info@suwar-magazine.org

مرضى الاضطربات النفسية وَصْمة "المجنون" تلاحقهم وأطباءهم "السَّحَرة والمشعوذين"

مرضى الاضطربات النفسية وَصْمة "المجنون" تلاحقهم وأطباءهم "السَّحَرة والمشعوذين"
Whatsapp
Facebook Share

 

 

لايزال ذلك المشهد عالقاً في ذاكرة أحمد العبود (15 سنة) من مدينة معرّة النعمان، يأبى أن يفارقه، يستيقظ من نومه، ويصرخ منادياً لأمه التي توفيت بشظية صاروخ أمام عينيه.

 

رغم مرور سنتين على تلك الحادثة لكنَّ أحمد لا يزال يعاني من القلق والخوف بشكل مستمر، تصف أخته عهد ما حدث "كان أحمد برفقة أمي، حين استهدفت طائرة حربية منتصف السوق الشعبي، وأصابت شظية صدر أمنا، فوقعت على الأرض فاقدة لوعيها، وبعد إسعافها فارقت الحياة داخل المشفى".


تُبيِّن عهد أنّ أخاها أُصيبَ برضوض وجروح بسيطة في جسده، ولكن جروح النفس كانت أقسى وأشد، "فمنذ ذلك اليوم أصيب أخي بانهيار عصبي، وأمراض وضغوطات نفسية، أثَّرت على حياته بشكل سلبي".

 

تعصف الأمراض النفسية والعقلية بالسوريين منذ أن حلّت الحرب في ديارهم، دون أن تَسلم منها أي فئة عمرية، ويزيد في معاناة من أصيبوا بها بقائهم دون علاج؛ بسبب نقص الإمكانات العلاجية والكوادر المختصّة، وتتجلى تلك الأمراض والاضطرابات على صورة خوف أو قلقٍ دائم أو صدمة نفسية أو اكتئاب أو شعور بالعجز.

أرقام وإحصاءات


قالت منظمة الصحة العالمية في إحصائية لها لعام 2018 إن سورياً واحداً من بين ثلاثين يعاني من حالة صحية نفسية صعبة، في حين يعاني شخص من بين كل عشرة أشخاص من أزمة نفسية تتراوح بين الخفيفة والمعتدلة نتيجة التعرض طويل الأمد للعنف.


صرّح مدير الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة في حكومة النظام السوري، رمضان محفوري، أن أكثر من مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية شديدة، وأكد محفوري دور الأحداث التي مرت بها سوريا خلال السنوات الأخيرة، في زيادة المصابين بهذه الاضطرابات.


وقدَّرت دراسة أصدرتها منظمة الصحة العالمية عام 2019 أن شخصاً واحداً من بين كل خمسة أشخاص ممن يعيشون في مناطق متأثرة بالنزاعات يعاني أحد أشكال الاضطراب النفسي، بما فيها القلق والاكتئاب والفصام .

 

ضحايا الأمراض النفسية

 

ضريبة السجن كانت ثقيلة على أبو مروان (45 سنة) من سكان مدينة إدلب، الذي يعاني من مشاكل نفسية منذ خروجه من معتقلات النظام السوري، يميل أبو مروان إلى الانطواء والعزلة، وكأنه فرض على نفسه سجناً إرادياً لا يستطيع الخروج منه.

 

 تتحدث زوجته عن حالته  "حاول أكثر من مرة الانتحار، وكلما نام يستيقظ فزعاً، وهو يصيح "اتركني لا تضربني"، ويمسك رأسه، وحين يستيقظ يبدأ بالصراخ والارتجاف قبل أن يعود لصمته وشروده من جديد".


تؤكد أم مروان أن زوجها تعرض لكافة أنواع التعذيب داخل السجن، وخاصة الضرب على الرأس بالعصي، ومن الصعب أن يكمل حياته بشكل طبيعي بعد خروجه من أقبية الظلام والموت".

 

تعاني رولا (17 سنة) من مدينة أطمة الحدودية مع تركيا، من أمراض نفسية مزمنة تحتاج إلى علاج، بينما يعتقد أهلها أنها مصابة بمسٍّ من الجان، ويكتفون بحبسها داخل المنزل، وعرضها على السحرة والمشعوذين.

 

 تقول جارتها أم جميل "تزوجت رولا في سن مبكرة، وكثيراً ما كانت تتعرض للضرب من قبل زوجها، وبعد مدة سنة انتهى زواجها بالطلاق، وأخذ منها ابنها الصغير، ومنذ ذلك الوقت أسمع صوت صراخ رولا وبكاءها بشكل يومي، بينما يرفض أهلها عرضها على طبيب نفسي".

 

 

 

الأمراض النفسية الأكثر شيوعاً


لا يجد المرضى الذين يعانون من مشاكل نفسية العلاج، بسبب قلّة الأطباء والمعالجين النفسيين، وشكوك العائلات في معظم الأحيان في حاجة أبنائهم إلى العلاج أو أي نوع آخر من المساعدة، فضلاً عن معاناة المرضى النفسيين من نظرة المجتمع، والتردد من الإقدام على العلاج، وجعلها آخر الحلول المتاحة خوفاً من "وصمة العار" التي يطلقها البعض على مرضى الاضطرابات النفسية، ويوجهون أصابع الاتهام لهم على أنهم "مجانين" ومختلون عقليا،ً ولا يمكن شفاؤهم.

 

الأخصائي النفسي العيادي براء الجمعة يتحدث لـ "مجلة صور" عن الأمراض النفسية "تعتبر العوامل  البيئية والعاطفية والاجتماعية من أكثر الجوانب تأثيراً في الجانب النفسي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل حالة عواملها الخاصة بها، والمختلفة عن عوامل حالة أخرى".


ويبين الجمعة أن أكثر الأمراض النفسية شيوعاً هي اضطرابات الاكتئاب والقلق، وليس بالضرورة أن يحتاج جميع المرضى النفسيين إلى علاج دوائي، إذ يعود ذلك إلى تقييم كل حالة وتشخيصها بشكل دقيق، وبناء على ذلك يتم تحديد نوع العلاج، مشيراً إلى أن التشخيص وتعيين الدواء بدقة هو مسؤولية الطبيب النفسي حصراً، وفي ظل عدم تواجد الطبيب النفسي وندرتهم خاصة في مناطق الشمال السوري، يقوم طبيب رأب الفجوة المدرَّب والمعتمَد من قبل منظمة الصحة العالمية بالتشخيص، وتعيين الدواء المناسب للحالة، مع التأكيد على أهمية الدواء النفسي للحالات المؤكدة التي تحتاجه، تزامناً مع التدخل اللادوائي من قبل العاملين النفسيين الموثوقين.

 
ويتابع الجمعة: "تتفاوت المرونة والصلابة والمناعة النفسية من فرد لآخر، ولكن في المجمل غالبية المجتمع أصبح عرضة للإصابة بالاضطراب النفسي في ظل ظروف الحرب القاسية، وتترواح شدته من الخفيف إلى المتوسط والحادّ، وذلك وفق عوامل كل فرد، لذلك نحتاج إلى جهود مضاعفة، وتعاون من قبل الجميع، كل من موقعه لرفع الوعي في مجال الصحة النفسية، ومحاولة التأثير إيجاباً بالتخفيف من تكريس الوصمة المجتمعية والصورة النمطية السائدة تجاه الصحة النفسية، كما يؤكد على ضرورة التكامل في التدخّلات النفسية الطبية الدوائية مع التدخلات النفسية اللادوائية.

 

المرشدة النفسية روان الشوّاف من مدينة إدلب تتحدث لـ مجلة صور عن ارتفاع نسبة الأمراض النفسية في ظلّ الحرب بين الشباب والأطفال تقول: "أغلب الأمراض النفسية المنتشرة بين الشباب السوريين هي الاكتئاب أو الوسواس القهري، أو الميل إلى العنف، إضافة إلى ظهور علامات الأمراض النفسية بين الأطفال من خلال التبول اللاإرادي، والخوف من الأصوات العالية".


تُبيّن الشواف أن المريض النفسي يصبح كثير الخوف والقلق والترقب، بالإضافة إلى الشرود الذهني وقلة التركيز، والمعاناة من عدم القدرة على النوم، والأحلام المزعجة.


ولعلاج الاضطراب النفسي عند الكبار، الناجم عن الحروب تنصح الشواف بإعطائهم الفرصة للتعبير عن مشاعرهم، ووصف مخاوفهم، وتقديم الدعم والمساندة النفسية حتى يشعر الشخص بالأمان، إضافة إلى تغيير أفكار وسلوكيات المريض السلبية، وتحويلها إلى أفكار أكثر إيجابية متصالحة مع الواقع، من خلال جلسات عديدة متنوعة تكون بشكلٍ فردي أو مع مجموعة من الأشخاص الذين عانوا، وعايشوا نفس التجربة المؤلمة ."


وتتابع الشوّاف: "قد يلجأ المصاب بالاكتئاب إلى تناول الكحول أو الأدوية المهدئة، الأمر الذي يجعله يقع في مزيد من التعقيدات والمشاكل، وقد يفكر بالانتحار".

 

دار استشفاء من الأمراض النفسية في مدينة سرمدا


في ظل غياب مراكز العلاج النفسي في إدلب، وتزايد الضغوط النفسية لدى السكان نتيجة الحرب افتتح اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية (UOSSM) بدعم من منظمة الصحة العالمية دار استشفاء للأمراض النفسية في مدينة سرمدا، ويقوم الكادر الطبي بتقديم العلاج للمرضى بالإضافة إلى وجود العيادات المتنقلة التي تهتم بمتابعة حالات المرضى بعد خروجهم من الدار.


مسؤول المشروع حسام شلاش يتحدث لـ صُوَر عن الدار بقوله: "تأتي أهمية افتتاح هذا المركز من شيوع الاضطرابات النفسية في ظل الحرب الدائرة، كما يعد المركز نقطة إحالة لكل مراكز الرعاية الصحية الأولية في إدلب".

 


يبين شلاش أن الدار تتألف من كتلتين بنائيّتين، قسم للرجال وآخر للنساء، تستوعب عشرين سريراً، ومدة استقبال أقصاها شهراً لكل مريض على اعتباره المركز الوحيد المختص بعلاج الحالات الحادة.


ويشير شلاش إلى أن كادر المشفى يضم طبيباً مختصاً بالأمراض النفسية، وأطباء مقيمين مدربين على برنامج "رأب الفجوة في الصحة النفسية"، بالاضافة لوجود كادر تمريضي، وقسم الدعم النفسي الذي يضم خريجين من كلية التربية، وعلم النفس وعلم الاجتماع، بالاضافة للكادر الإداري .


وعن أقسام المشفى يتابع شلاش بالقول: "تضم المشفى جناحين للقبول الداخلي (استشفاء) للرجال والنساء، إلى جانب عيادة خارجية تستقبل المراجعين لمدة ستة أيام أسبوعياً، وعلى مدار الساعة للحالات الإسعافية، فضلاً عن وجود قسم المشورة المطوّرة لعمال الصحة النفسية، كما تنطلق من المشفى عيادتين متنقلتين للصحة النفسية، يضم كل منها طبيب مدرب على برنامج رأب الفجوة في الصحة النفسية، ومختصين بالدعم النفسي وسائق، وتتنقل كل عيادة وفق خط سير محدد.

 

كذلك قامت منظمة (UOSSM) بافتتاح عدة مراكز للدعم النفسي ضمن مراكز الرعاية الصحية الأولية الموجودة في إدلب التابعة لمديرية الصحة، وعن ذلك تتحدث لـ صُوَر عبيدة رضوان مديرة مشروع الصحة النفسية في المنظمة قائلة: "بدأ المشروع منذ بداية العام الحالي، وكان عبارة عن سبعة مراكز للصحة النفسية موزعة على عدة مدن وبلدات في إدلب منها أطمة ودير حسان وسرمدا وغيرها، بينما ارتفع عدد المراكز لاحقاً إلى 17 مركزاً".


وتشير الرضوان إلى أن كل مركز يضم قائد فريق يحمل شهادة بالإرشاد النفسي، وعاملين في مجال الدعم النفسي يحملون شهادة بكلية التربية مع وجود خبرة وتدريب في مجال الصحة النفسية، وتقدم المراكز خدمات التثقيف النفسي، والدعم النفسي للأطفال، فضلاً عن إحالة  للعيادات أو مراكز حماية الطفل او مراكز تركيب الأطراف.

 

لم يقتصر تأثير الحرب السورية على انتشار الأمراض الجسدية، بل تعدّت ذلك إلى النفوس والعقول نتيجة الرعب المتواصل، ومعايشة أهوال القتل والدمار، وسماع أصوات الانفجارات، علماً أن سوريا تفتقر إلى خدمات الصحة النفسية الكافية، رغم تصاعد أهمية هذه الخدمات في وقتنا الحالي، وضرورة توفيرها بشكل تخصصي واسع النطاق، بالإضافة إلى نشر التوعية المجتمعية بخطورة الاضطرابات النفسية وضرورة معالجتها.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard