info@suwar-magazine.org

الديمقراطيّة ومشكلة الأقليّات في سوريا

الديمقراطيّة ومشكلة الأقليّات في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

داريوس درويش

 

تعدّ الديمقراطيّة من أنظمة الحكم الأنجع في إدارة الدول في العصر الحديث. فبعدما عرفت الأمم تجربة حكم أنظمة الملكيّة المطلقة بكلّ ما قد تحمله من قلّة كفاءةٍ في الإدارة، واستغلالٍ للإنسان باسم الحقّ الإلهيّ، نظّر الكثير من المفكرين في أوروبا، مثل هوبز وروسو وغيرهم، لضرورة تغيير التفويض الممنوح للحاكم، وتمّ الانتقال من "التفويض الإلهيّ" إلى "التفويض الشعبيّ". تزامنت هذه الأفكار مع ثورات الشعوب الأوروبيّة ضدّ أنظمة الحكم الملكيّة، ولعلّ أشهرها كانت الثورة الفرنسيّة.

 

 

لم تسر الأمور في الشرق الأوسط على هذا النحو، فالثورات التي قامت للإطاحة بالخلافة العثمانيّة لم تبدُ استجابةً لمطلب التغيير الشعبي، بقدر ما كانت تلبيةً لحاجة تغييرٍ سياسيّةٍ تتلاءم مع نتائج الحرب العالميّة الأولى وتحضيراتها. وأبناء الشريف حسين، الذي قاد حرب التحرير العربيّة برفقة الضابط الإنكليزيّ المعروف باسم "لورنس العرب"، قاموا بإنشاء دولٍ ملكيّةٍ جديدةٍ على نفس نهج الخلافة العثمانيّة، حتّى أنّهم استخدموا نسبهم الممتدّ إلى النبيّ محمّدٍ (ص) من أجل إظهار أنهم أحقّ بالحكم من العثمانيين. 

 

وفي الفترة اللاحقة لسقوط الأنظمة الملكيّة في سوريا والعراق، تمّ في الغالب استيراد منظومات أفكارٍ شاملةٍ بكلّ عموميّتها دون الخوض في تفاصيلها. إلى درجة أنّ الناقلين سَهوا، في خضمّ نقلهم هذا، عن تعريف الشعب، وهو المكوّن الرئيسيّ لـ"التفويض الشعبيّ" الذي قامت الثورات وعُزِل الملوك من أجله. وقد كان لهذه المشكلة تأثيرٌ أكبر في العراق وسوريا ولبنان، مقارنةً مع باقي الدول العربيّة المتجانسة سكانيّاً.

 

حرصت الدساتير السوريّة المتتالية على إظهار نوعٍ من تعدّد المكوّنات ضمن موادّها، وإن بطريقةٍ غير مباشرة. فقد سمح دستور عام 1930 للطوائف الدينيّة بممارسة شعائرها، وبتدريس الأحداث بلغتهم الأصليّة. وكذلك دأبت الدساتير التالية أيضاً على ذلك، مع استثناء ميزة التعليم باللغة الأصليّة، بعد تعاظم دور الفكر القوميّ العربيّ، الذي تُوّج بالوحدة بين سوريا ومصر. وبهذا كان الاستثناء يشمل القوميّات ولا يشمل الطوائف الدينيّة.

 

تلت ذلك الدساتير التي أسبغت هويّاتٍ دينيّةً وقوميّةً على الدولة، فشكّلت إنكاراً صريحاً لحقوق معظم المكوّنات القوميّة والدينيّة في سوريا، بعد الاعتراف الضمنيّ بها سابقاً. فأن تكون سوريا عربيّةً فهذا ينزع صفة المواطنة عن باقي القوميّات، كالكرد والسريان والأرمن وغيرهم، وأن تكون رئاسة الجمهوريّة حكراً على المسلمين فهذا يعني أنّ المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى مواطنون من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. 

 

تعود هذه المزاجيّة في إدراج أو إغفال المكوّنات في الدستور السوريّ إلى طريقة نشوء الدولة السوريّة نفسها. فالدستور، والذي يعبّر عن عقدٍ اجتماعيٍّ يوقَّع بين أطرافٍ واضحة، لم يُتَح له أن يُكتَب بمشاركة هذه الأطراف/المكوّنات، وبالتالي أن يكون نابعاً عن رغبتها الحرّة. فدستور عام 1930 تمّت كتابته في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، وتمّ استلهامه من دستور فرنسا لعام 1875. ورغم أنّه لم يلقَ معارضةً من السوريين بخصوص المواد المتعلّقة بحقوق المكوّنات، إلا أنّه لم يبدُ أصيلاً أو نابعاً من رغبة المكوّنات التي افتُرض أنها أطرافٌ في هذا العقد الاجتماعيّ، بعلامة تغيير الكثير من موادّ هذا الدستور في الدساتير التالية للاستقلال.

 

ما كانت المحاولات الدائمة لإثبات الهويّة العربيّة الإسلاميّة للدولة السوريّة ستظهر بهذا الإلحاح لو لم توجد المكوّنات الأخرى في النسيج المجتمعيّ السوريّ بشكلٍ فعليٍّ بين الأغلبيّة، وفي نفس الوقت غيابها النظريّ عن المشاركة في الدولة. ولا أدلّ على ذلك أكثر من معرفتنا أنّ الدولة السوريّة بشكلها الحاليّ نتجت عن اتّحادٍ مع مناطق العلويين والدروز، إثر مقاومة جميع المكوّنات للانتداب الفرنسي، وفي نفس الوقت تغييب هذه المعرفة في الواقع الدستوريّ.

 

تلك المحاولات المتكرّرة لتعريب كلّ البلد قسراً، ولّدت ردّات فعلٍ متعدّدة. فنشأ الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ في سوريا عام 1957 بشكلٍ يوحي أنّه ردٌّ على دستور 1950 الذي رسّخ "عروبة" الدولة، وتراجع عن امتياز التعليم باللغة الأصليّة للأحداث من المكوّنات الأخرى. وقد تمّ قمع هذا الحزب بشدّة. وكذلك حال الدروز في جبل العرب، الذين قاموا بثورةٍ على أديب الشيشكلي الذي مارس أشكالاً عنيفةً من محاولات الدمج وإلغاء الهويّة الدرزيّة. ونجح الأخير بالقضاء على الثورة باستخدام الطائرات التي قصفت مدينة السويداء وغيرها من مدن جبل العرب.

 

كان يمكن لسوريا، رغم نشأتها غير الطبيعيّة، أن تمرّ عبر مراحل تطوّرٍ طبيعيّةٍ تؤدّي إلى تشكيل مفهوم "الشعب" في أذهان السوريين بشكلٍ أكثر وضوحاً، فيما لو اتُّبعت الديمقراطيّة كما هي الحال في دول أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة. فالتطوّر الطبيعيّ والديمقراطيّ في وعي المجتمع الأميركيّ قاد، بشكلٍ أو بآخر، إلى إصدار لينكولن لقانون إلغاء العبوديّة، ولاحقاً إلى تحقيق أهداف حركة الحقوق المدنيّة التي قادها مارتن لوثر كينغ، والتي تُوّجت بتولي شخصٍ من أصولٍ أفريقيّةٍ منصب رئاسة الولايات المتحدة الأميركيّة.

 

ولكن، يبدو أنّ الوقت في سوريا قد تأخّر قليلاً على إفساح المجال لهذا النوع من التطوّر، دون إعادة التأسيس الصحيحة للدولة السوريّة. فعقودٌ من الديكتاتوريّة التي امتدّت من سنوات الانقلابات الأولى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، مروراً بعصر الوحدة مع مصر، وانقلابات البعث، وصولاً إلى الحكم الراهن، والتي اعتمدت بمعظمها على المخاطبة البدائيّة لمشاعر الأكثريّة من أجل ضمان استمرار حكمها؛ قد حطّمت الارتباط بين المكوّنات السوريّة على المستوى السياسيّ، ومتّنت حالة الشعور بالقهر والظلم ومقاومة الانصهار عند الأقليّات، تحوّلت إلى حالةٍ من عدم الثقة بين هذه المكوّنات، وخصوصاً بعد خوضها المشترك لتجربة النضال من أجل الاستقلال عن فرنسا، ومن ثمَّ الاستبعاد الذي مُنيَت به هذه الأقليّات بعد إنجاز الاستقلال، وإلى حدٍّ ما قبله أيضاً.

 

ترافقت حالة فقدان الثقة هذه مع انحسار قوّة الدولة المركزيّة في السنوات الأخيرة اللاحقة لاندلاع الثورة السوريّة الراهنة، وازدياد القوّة النسبيّة للمكوّنات. فبموازاة الثورة هناك حربٌ أهليّةٌ تورّطت فيها معظم المكوّنات السوريّة. ورغم فظاعة هذه الحرب، إلا أنها لم تمكّن أيّاً من أطرافها من أن يفرض إرادته الخاصّة على الأطراف الأخرى. وبهذا الشكل يمكن القول إنها أعطت الثقة للمكوّنات بقدرتها على المقاومة، وبالتالي المطالبة بالشراكة الكاملة في الوطن، بدلاً من انتظار مزاجيّة السياسيين في استجابتهم للضغوط الداخليّة أو الخارجيّة الناعمة لتحقيق الشراكة.

 

إذاً، فالواقع الحالي لسوريا، إضافةً إلى تراكماته التاريخية، جعل من الصعوبة بمكانٍ وضع العربة أمام الحصان مجدّداً، فالأوّل يأتي أوّلاً. وربّما لن تكون مجديةً أيّة مطالبةٍ بنظام حكمٍ ديمقراطيٍّ ما لم تكن حدود "الشعب" واضحة، والتي لن تتوضّح بدورها ما لم يتمّ الاعتراف المتبادل بين كلّ المكوّنات بوجود كلٍّ منها، وأحقيّتها جميعاً بالشراكة الكاملة في الوطن.

 

وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد أكثر أن تقوم المعارضة السوريّة بهكذا خطوة، وذلك لقدرتها على ربط مسار تأسيس الدولة بمسار إقامة النظام الديمقراطيّ، وتكون بذلك قد وفّرت جزءاً هاماً من معاناة السوريين بمختلف انتماءاتهم.

 

يفتقد النظام هذه القدرة على الربط بنيويّاً، فليس تحقيق الديمقراطيّة من قبله أمراً ممكناً، حتى في نظر أشدّ مواليه ولاءً. ولهذا فإنّ محاولة إثبات أيّ مكوّنٍ لنفسه ضمن دولةٍ بقيادة النظام الحاليّ ستكون محاولةً دمويّةً قد تنجح وقد تفشل. وإن نجحت فلن تكون بصيغة عقدٍ اجتماعيٍّ بين المكوّنات، بل بصيغة عقدٍ تجاريٍّ مع نظامٍ لا يمثّل سوى مصالح أفرادٍ في قيادته.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard