info@suwar-magazine.org

حياة المعتقل: عالمٌ بأسره يُختصر في زنزانة

حياة المعتقل: عالمٌ بأسره يُختصر في زنزانة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

رنا خليل

 

ما إن بدأ الحديث عن صدور عفوٍ عامٍّ عن المعتقلين في سجون النظام السوريّ حتى تفتّحت جراح ذوي هؤلاء وأصدقائهم. لا يؤمن الجميع بمصداقية تنفيذ هذا المرسوم، استناداً إلى تجربتهم مع مراسيم سابقةٍ لم يخرج إثرها إلا القليل من المعتقلين، لكن الأمل لم ينطفئ. ومع مرور الأيام تطوى الكثير من القصص داخل جدران السجون، بينما ترى أخرى النور.

 

 

 مما لا شك فيه أن الاعتقال السياسيّ هو من التجارب الاستثنائية، منعطف حياةٍ يغيّر الإنسان من الداخل كما لن يغيّره أيّ شيءٍ آخر، وقد يفضي به إلى النهاية. في سوريا اليوم ما يزيد على مئتي ألف معتقل، بعد أكثر من ثلاث سنواتٍ على بدء الثورة الشعبية ضدّ نظام الحكم القائم. يعتقل النظام إنساناً كل أربع دقائق في الأراضي السورية. آلافٌ من الشباب السوريين خاضوا تجربة الاعتقال، وعاشوا بشاعة ما يحدث في المعتقل. اعتقل البعض لساعاتٍ بينما بقي آخرون لسنوات، لكن أحداً لم يخرج كما كان.

 

تعلَّمنا أن نثور أكثر

 

عالمٌ زاخرٌ بالحكم والعبر، هكذا يصف الأستاذ عدنان حياة المعتقل. اعتقل عدنان، البالغ من العمر 37 عاماً، إثر تقريرٍ كتبه أحد زملائه يتّهمه فيه بتشجيع طلابه على المظاهرات، وتلقينهم معاني الحرية. يتحدّث الأستاذ عدنان عن تجربته في المعتقل، والتي دامت ثمانية أشهر: "عُذّبنا بأساليب وحشيةٍ من شأنها أن تقتل الجرأة والإقدام، وتطفئ كلّ الأفكار الثورية. كنت، خلال أقصى درجات العذاب، أمقت تلك الساعة التي دعاني فيها صديقي إلى الخروج في المظاهرة الأولى لي. وكلما عدت إلى المهجع، وانتهت ساعات التعذيب، زدت إصراراً واستعداداً لمعاودة التجربة. ما لم يستطع الجلادون فهمه أنهم كانوا يعلّمون المعتقلين كيف يثورون أكثر. كان الجميع يزداد إيماناً بالثورة يوماً بعد يوم. في المعتقل تتعلّم كيف تستخلص المعاني من أبسط الأمور؛ من الجوع وشحّ المياه، من تجربة صديقك في الزنزانة، من الكتابات التي تقرأها على الجدران وتعيد قراءتها المرّة تلو الأخرى، لاشعورياً، لتتعلم منها مواعظ لم تكن في رأس من كتبها. حتى أن طموحاتي وأهدافي كانت داخل حدود الزنزانة، كنت أعِد نفسي بأن أحقق هدفاً جديداً كلّ يوم، كأن أنام ساعةً أكثر، أو أحصل على زيتونةٍ إضافية. كانت انتصاراتي الصغيرة هذه تعوّض ما أشعر به من انكساراتٍ وإذلالٍ خلال التعذيب".

 

روحانيّة السجون

 

 

أما كامل، وهو شابٌّ في الثانية والثلاثين من العمر، اعتقل ثم اتهم بمحاولة تشكيل تنظيمٍ معادٍ للدولة، فيحدثنا عن روحانية حياة المعتقلين، وقد دامت تجربته سنةً ونصفاً في عتمة المعتقل: "على المعتقل أن يعيش دور المغلوب دائماً. عشت هذا الدور لفترةٍ طويلة. كنت محاطاً بالمتدينين في المعتقل، ولم أكن أنتمي إليهم لكني كنت أحسدهم كثيراً، إذ كنت أفقد إيماني بالعدالة الإلهية شيئاً فشيئاً. ومع هذا كنت أشعر بالراحة كلما بادر أحدٌ ليتلو بعض الآيات القرآنية سرّاً في غيبة السجان. كان هذا كفيلاً بأن يسرّي عن أنفسنا الضجر والضيق وانسداد الأفق". وعن المعنويات والحالة النفسية التي تعتري المعتقل يقول: "بالرغم من تعدّد أساليب التعذيب والجوع، إلا أن أكثر ما كان يخيفني هو العتمة. كنت ألعن فيها من اخترع السجون بلا ضوءٍ، وأخمّن أنه من سلالة الشياطين. كانت روحي تنعصر في الظلام. لطالما انتظرت أيام الاستحمام، التي تأتي مرتين كلّ شهرٍ، في باحة السجن، كي أتشرّب الضوء أكثر من الماء".

 

 

 أما عن انعكاس قسوة التجربة على حياته بعد الاعتقال فيقول: "منذ خرجت من المعتقل وحتى اليوم لم أستطع الجلوس في العتمة ولو لساعة. كنت أجلس قرب باب المهجع طوال الوقت، وكان السجّانون يدخلون علينا ويطلبون واحداً أو أكثر من المعتقلين، نكتشف بعد أيامٍ أنهم ذهبوا إلى الإعدام. معظم هؤلاء كانوا يمكثون عند الحائط المقابل لي في آخر المهجع، حتى خيّل إليّ أن نافذة الموت فتحت هناك، وأني هنا أبعدُ الجميع عنها. آمنت بالفكرة لفترةٍ طويلة".

 

ويضيف: "أعرف اليوم أنها لم تكن إلا محاولةً نفسيةً للتملص من فكرة الموت التي زرعت في كلّ مكانٍ داخل السجن. كلٌّ منّا كانت له حياةٌ خاصّةٌ في مخيلته، تتخبّط انفعالاتنا ومشاعرنا بين عالم الموت التراجيديّ الذي نراه أمامنا، والذي يغلق كل أبواب الأمل، وبين حياةٍ متجدّدةٍ في مخيلتنا نتحايل فيها على عتمة المعتقل".

 

أصبحت إنساناً آخر

كأيٍّ من تجارب الحياة الصعبة قد تغيّر تجربة الاعتقال الإنسان كلياً، ليخرج إنساناً آخر كما لم يعتد عليه أصدقاؤه وعائلته. هذا ما حدث مع سالم، الذي يبلغ 19 عاماً. اعتقل سالم واتهم بالتظاهر وكتابة العبارات الثورية على اللافتات. ويحدّثنا بعد خروجه عن التحولات التي طرأت على حياته، والتي غيّرت شخصيته إلى الأبد: "لطالما كنت الابن الوحيد المدلل. اعتدت على الحياة المريحة منذ نعومة أظفاري حتى ساعة دخولي إلى المعتقل. لم نكن عائلةً غنيةً لكن لم يسبق لي أن حُرمت من أيّ شيءٍ رغبته في حياتي، فقد كان هناك من يلبي كلّ رغباتي دائماً. اختلف كلّ شيءٍ فجأةً، كأن الدنيا تريد أن تريني وجهها الآخر. مدّة اعتقالي، التي دامت ثلاثة أشهر، غيّرتني لما تبقى من حياتي. خيّل إليّ أن الحياة ترّد لي، داخل السجن، ما لم أعشه من الحرمان والعذاب دفعةً واحدة. فقدت كلّ شيء. كان كلّ محققٍ يعرف أني الابن الوحيد لأهلي يسخر مني، ويهديني المزيد من ساعات التعذيب. كلّ التفاصيل أصبحت فجأةً صعبةً ومزعجة. خلال النوم كان يلاصقني ثلاثة أشخاصٍ على الأقلّ، وسابقاً لم أقبل أن أنام بجوار أحد. التفكير في كلّ هذه المقارنات كان يدفعني إلى الجنون. لم يعد شيءٌ في حياتي كما كان؛ أصبحت أقدّر وجودي مع عائلتي ومع الفتاة التي أحب".

 

هلوساتٌ وأدعية

 

يقضي المعتقل ساعاتٍ طويلةً في التفكير في أمورٍ لم يُعِرها الكثير من الاهتمام سابقاً. يتحدّث الأستاذ محمد عن ساعاتٍ من الهلوسة شغلت رأسه خلال ليل الزنزانة الطويل: "كانت تلحّ عليّ أبياتٌ من الشعر وآياتٌ قرآنيةٌ وأقوال لفلاسفة، ولا تعود إلى ذاكرتي إلا شذراتٌ مما أعرف. عدت لأفكر لماذا أستذكر هذه الأمور، وما فائدتها إن قدّر لي أن أبقى فقط لأيامٍ معدودةٍ في الحياة؟ فيعود إلى رأسي الحديث الشريف: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ فليغرسها"، فأتساءل عما يمكن أن أغرسه في زنزانة، فلا شيء أستطيع فعله إلا الصلاة. كان الدعاء أمراً ملحّاً ألجأ إليه كي لا أموت من القهر؛ كنت أردّد دائماً: "اللهم أسعدني. يا ربّ اجعل نفسي آمنةً مطمئنّة"، ثم أقوم إلى الصلاة وأصلّي لساعاتٍ لا أعرف عددها، ويفيض دمعي بلا سبب. كثيرٌ من الأدعية التي كنت أردّدها سابقاً نسيتها داخل الزنزانة، ولم يكن لديّ سوى أدعيةٌ ابتكرتها لتناسب ما أنا فيه. أتلو أدعيتي، ويتردّد في رأسي لحن أغنية "يا حيف"، فأتوقف عن الدعاء وأبتسم".

 

تبقى الكثير من القصص التي لا نعرفها حبيسة جدران الزنازين والمهاجع، فلا يزال الآلاف يعيشون أشدّ العذابات الإنسانية داخل معتقلات وسجون النظام السوريّ، يسكنون العتمة ويحلمون بوطنٍ يستحقونه، ويراهنون على ثورةٍ لا تنسى معتقليها.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard