info@suwar-magazine.org

أزمة الهويّة واغتراب الإنسان .. قراءةٌ في رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي

أزمة الهويّة واغتراب الإنسان .. قراءةٌ في رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي
Whatsapp
Facebook Share

 

 أنجيل الشاعر

 

"ساق البامبو" للكاتب الكويتيّ سعود السنعوسي، التي فازت بجائزة "البوكر للرواية العربية"، روايةٌ مميّزةٌ يتناول فيها المؤلف أفراد العمالة الأجنبية في الكويت والمشكلات التي يصادفونها، ولا سيما تلك التي تصادفها النساء، وقضايا الاعتراف بإنسانية الإنسان في ظلّ التفاوت الطبقيّ الذي تتحدّد بموجه المكانة الاجتماعية للأفراد وحقوقهم في العيش الكريم. كما يعالج قضية الأبناء مجهولي الآباء، أو معلومي الآباء وغير المعترف بهم، والذين هم ضحايا الفقر والألم والقهر والاغتراب. عيسى، بطل الرواية وساردها، نموذجٌ لهؤلاء، ونموذجٌ لاغتراب الإنسان.

 

 عيسى، "قبل الميلاد"، أمه جوزافين، من أسرةٍ فليبينيةٍ فقيرةٍ، دفع الفقر أختها آيدا إلى العمل في ملهىً ليليٍّ، تبيع جسدها بثمنٍ لا يكاد يلبّي حاجات الأسرة: "ليس الألم أن يكون للإنسان ثمنٌ بخسٌ، الألم أن يكون للإنسان ثمن" (ص 20).

وقد أنتج لها عملها طفلةً بلا أبٍ ستصبح "شاذةً"، فيما بعد. "هناك من يمارس الرذيلة لإشباع غريزته. مع الفقر هناك من يمارس الرذيلة لإشباع معدته، والنتيجة أطفالٌ بلا آباء" (ص 18). وجدّه ميندوزا، الذي جفّفت الحرب عاطفته الأبوية وبلّدت حسه الإنسانيّ، فأدمن الخمرة والمراهنة على صراع الديوك، ينفق فيهما جلّ ما تجنيه ابنته آيدا.

 

 عيسى، "بعد الميلاد"، ابن جوزافين الخادمة وراشد عيسى الطاروف، الكويتيّ ابن الحسب والنسب، والذكر الوحيد المتبقي من العائلة. تحكي جوزافين لعيسى قصة حبها لراشد؛ أبيه المثقف والرافض لكلّ سلبيات عائلته، والتي هي سلبيات المجتمع الكويتيّ بأسره. كما تؤكّد مراراً أنها لم تحمل منه سفاحاً، بل بموجب عقد زواجٍ عرفيٍّ كان شاهداه صديقيه المقرّبين غسان ووليد. فكانت بذلك تؤسّس ذاكرة ولدها، لتكوّن هويته العربية الكويتية. غرست الأمّ في نفس عيسى حبّ أبيه وموطنه، الذي يجب أن يعيش فيه ويتمتع بخيراته.

 

تتحدّث الرواية عن طرد جوزافين وطفلها، لأن عائلة راشد، وخاصّةً والدته غنيمة وأخواته الثلاث، رفضن هذا الزواج وثمرته خوفاً من الفضيحة واهتزاز مكانتهم الاجتماعية، باستثناء واحدةٍ من البنات، وهو استثناءٌ يشير إلى مستقبلٍ مأمول. هكذا ولد عيسى مسلماً في الكويت، ثم تعمّد مسيحياً كاثوليكياً في كنيسةٍ بالفلبين، واعتاد أن يجلس تحت شجرة المانغو، ويزور معابد البوذيين، أحبّ كلّ الديانات ووجد نفسه فيها. كأن الكاتب أراد أن يجمع النبيّ محمداً والسيد المسيح والقديس بوذا في شخصٍ واحدٍ يعبد إلهاً واحداً.

 

يعود عيسى إلى الكويت، مسقط رأسه وموطن أبيه، بدعوةٍ من غسان صديق راشد. ترفضه جدّته غنيمة رفضاً قاطعاً، وتنقسم العائلة المؤلفة من العمات، وخولة، أخته غير الشقيقة، بين مرحّبةٍ بالوافد ورافضةٍ له، رغم مرور ثلاثين عاماً على رفض الجدّة لحفيدها عيسى يوم ولادته، كأن الزمن لا يمرّ والماضي لا يمضي. الجدّة غنيمة نموذجٌ مصغّرٌ عن السلطة الاستبدادية غير القابلة للتطوّر أو للإصلاح. ولهذا السبب افتتح الكاتب روايته بمقولة للمناضل الفلبينيّ خوسيه ريزال "لا يوجد مستبدّون حيث لا يوجد عبيد".

 

هند، العمّة الصغرى، امرأةٌ قوية الشخصية تعمل في منظّمة حقوق الإنسان الكويتية. تدافع عن الكويتيين الذين لا يحملون الجنسية الكويتية، الذين يطلق عليهم اسم (البدون). لكنها لم تستطع الدفاع عن حبّها لغسان المنتمي إلى هؤلاء (البدون) وعن عيسى المنتمي إلى جذرها وغير المعترف به. وكان هذا الدفاع سبباً مباشراً في سقوطها في انتخابات البرلمان الكويتيّ.

عيسى على هامش الوطن: الكويت، الجنّة الموعودة والحلم الرحب، لم تتسع له.

 

ولم تمنحه سوى زجاجةٍ مليئةٍ بالتراب المعطّر بدم أبيه، الذي قتل بعد اعتقاله على يد الجيش العراقيّ إبان غزوه للكويت.

 

في الكويت التقى عيسى مجموعةً من الشبّان "المجانين"، كما أطلق عليهم الكاتب، لأنهم خارجون عن المألوف، يمثلون الشباب المنفتح على الحياة. وكان عيسى قد التقاهم في الفلبين فتنسّم منهم عطر وطنه المجهول، ووجد فيهم وطناً آخر يبتعد مسافاتٍ طويلةً عن الكويت. شبابٌ يشربون الخمر، ويرقصون، ويغنّون، ويتعلّمون، ويصلّون أيضاً.

 

اختار الكاتب الشابّ لروايته عنواناً موحياً، مثقَّلاً برمزيةٍ كثيفةٍ. يكاد العنوان أن يشي بمحور الرواية وأسئلتها الوجودية لمن يعرف خصائص نبات البامبو. ساق البامبو، أو الخيزران، تنثني ولا تنكسر، إلا إذا جفّت وتعرّضت لضغطٍ يفوق قدرتها على المقاومة. ساقٌ ذات جذورٍ سطحيةٍ لا تضرب عميقاً في تربتها، لأنها يمكن أن تعيش في أية تربةٍ، وتتكيّف مع أية بيئة. تعكس خصائص ساق البامبو معاناة شخصية الرواية الرئيسة التي سمّيت عدّة أسماء، يختلف لفظها من لغةٍ إلى أخرى: عيسى، Issa، هوزيه، خوسيه لا فرق. فكلها تسمّي الشخص نفسه، الذي لم تكسره أيام المرارة والجوع ولم تطفئ توقه إلى وطنٍ يمنحه هويةً تتعدّى شهادة الميلاد وجواز السفر.

 

يعيش عيسى، أو إيسا أو هوزيه أو خوسيه، في مساحةٍ فارغةٍ بين الكويت، مسقط رأسه، والفلبين، مدرج طفولته ويفاعته ومستقرّه. هو في الكويت ابن الفلبينية، وأحياناً ابن زنا، وفي الفلبين ابن العربيّ. وهو، إلى ذلك، مسلمٌ بالولادة مسيحيٌّ بالتنشئة بوذيٌّ بالاختيار. هل بوسع الفرد أن يختار دينه؟ وإذا فعل، هل يعترف به مجتمعه الصغير، سواءٌ هنا أم هناك؟ ساق البامبو أرجح عقلاً من المجتمعات الصغيرة وناسِها. هوامش المجتمعات متشابهة؛ الفقراء والبدون والعمالة الأجنبية في الكويت مثل الفقراء والمنبوذين في الفلبين، متاهاتٌ يضيع فيها الأفراد، هنا لأنهم من غير أهل الحسب والنسب والسلطة والمال، وهناك يضيعون في مسارب البحث عن لقمة العيش بأيّ ثمنٍ، ويقعون فرائس في براثن الأغنياء. لذلك عنون الكاتب فصول روايته بالتيه الأوّل والتيه الثاني، وحمّلها دلالاتٍ وجوديةً: التيه الأوّل قبل الميلاد، والتيه الثاني بعد الميلاد.. "البدون"، أي المحرومون من جنسية الدولة في الكويت، والعاملات والعاملون من الأجانب، كلهم في هذا التيه، يتقرّر مصير أطفالهم قبل ولادتهم.

 

مثلما نما عيسى في رحم أمه الفلبينية، قبل ميلاده، ترعرع بعد ولادته على ذكرياتها مع زوجها الكويتيّ الذي تزوجها عرفياً. فانتمى إلى فئة "الأبناء بلا آباء"، مثل جدّه وابنة خالته، التي تعلق بها منذ يفاعته، ومثل بعض من التقاهم في الكويت من أصدقاء أبيه وأصدقائه هو.

 

يمكن القول إن الرواية تعالج أزمة الهوية، و"الهويات القاتلة"، لا على الصعيد الجمعيّ فقط، كأزمة الهوية العربية التي انفجرت، منذ حملة نابليون على مصر، فأدخلت العرب في متاهاتٍ لم يخرجوا منها بعد، بل على صعيد الأفراد هذه المرّة. وأحسب أن الكاتب وُفّق في طرح مسألة الهوية على هذا الصعيد. من هو عيسى؟ هل هو عربيٌّ كويتيٌّ أم فلبينيٌّ، مسلمٌ أم مسيحيٌّ أم بوذيٌّ، أم كلّ هذه الصفات مجتمعة؟ ولكن كيف تجتمع هذه كلها في شخصٍ واحدٍ إلى جانب صفاته الأخرى؟ الجواب عند عيسى، الذي اكتشف إنسانيته من وراء تعدّد هوياته وتصالحها، وانصهارها في بوتقةٍ واحدةٍ هي الإنسان، واكتشف توازنه الإنسانيّ في الحبّ. حبيبته أيضاً من فئة الأبناء بلا آباء، وإلا ما كان حبُّهما حبّاً ولا زواجهما زواجاً. الأبناء يحملون مورّثاتٍ من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك البنات، لكن القومية والدين والمكانة الاجتماعية والسلطة ليست من تلك المورّثات. هذه هي رسالة الرواية ومضمونها الإنسانيّ العميق. تتكثف رمزية الأب في الرواية في كونه هو فقط من يمنح أولاده هوياتهم. الأم لا هوية لها، لذلك لا تستطيع أن تمنح أولادها وبناتها شيئاً لا تملكه. هذه هي الرسالة الثانية للرواية، فإن تيه عيسى متصلٌ بتيه أمه، وبتيه النساء جميعاً في عالم الذكور. النساء في الرواية مستلباتٌ غير معترفٍ بإنسانيتهنّ.

 

صوّر الكاتب ما يحصل هنا والآن من رفضٍ لاندماج الثقافات غير العربية في المجتمع العربيّ، بما أنها قد تجري تعديلاتٍ على الفكر المجتمعيّ الثابت وعاداته المتجذرة وتقديسه للحضارة العربية، البائدة منذ عصورٍ، على أنها لا تقبل التعديل. وقد أفلح سعود السنعوسي في تخطّي المفهوم السائد للهوية إلى مفهومٍ أكثر انفتاحاً على فضاءٍ إنسانيٍّ يتجاوز العرق والدين.

 

والجدير بالذكر أن الكاتب تناول أزمنةً مختلفةً تعاقبت فيها ثلاثة أجيالٍ. إذ يبدأ في ثمانينات القرن العشرين مروراً بتسعينياته_ حين يخلع عن الرواية رداء الرمزية ويلبسها رداء الواقعية الجديدة في حربٍ نشبت بين العرب والعرب (غزو العراق للكويت)_ وانتهاءً في عام 2013، عام فوز روايته.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard