار التّالي، "شو رأيك نلغي العرس، ونروح مع أهلي وأهلك بتياب عادية، ونكلل بالكنيسة بلا كلّ هالمصاريف؟"

 

لم يسأل يامن (30 سنةً)، وهو يبيع موادّ البقالة في سوبرماركت بريف دمشق، سؤاله بدافع البخل أو التّهرب من وعده بأن يحقّق لحبيبته كلّ ما كانت تخطّط لفعله في "ليلة العمر"، بل لأنّ التّكاليف أصبحت "نار وشاعلة" بعد عشر سنواتٍ من الحرب، ولأنّ ليلةً كهذه تمتد من الصّباح لتحضير العروس والعريس، وصولاً إلى وقت الزّفاف، وانتهاءً بالحفلة، باتت تكلّف "على الضّيّق وبدون أوفرا" حسب تقديرات الشّبّان الّذين شاركوا في هذا التّحقيق، خمسة ملايين ليرةٍ سوريةٍ، وهو ما يعادل خمسة آلاف دولارٍ أمريكيٍّ أو يزيد، بحسب سعر صرف الدّولار المتقلّب.

 

ربما يكون المبلغ غير معتبرٍ بالنّسبة إلى شابٍّ من إحدى الدّول العربيّة، حيث الدّخل الشّهريّ يتناسب مع قيمة المصاريف، ولا يمكن اعتباره مبلغاً يوضع في الحسبان بالنّسبة إلى شابٍّ سوريٍّ من طبقةٍ غنيّةٍ، لكنه يشكّل لسوريٍّ آخر من الطّبقة المتوسطة وما دون رقماً صعب المنال، يستلزم جمعه عشر سنواتٍ من العمل المتواصل، يقتطعه من راتبه الشّهريّ الّذي يتراوح بين الأربعين والسّتين ألف ليرةٍ سوريّةٍ.

 

تنطبق هذه التّكاليف على تحضيرات الخِطبة والزّفاف من مختلف الطّوائف أو الدّيانات. تقاليد الأعراس بين الإسلام والمسيحيّة متقاربةٌ، يُزاد عليها رتوشات خاصّةٍ لكلٍّ منهما. تبدأ بالطّلبة، ثم الخِطبة، تلي ذلك مرحلة الاستعداد لتجهيز منزل العروسين، وشراء ملبوس البدن أو ما يُعرف عند البعض بـ "الجهاز"، ودعوة الضّيوف، ويوم الزّفاف، ويكون ختامها بحفلة غناءٍ ورقصٍ مسائيّةٍ.

 

ابتدع جيل الشّباب الحالي تعديلاتٍ، مثل أن يُفاجِئ الشّريك شريكته بالـ "بروبوزال"، وهي المفردة الإنجليزيّة الّتي حلّت في قاموس المفردات العاميّة محلّ نظيرتها العربيّة "الطّلبة"، ويطلب يدها أمام جمعٍ من الأصدقاء، دون أيّ حضورٍ يُذكر للأهل، وأخرى تتمثّل بالتّخلي عن بعض ممّا كان سائداً من الطّقوس المتعارف عليها بدافع أنّها أصبحت باليةً ولا تناسب العصر، مثل التّخلي عن عادة لصق العجينة الّتي كانت تلصقها العروس فوق باب بيت الزّوجيّة فور وصولها إليه.

 

ومن النّاحية القانونيّة والشّرعيّة يُنظِّم قانون الأحوال الشّخصيّة السّوريّ الصّادر عام 1953 قضايا الأسرة من زواجٍ وطلاقٍ وميراثٍ وحضانةٍ، وهو يُطبّق على كلّ السّوريّين مانحاً استقلاليّةً في بنود المادتين 307 و308 المتعلّقتين بالمسيحيين والدّروز واليهود.

 

 

استطلاعاتٌ عن الواقع

 

أدّى غلاء أسعار الحاجات الأساسيّة وغير الأساسيّة الّتي اتّسم مؤشرها في العشر سنوات الماضية بعدم الاستقرار والصّعود الدّائم، إلى أن تتراوح تَكلُفة معيشة الأسرة السّوريّة المكوّنة من خمسة أشخاصٍ في الشّهر الواحد إلى 400 ألف ليرةٍ لهذا العام، وهو ما سجّل انعكاساً واضحاً على إقبال الفتيات والشّبّان على الزّواج الّذي يُعتبر المنفذ الوحيد المتاح للارتباط وعيش حياة المشاركة.

 

شاهد الفيديو⇓

عزوف الشباب عن الزواج بسبب الوضع الاقتصادي

 

لوحظ من خلال المقابلات التي أجرتها معدة التحقيق بشكل عشوائي في مدينة دمشق مع أحد عشر شاباً، لكونهم يتحملون، في غالبية الأحيان، العبء المادي الأكبر من تكاليف الزواج والمعيشة، أن تسعة منهم يستبعدون الزواج لعدم توفر الإمكانيات المادية، فيما يؤجل اثنان منهم الإقدام عليه لعدم رغبتهما بالارتباط في الوقت الحالي، أو لحين العثور على الشريكة المناسبة، ورُصِدَت حالتان لشابين استمرت فترة خطبتهما لسنوات، لكن استحالة تحسن أوضاعهما المادية جعل مصيرهما الفراق.

 

في استطلاعٍ للرأي أجرته معدّة التّحقيق في إحدى المجموعات المتخصّصة على الفيسبوك، وُجِّهت للمشاركات السّؤال التّالي: "في حال كنتِ معجبةً بشخصٍ أو مخطوبةً له وتنويان الزّواج، لكن الأحوال الماديّة لا تساعده كثيراً، هل يمكنكِ الاستغناء عن بعض مظاهر الزّفاف؟ في حال أجبتِ بنعم أرجو ذكر ما الّذي يمكنكِ الاستغناء عنه".

 

أبدت 47 فتاةً من أصل 54 من المشاركات في الاستطلاع، تراوحت أعمارهن بين الـ 20 والـ 35، استعدادهن التّخلي عن الزّفاف كلّه، أو عن بعض نفقاته، مثل الذّهب، أو الاكتفاء بحفلةٍ صغيرةٍ في المنزل، مُنطلِقات من فكرة أنّ "العرس والفشخرة صارت مكلفة كتير"، وأنه "شو ما عملنا رح يحكوا النّاس علينا"، وكلّ ذلك في سبيل لحظة "حبّ صادقة، والارتباط بشب أخلاقه عالية"، من أجل تأسيس الأسرة الّتي تُعتبر ركيزةً أساسيّةً في المجتمع السّوريّ، وتمنحهن الاستقرار النّفسيّ والعاطفيّ. فيما عبّرت 7 منهنّ عن عدم ميلهنّ للتخلي عن حياة الرّفاهية والغنى، لأن "المصاري أهمّ شي بالدّنيا".

 

 

غربلةٌ شاملةٌ للنفقات

 

بدأت سالي منذ عامين بتوفير النّفقات. ولأن أصولها من الشّام، وخطيبها من السّويداء، جرت العادة لديهما مجيء "جاهةٍ"، وهي تعتبرها عزّاً للفتاة، وتتضمّن مجموعةً من كبار عائلة أهل العريس، لطلب يدها من والديها، ويُفترض في ليلة كهذه أن يُقدّم فيها عشاءٌ "ببيض الوجه"، وحلوياتٌ عربيّةٌ حصراً، بيدَ أن تكلفة العشاء الّتي تصل إلى 200 ألف ليرةٍ سوريّةٍ، جعلت الاستغناء عن الجاهة أمراً واقعيّاً.  

 

عند الاستعداد للخطبة الّتي تُعتبر رابطاً إلزاميّاً عائليّاً واجتماعيّاً لكنه غير قانونيٍّ، كانت سالي تخطّط لإقامة حفلة "طويلة عريضة"، لأنها ترغب أن "يكون كل شيء كامل مكمل"، إلا أنّ التّكلفة الّتي تتحملها عائلة العروس حسب التّقاليد السّوريّة، جاوزت على حّد قولها 250 ألف ليرةٍ سوريّةٍ. تضمّ حجز صالة كنيسةٍ تتسع لمئة شخصٍ من الضّيوف، وبوفيهٍ مفتوحٍ يشمل على المشروبات وبعض المخبوزات من زعترٍ ومحمّرةٍ، لكنها فضّلتْ عوضاً عن ذلك تناول العشاء برفقة أهلها وأهل الخطيب فقط في واحدٍ من مطاعم دمشق القديمة تقليصاً للمصاريف.

 

عُقد الإكليل في كنيسة الصّليب في حيّ القصاع في السّادس من حزيران 2020. كانت سالي مُصرّةً في البداية ألّا تدخل بيتها الزّوجي المُستأجر وفيه أثاثٌ قديمٌ مستعملٌ، إلّا أنّها اضُطرّت بعد أن بدأ الدّولار في صيف العام الماضي يسجّل ارتفاعاً تدريجياً من 500 ليرةٍ سوريّةٍ وصولاً إلى ما يزيد عن الألف، أن تبدأ بالبحث عن "طقم كنبايات" مستعملٍ، لا يتجاوز سعره 200 ألف ليرةٍ، وبدلاً من أن تشتري ثياباً عرائسيّةً، من قمصان نومٍ ساتان وشيفون، وبيجامات مطرّزةٍ بالدّانتيل، اكتفت بشراء بعض القطع الّتي تصلح للاستعمال اليوميّ الاعتيادي.

 

لتوضح خيبة الأمل الّتي شعرت بها تقول: "أنا كتير حزت بنفسي أنو ما قدرت أعمل الشي اللي بدي ياه. يعني حتّى فرد جهاز ما عملت، لأن ما جبت شي أتباهى فيه قدام النّاس. وشهر العسل اللي كنا عم نفكر نعملو برات سوريا، هلأ صار يومين تلاتة بـ "كسب"، حتّى سهرة العرس لغيتا لأن بتكلف مليون ليرة وعلى الضّيّق كمان"

 

أسعارٌ كاويةٌ ومبادراتٌ

 

في زيارة مُعدّة التّحقيق إلى واحدٍ من محلّات الذّهب في سوق الصّاغة في البزورية، لإجراء مقابلةٍ مع صاحب المحلّ، تدخل امرأةٌ في نهاية الثّلاثينيّات من عمرها برفقة شابٍّ أسمر يصغرها بالعمر، تَعرِض على أبو أدونيس، صاحب المحل، بيع إسوار من مجموعة الأساور السّت الّتي اشترتها عام 2013 "أيام ما كان غرام الذّهب بـ 6000 ليرة"، والسّبب في ذلك أنها تريد أن تساعد الشّابّ اّلذي تبّين أنّه شقيقها في إتمام زواجه من فتاةٍ خطبها منذ سنتين.

 

خلال ساعةٍ من المقابلة لم يدخل أحدٌ لشراء قطعة ذهبٍ، وهذا الحال لم يعدّ نادراً، لأن ارتفاع سعره إلى 48 ألف ليرةٍ للغرام الواحد عيار 21، و41 ألف ليرةٍ سعر عيار 18، يُعد عاملاً أساسيّاً في ابتعاد المقبلين على الزّواج عن شراء الذّهب. يؤكّد أبو أدونيس على ذلك بقوله: "صرنا عم نشتغل بشراية الذّهب المستعمل أكتر من البيع. ما حدا عم يشتري إلا المضطرّ. وشو بيشتروا يا حزرك؟ محبس بس. يعني يا دوب عم نبيع محبس أو خاتم واحد باليوم".

 

بعودةٍ إلى الماضي الّذي يسبق عشر سنواتٍ من الآن، عندما كان الدّولار يساوي47 ليرةٍ سوريّةٍ، وسعر غرام الذّهب عيار 18 قد سجّل ارتفاعاً حينها إلى 1200 ليرةٍ، كان باستطاعة شابٍّ من طبقةٍ متوسطةٍ أن يشتري لخطيبته حوالي 150 غراماً من الذّهب، بسعرٍ لن يتجاوز 200 ألف ليرةٍ، أما في الوقت الحالي يصبح سعر هذه الكمية 6 ملايين و600 ألف ليرةٍ.

 

 

طرأ التّغيير على الموديلات أيضاً. لم تعدّ الأساور الفنّيّة المرصّعة بالأحجار، والمنقوشة بنقشاتٍ متعدّدةٍ، والمرفقة بخاتمٍ من نفس التّصميم، والعقود العريضة ذات الحلقات المترابطة، مطروحةً على قائمة مشتريات الرّاغبين بالارتباط، وحلّ مكانها ما يسميه الصّيّاغ بـ "طقم الفرفشة"، لا يتعدّى وزنه كاملاً 15 غرام، عيار 18، يصل ثمنه إلى 600 ألف ليرةٍ، ويتألّف من عقدٍ خفيفٍ يتدلّى منه "فرفشات" على شكل قلبٍ أو فراشةٍ، ويرافقه خاتمٌ على الأغلب، وإسوارٌ مع حلقٍ في حال سمحت حالة العريس الماديّة بذلك.

 

بالعودة إلى الاستطلاع الّذي أجرته معدّة التّحقيق، وجّهت فيه سؤالاً للمشاركات عن إمكانية الاستغناء عن الذّهب نظراً لسعره المرتفع، أبدت 37 من أصل 45 اكتفاءهنّ بالمحبس من أجل إتمام عقد الزّواج، فيما رفضت 4 الاستغناء عمّا يُعتبر حقّ لهنّ، واشترطت 3 شراء قطعةٍ خفيفةٍ أخرى مع المحبس، وأبدت فتاةٌ واحدةٌ ندمها على ما قدمته من تنازلاتٍ بعد انفصالها عن خطيبها.

 

 

ما لا يمكن الاستغناء عنه هو الاستقلاليّة في المنزل حتّى لو كان مستأجراً. تصل تكلفة تجهيز منزلٍ لا تتعدّى مساحته ستين متراً، يتألّف من غرفتين ومطبخٍ وحمامٍ إلى مليونين ونصف مليون ليرةٍ، والتّجهيزات عاديةٌ ليس فيها "فخفخة". لن يكون خشب غرفة النّوم من السّنديان، والمعدّات الكهربائيّة ليست من ماركة "إل جي"، حيث سعر براد سعة 24 قدماً يصل إلى مليون ليرةٍ، وسعر غسالة سعة 7 كيلو غرام 430 ألف ليرةٍ.

 

لحلّ هذه الأزمة الّتي أدّت إلى عزوف كثيرٍ من الشّبّان عن التّفكير بالزّواج، تظهر بين الحين والآخر مبادراتٌ لا تؤدّي إلى حلولٍ جذرية للجميع، منها المبادرة الّتي تبنّتها بطريركية السّريان الأرثوذكس في حلب مطلع العام الحالي للتشجيع على الزّواج. اقتصرت على أبناء الطّائفة السّريانيّة، وشملت تغطية أجرة المنزل لعامٍ واحدٍ، ومصاريف الولادات، ومستلزمات الأطفال في العام الأول من حياتهم، وتعليمهم في مدارس الطّائفة بحلب مجاناً في سنوات المرحلة الابتدائيّة، يُضاف إلى ذلك مبلغ مليون ليرةٍ سوريّةٍ.

 

عملٌ متواصلٌ ومكموراتٌ

 

من لا تشمله هذه المبادرات، يقع أمام خيار الانتظار حتّى تتحسّن الأحوال، أو الانفصال، أو العمل ليل نهار. فضّلت رشا وخطيبها أحمد الخيار الأخير، وكلاهما يبلغان من العمر (24 سنة). تقول رشا "أنا وأحمد تعبنا كتير لوصلنا ليوم الخطبة. أنا بشتغل بمحل تياب، ودوامي كان من التسعة الصّبح للتمانة المسا، وراتبي 40 ألف، بس بعدين قررت أعمل دوامي للـ 11 بالليل كرمال يصير راتبي 65 ألف".

 

تعرض الحبيبان للحرمان منذ بداية تعارفهما عام 2016، وللتكيّف معه اعتمدا سلسلةً من الإجراءات، كانت الغاية منها تجميع المال تمهيداً للخطبة والزّواج، وتمثّلت بالعديد من اللاءات عنوانها "لا للبعزقة". لا لتناول وجبة طعامٍ في أيّ مطعمٍ كان، لا لصرف النّقود على شراء الملابس والرّفاهيات، لا لتدخين أكثر من علبة سجائر واحدةٍ بعد أن ارتفع ثمنها إلى 800 ليرةٍ.

 

تخلّل فترة الإعداد للخطبة وما بعدها شراء ما يقارب عشرين مكمورةٍ بلاستيكيّةٍ وحديديّةٍ لتحفظ فيها رشا الجزء الأكبر من راتبها الشّهريّ، مكتفية بوضع بضعة آلافٍ فقط في حقيبتها مصروفاً لأجرة الطّريق، إضافةً إلى المشاركة في عددٍ لا يُحصى من الجمعيات، وهي اتّفاقٌ بين مجموعةٍ من الأشخاص، يُلزمهم بدفع مبلغٍ معيّنٍ في كلّ شهرٍ، ويقبض المجموع شخصٌ واحدٌ في كلّ مرّةٍ.

 

لتخفيف العبء عنهما قبل مجيء موعد الزّفاف في الصّيف المقبل، أقنعت رشا خطيبها بالتّطوع في الجيش الحكوميّ ليحظى براتب 75 ألف ليرةٍ، ويحصل على سكنٍ عسكريٍّ في دمشق. إنها لا تؤيّد فكرة دفع ما لا يقلّ عن مئة ألف ليرةٍ أجرة منزلٍ شهريّةٍ لأنّه مبلغٌ "بيكسر الضهر"، وتدرك جيداً أن شراء بيتٍ في الضّواحي لن يكون بسعرٍ يقلّ عن 15 مليون ليرةٍ، وهذا الأمر قد لا يكون تحقيقه متاحاً.

 

شاهد فيديو:⇓

 

كيف أصبح الإقبال على الزواج؟ شاهد آراء الشباب

 

حلولٌ بديلةٌ

 

أثناء العمل على استطلاعات الرّأي بين الشّبّان في شوارع مدينة دمشق، اقترح ثلاثة منهم، في الخامسة والعشرين من عمرهم، ومن طلاب كلية المعلوماتيّة، كانوا جالسين على مقعدٍ في حديقة السّبكي، المساكنة كحلٍّ عمليٍّ ومُنقذٍ من "المعمعة" الماديّة الّتي يورّط الشّبّان والفتيات أنفسهم فيها، ويعفيهم من السّعي لإتمام مظاهر الأعراس المملّة والمثيرة للضحك حسب وصفهم.

تُعرّف أنها اتّفاقٌ بين شخصين يعيشان سويّاً من دون زواجٍ، على أساس ارتباطٍ رومانسيٍّ أو جنسيٍّ حميميٍّ، يستمرّ لفترةٍ طويلةٍ أو مؤقتةٍ، وهي مظهرٌ غربيٌّ بحتٌ، لكنه لم يحتل حيّزاً من اهتمام المجتمع السّوريّ سواءً بالقبول أو الرّفض القاطع إلا في السّنوات القليلة الماضية.

 

 

لا تتطلّب سوى استئجار غرفةٍ صغيرةٍ، وتعفي الطّرفين من سنوات الّتأجيل والانتظار، والسّعي لتأمين تكاليف الزّواج. وعلى الرّغم من أن توقيع عقدٍ بين طرفين شريكين بالمساكنة يمكن إتمامه لدى محامٍ للحفاظ على حقوقهما كاملةٍ، إلّا أنّ الحالات الّتي تتّخذ هذا النّمط من الارتباط في سورية تبقى في معظمها غير مُعلنة.

 

يؤيّد رضوان، (24 سنةً)، وهو من حلب ويقيم في دمشق، المساكنة حلّاً لوضع شابٍّ مثله. يدرس رضوان في المعهد المصرفيّ، ويعمل في محلٍّ لبيع الألبسة النّسائيّة، بمعدل عشر ساعاتٍ يومياً، ويتقاضى مبلغ 60 ألف ليرةٍ شهريّاً. تربطه علاقةٌ بفتاةٍ منذ ثلاث سنواتٍ، لكنها لا تستطيع أن توافقه على المساكنة. يقول رضوان "أنا كتير متقبل فكرة المساكنة بس المشكلة دائماً بالمجتمع، والأهل ما بيرحموا. وصدقيني مو مستبعد فكرة أنو تنتهي علاقتنا لأن الضّغط اللي عم نعيشوا كتير كبير، ولو قد ما انتظرنا، ما لي شايف في حلّ لوضعي حتّى بعد عشر سنين"

 

 رأيٌ مخالفٌ

 

يرى محمّدٌ (27 سنةً) من مدينة حماه، ويسكن في دمشق، أن تجربته الشّخصيّة لا تختلف كثيراً عن كونها مساكنة.

منذ أربعة أشهرٍ، أرسلت إليه لينا طلب صداقةٍ عبر الفيسبوك، وتعرّفا إلى بعضهما مدّة شهرٍ، ثمّ قررا الزّواج. وبما أنّ محمّداً لا يملك من المال سوى ما يجنيه من عمله المتقطع في جلي الأرضيات، رضيت لينا أن تعيش معه من دون أن تكلّفه ليرةٍ واحدةٍ على الإطلاق، واستطاعت بعد جدالٍ طويلٍ مع أهلها أن تقنعهم بما تريد.

 

تصف لينا موقف أهلها بقولها: "هلق أكيد أهلي ما اقتنعوا دغري، وهنن معترضين أكتر شي لأن ما معو مصاري، بس متل ما بتعرفي الوقت تغيّر، والبنت صارت تقدر تختار الشّب اللي بناسبا، يعني أنا ما كنت رح أقبل أنو أمي أو عمتي يختاروا عني متل أيام زمان". وعلى هذا الأساس استأجرا غرفة قبوٍ، تحتوي على مطبخٍ وحمامٍ صغيرين في منطقة التّضامن بسعر 50 ألف ليرةٍ في الشّهر، وذهبا إلى المحكمة لإتمام عقد الزّواج كي يتجنبا "القيل والقال".

 

أدرك محمّدٌ بعد أيامٍ من زواجه أنّه أوقع نفسه في ورطةٍ كبيرةٍ. فالزّواج الّذي كانت تكلفته صفراً، ويشكّل الإطار الوحيد الّذي يمكن من خلاله ممارسة الجنس بما يرضي الدّين والمجتمع، أوصله إلى مرحلةٍ يستدين فيها ثمن فواتير الكهرباء والاتصالات. "من أول ما أجت السّنة الجديدة، وشغلي شبه واقف، واللي مخليني ما أعرف نام أنو زادت مسؤوليتي والمصاريف، بعد ما كنت بحالي وبقدر دبر راسي. باختصار شديد اللي ما معه مصاري لازم ما يفكر يتزوج بحياته. إذا هالشّهر قدرنا نجيب حقّ أكل، الشّهر اللي بعده يمكن ما ناكل".

 

جذورٌ ماضيةٌ

 

لإيضاح عدم فاعلية الحلول المجتزأة من المشكلة الأساسيّة الّتي تحمل طابعاً اقتصاديّاً بالدّرجة الأولى، تفاقمت خلال سنوات الحرب، وأدّت إلى خللٍ على المستوى الاجتماعيّ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ معدل مشاركة اليد العاملة السّوريّة انخفض إلى 40.8 حسب تقريرٍ مفصلٍ لـ مركز الإحصاء والمعلومات الاقتصاديّة، نُشر في كانون الأول/ديسمبر 2019، بينما كانت هذه المشاركة أعلى عام 2010 بمعدلٍ قدره 43.046، وهو ما يُعبّر عن واقع ارتفاع نسبة البطالة، وتراجع سوق العمل السّوريّة، الّتي تحتاجها فئة الشّباب من أجل تأمين مستقبلها في الارتباط وغيره.

 

وتشرح دراسةٌ نشرها المركز السّوريّ لبحوث السّياسات بعنوان ‹الأزمة السّوريّة.. الجذور والآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة،  أنّ عوامل الأزمة الحالية الّتي تدهورت إلى نزاعٍ مسلّحٍ داخليٍّ مسبّباً آثاراً مأساويةً على رأس المال البشريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، لم تكن إلا وليدة سياساتٍ سابقةٍ، حقّق فيها الاقتصاد السّوريّ نتائج متضاربة في العقد الأول من عام 2000، فمن جهةٍ كان لها نتائج إيجابيّةٌ على استقرار الأسعار وانخفاض المديونيّة العامّة، لكنها في الوقت نفسه خلقت اختلالاتٍ هيكليةٍ بتوسع القطاع غير المنظّم في التّجارة والسّياحة والخدمات العامّة، واحتكار فئةٍ من رجال الأعمال لبيئة العمل، وترافق ذلك مع إنتاجيّةٍ منخفضةٍ للعمالة، وأجور متدنّيةٍ، وهذا ما جعلها تصل إلى خسائر غير قابلةٍ للاحتمال بالنّسبة إلى الأجيال الحالية والمستقبليّة.

 

كما ذكر تقريرٌ مُصوّرٌ نشرته قناة الجزيرة عام 2010 أن نسبة الإحجام عن الزّواج في سورية وصلت حينها إلى خمسين بالمئة، بسبب الفقر، وعدم توفّر فرص العمل للشباب، وارتفاع تكاليف الزّواج من بينها المهور الّتي كانت تتراوح بين عشرة إلى عشرين ألف دولارٍ.

 

الاختلاف الّذي يمكن ملاحظته الآن هو الفروقات في النِّسَب والأسعار فقط، وقد فاقمته الظّروف الحالية إلى حدٍّ لم يعدّ معقولاً، أدّت إلى أن يعيش أربعةٌ من بين خمسة أشخاصٍ من السّوريّين في الدّاخل تحت خطّ الفقر، حسب إحصائيّةٍ لليونيسف صدرت في آب/أغسطس 2019، وهذا ينعكس بالضّرورة سلباً على الشّباب في تحقيق التّطلّعات والرّغبات بالارتباط والحصول على السّكن، خصوصاً أنّ كلّ شيءٍ في نمط الحياة الاستهلاكيّ يتمحور حول المال، وإمكانية الحصول عليه، وإن كان لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار نِسب استطلاع آراء الفتيات في هذا التّحقيق الّتي أظهرت أن الإصرار على مظاهر الزّفاف لم يعدّ أمراً مُلزماً، تبقى الحاجة الملحّة هي في القدرة على تحقيق الاكتفاء الماديّ بعد الزّواج.

 

الدّراسات:

 

منظّمة اليونيسف: "حقائقٌ سريعةٌ عن الأزمة السّوريّة 2019".

مركز الإحصاء والمعلومات الاقتصاديّة: "معدّل مشاركة اليد العاملة السّوريّة".

المركز السّوريّ لبحوث السّياسات: "الأزمة السّوريّة.. الجذور والآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة".

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard