info@suwar-magazine.org

عن قتل الأب في ثقافتنا

عن قتل الأب في ثقافتنا
Whatsapp
Facebook Share

 قراءةٌ في "قدّاس السّقوط"

 

حربي محسن عبد الله

 

احترق أخضر الربيع وبقي العرب كعادتهم أهل صيفٍ وسيف، وإلغاءٍ ونفي، وتسقيطٍ بتحريف التنقيط، في محاولةٍ لطمس آثار التغريب بالتعريب. لا زالتْ تحكمهم القافية منذ أيام "أيها القاضي بقم/ قد عزلناك فقم" حتى يوم الناس هذا. ويسوقهم إلى الإعدام الطول المناسب للمشنقة. ويُعاد إحياء "قرقوش" وأحكامه على يد المتشدّدين ودعاة التقدم إلى الماضي المجيد، من الذين دخلوا من باب ديمقراطية القبائل والقوافل. من هذا الباب نفسه عاد طغيان اللونين الخالدين الأسود والأبيض على كامل المشهد، وإن تلوّنتْ الشاشات وتعدّدت منابر الردح الإعلامية التي تسهم في إذكاء أحطّ ما لدى الإنسان من غرائز الحقد والضغائن والانتقام والتشفي. لكن ثمّة من يقف ليتأمل كامل المشهد ويبحث بين السطور عن الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النتائج.

 

بين يدينا بحثٌ في أسباب العلة الأصلية في كلّ ذلك هو: "قدّاس السقوط"، وهو كتابٌ للناقد والشاعر الجزائريّ أحمد دلباني، يحمل عنواناً فرعياً هو: كتاباتٌ ومراجعاتٌ على هامش الربيع العربيّ. صدر عن دار التكوين في دمشق. يتحدث فيه الكاتب عن ما بات يعرف فلسفياً بمشكلة عدم قدرتنا على قتل الأب في ثقافتنا، وعن إعادة إنتاجه أصولياً وثقافياً. وكيف قاومنا انعتاق طائر العقل وفتوحات العلم بالأشعرية وبالغزاليّ، ووقفنا في وجه مدينة الإنسان بابن تيمية والوهابية. تكمن مشكلتنا –يوضح دلباني- بوصفنا عرباً ومسلمين، في أننا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنما أعدنا إنتاجه في أشكالٍ جديدةٍ من الأصولية العقائدية والانغلاق الأيديولوجيّ المذهبيّ الذي اعتقل العالم والحقيقة في شباك النظرية، والكلمة الأولى التي ادعّت أنها تعلو على وقائعية العالم وفجائعيته. فمشكلتنا أننا لم نشهد اضمحلال المقدّس أو انسحابه من فضاء العمل التاريخيّ في توليد المعنى، بل ظلت تتناسل فينا شهوة التماهي مع الأصل احتماءً من فوضى الحاضر غير المسيطر عليه بشكلٍ جيد.

 

هنا يكمن خطر الثورة السياسية، برأي دلباني، في ظلّ غياب الثورة الثقافية والعقلية التي تناوش قلعة الواقع وتفكّك سلطة المرجعيات المتآكلة. دون ذلك "تبقى بيوتنا مشرعةً دائماً لضيوفها من الآلهة التي ترفض أن تموت". فبينما أصبح التاريخ بيتاً للإنسان مكان المطلق، وعلّم الإنسان كيف يترقّب خروج شجرة المستقبل من بذرتها؛ لا زلنا نحتمي بالأخير في مواجهة زمن الصيرورة، ولا زلنا نخشى سديم التاريخ ورحمه الحبلى بالكواكب والأشعة، وكأننا في حالة يُتمٍ أبديةٍ لا فكاك لنا منها. يوصي دلباني المثقفين أن "يوسّعوا من مجالات اشتغالهم النقديّ ضمن دائرة الثورة باعتبارها أنسنةً ونشداناً لوضعٍ جديدٍ يحتلّ فيها الإنسان مركز دائرة القيم مكان المرجعيات التقليدية"، احتفاءً بالكوجيتو العربيّ الجديد "أنا أثور إذن أنا موجود". ولكن من يُطرد من الباب قد يعود من الشباك، أي قد يعود البرابرة بلباسٍ آخر وتذهب أحلام الثورة أدراج الرياح. فليست الثورة انقلاباً على العرش وإنما هي تهيئة النفس لمنظومة القيم التي كانت السلطة السياسية المباشرة والقائمة تستند إليها. دون ذلك يؤكّد دلباني أن الانتفاضة لن تكون ثورة، وإنما زلزالاً اجتماعياً يفتقر إلى هاجس التخطّي والتجاوز وإلى الحلم الإنسانيّ الأعمق بالتحرّر الشامل. "فالأكثر دواماً هو المقاومة وليس الثورة. المقاومة وعيٌ باهتزاز الشرعية وتفكك نظام المعنى القائم بمرجعياته ورموزه. المقاومة نضالٌ ثقافيٌّ شاملٌ يوسّع الهوة، شيئاً فشيئاً. بيت الشرنقة الوجودية وفراشة الطلائع السوسيولوجية التي أكملت صُنع أجنحتها. إنها فولتير وروسو قبل أن تكون قطع رأس الملك". هنا يأتي السؤال الملحّ ماذا تعني الثورة؟ إن لم تكن انقذافاً في المستقبل؟ لكن الكثيرين منّا يظنون أنها عودةٌ إلى زمن الحلم بفردوسٍ مفقودٍ تحت ضغط الحاضر غير المسيطر عليه. يتساءل الكاتب عن معنى الثورة ضدّ الحاضر، مهما كان استبدادياً وقمعياً وغير عادل، باسم الماضي ورمزانيته التي لم تكن تحلم يوماً بمدينة الإنسان والحرية؟ ليؤكّد السؤال الذي طرحه في أوّل كلماته التي خاطب بها الثورة وجعلها عنواناً للفصل الأوّل من الكتاب "أيتها الثورة، ماذا بعد قطع رأس الملك؟".

 

 

يأخذنا الكاتب في ثنايا مراجعاته لنتأمل سويةً كيف يتم تأبيد سلطة الأب الثقافيّ عبر حالةٍ لا زلنا أسرى لها في المقدّس في التفسير الذي لم ينسحب من فضاء العمل التاريخيّ. نحن أسرى سلطة المرجعيات المتآكلة، فثمّة حديثٌ لا ينتهي عن الهوية. وهناك تراجعٌ كبيرٌ في مضمار حقوق الإنسان، وانتعاشٌ للخطاب التكفيريّ، مع ما رافق ذلك من إحكام القبضة على المجتمع سياسياً وثقافياً وإبداعياً باسم الحقيقة الدينية المطلقة والمقدّسة كما فهمها فقهاء العصور الوسطى ومشرّعوها. "هكذا رأينا مصر العظيمة التي أنجبت لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق في بدايات القرن العشرين، تنحدر في أواخره إلى تكفير الباحث النقدي نصر حامد أبو زيد وتطالب بفصل زوجته عنه".

 

 

ختاماً نشير إلى أن التفاصيل السابقة هي مجموعةٌ من المؤشرات الهامة التي ينبّه إليها دلباني عن أسباب السقوط في اللاجدوى. ويضع أصبع المعنى على الأسباب الحقيقية للإخفاق الذي يحيط بتجاربنا الكبرى والهزّات الاجتماعية التي نعيش في كنفها. ليتكشف لنا مدى الخدعة بالشعارات التي تغنّينا بها، وحجم الكارثة التي اكتشفناها بعد أن تثبّتنا من حجم هشاشة الأرضية التي نقف عليها. فلا يمكن لنا الخروج من أزماتنا الحقيقية بغضّ البصر عن الأسباب الحقيقية لفشلنا الدائم في تجاوز دائرة الأب/ الوصيّ التي أبّدتْ الحركة الدائرية ضمن مدارٍ مغلق. هنا يبدأ قدّاس السقوط بترتيل صلواته التي تحاصرنا، منذ طفولة وعينا وحتى آخر الكوارث التي نزلتْ بنا على يد المتطرّفين والمتشدّدين وكلّ جيوش الظلام التي انطلقت من قمقم الماضي.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard