info@suwar-magazine.org

حلب ..والعيش بجانب العدم

حلب ..والعيش بجانب العدم
Whatsapp
Facebook Share

  

ليليا نحاس

 

كغيري ممن يعيش في حلب، أعدُّ لأصدقائي بطولاتي المتزايدة في النجاة من الموت، وأقيس كم يقترب الموت مني بفارق الأمتار والساعات، الحديث عن الأمر أصبح عادة كل يوم، ومع أن القدر أو الله هو من تدخل لننجو ونتحدث بالأمر، لكننا لا نكف عن التحدث عنه وكأنه انتصار شخصي، ولسبب ما نتباهى به، ربما لأن القدر ينتقينا لنستحق يوماً آخر هنا، في مدينة أشبعت بالموت ليصبح الاستثناء فيها هو الحياة.

 

"قبل خمسة دقائق كنت في ذات المكان الذي وقعت فيه القذيفة" هذه المرة وعلى غير عادة  أخبرت أصدقائي هذا ولم أبتسم، لم أبد حتى كمنتصرة أو محظوظة بنجاتي من الموت أو الأذى مرة أخرى. إنه الموت، هو لا غيره كان السبب، لقد اقترب كثيراً هذه المرّة، اقترب حتى استطعت رؤيته، لم يبدُ خيالياً مبهماً وعديم الملامح كما أعرفه، حضر بقسوة  كأنه لم يأت من السماء، تستّر بالغبار والغباشة،  أشعل النار في محل الملابس وجرة غاز أحد الباعة المتجولين، هشّم أرجل عجوز ووجه فتاة وشيئاً من أرواحنا، لطمنا ببقع من الدم، أخذ امرأتين وطفلين بصرامة ورحل.

 

 ليس الموت نقيض الحياة في مدينتي، لقد تحرر من منزل الجد وغرفة المشفى ومعاقل الخطر والتهور، وبات يعيش في أحضان المدينة، يتغلغل بها ويكبر، وقد استسغناه دون أن نشعر، اعتدنا الحديث عنه، تعايشنا مع وجوده في كل مكان وفي أي وقت، وخضعنا لسلطته في أخذ من يريد، أتٌرانا أكثرنا الترحيب به؟!

 

خلال بضع ساعات فقط عاد كلُ شيء كما كان، ومنذ ذلك الوقت بت لا إرادياً أعد آلافاً من الاحتمالات لو أن واحداً منها وقع لوقعت في العدم: مثلاً لو أني وجدت ماءً في بيتي فغسلت فنجان القهوة  ثم غادرت, ولو أن فستان العرس المعروض كان أقل سحراً وبهاءً من أن أغرم به وأمشي هاربة من كآبة الحلم في الزواج، ولو أني تمهلت في مشية أكثر أنثوية والتقطت نظرات الإعجاب من حولي ونسيت همّ اللحاق بالباص, لو حدث أي من هذا لوقعت في العدم، إلا أن الموت لم يكن مصيراً عادلاً لافتراضاتي البسيطة، أتراه كان عادلاً لمن ماتوا بدلاً عني! أتراه عدل في أخذ تلك المرأة التي توقفت في ذلك المكان المشؤوم وضاعت به تفتش عن أوفر البضائع لأسرتها وتجادل أصحاب البسطات حتى ضاع كل شيء! أتراه عدل في أخذ طفل في السادسة تملكته شقاوة الأطفال فترك يد أمه وركض أمامها على الطريق فالتقطه الموت!

 

يقال بأننا نعيش في أخطر مكان في العالم، لكننا حقيقة لا ندرك ذلك ولا نشعر به، لقد خرج الرعب والخوف من حدود خيالاتنا وأدمغتنا الصغيرة، وأصبح واقعياً مثلنا، والواقعي لا يخيف من يعيش حوله، يقع كأي حدث يومي بلا مقدمات، نتعامل معه وكأننا نتوقعه، شاهدت منذ أيام أحد أفلام الرعب الشهيرة وأشعرني برعبٍ شديد، والغريب أن كل ما رأيته من أحداث الحرب هنا أقسى من أحداث هذا الفيلم لكنها لم ترعبني بهذا القدر. القتل بكل بشاعته لم يعد غريباً على الأطلاق. لو لم يكن الموت بكل هذه البشاعة لوجدنا في الحرب معنىً جيداً، في الحرب تلمس معنىً لكل شيء فقدته أو لم تفقده، تعيش أعمق حالات الحب والحزن والانتظار والخوف، لا تعرف التردد وتدرك حقيقة ما تريد، تتجاوز خساراتك الوهمية وكأنك لم تمتلكها يوماً، حتماً كان للحرب معنىً ما لو أن كل هذا لا ينعدم حين يحضر الموت أو يأكل الحرمان قلبك.

 

ليس الموت أكثر الأمور جاذبية للكتابة، لكن حين داهمني لأيام وأيام لم أستطع التحرر من الحديث عنه، وعندما أمسك بي ثم أفلت لم استطع الكتابة خارجه، يبدو لي أن كل شيء قد ترتب بحكمة، لقد استعملني الموت لأصلبه هنا على الورق، لم يأبه كيف يبدو حين أكتبه فلذاته شكل في نفس كل قارئ، ولن أتمكن من تغيير  شكله ببضع كلمات، يحتاج الموت ألا يحصد الأرواح ويذهب فحسب، أراد مني التحدث عن فظاعته وبشاعته وجنونه أو ربما قدسيته! إذا لا فرصة للحديث عنه ممن خاضوا التجربة، وما كان مني الا أن امتثلت لما أراد فخضت الكتابة عنه لأتوازن وأمنحه المزيد من التعايش والمتعايشين معه، أدرك الآن ورغم أني نجوت أيضاً هذه المرة بأن الموت يتمكن منا تباعاً فإن مرَّ بجانبنا ولم نمت مات فينا شيء لا ندرك أننا فقدناه إلا فيما بعد.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard