info@suwar-magazine.org

هل من حلٍّ سياسيٍّ للمسألة السورية؟

هل من حلٍّ سياسيٍّ للمسألة السورية؟
Whatsapp
Facebook Share

 

 

جاد الكريم الجباعي

 

السؤال المطروح أعلاه لا يسأل عن الحلّ، الذي لا بدّ أن يكون، غداً أو بعد غدٍ، في هذه السنة الجديدة (2016) أو في السنوات التالية؛ بل يسأل عن طبيعة الحلّ، التي لا يمكن أن تختلف عن طبيعة "السياسة"/ "السياسات"، التي تنتجه، ولا عن طبيعة القوى التي تمارسها، وفقاً لإستراتيجياتها المختلفة والمتخالفة.

 

قلما يتوقف أحدٌ عند مفهوم الحلّ ودلالاته السياقية، ومنها أنه عكس الربط، أو ضدّ الربط، وعكس العقد، أو ضدّ العقد. بهاتين الدلالتين اللغويتين قد لا يُراد لسوريا ربطٌ وعقد، بل حلّ، مجرّد حلٍّ (سياسيٍّ)، حلّ ما تبقى مما كان مربوطاً ومعقوداً، حلّ جميع الروابط والعقود، وتحللٌ من جميع الالتزامات القانونية والمسؤوليات الأخلاقية، والحيلولة دون أيّ ربطٍ وعقد، سوى ربط القوى المحلية وارتباطها بقوىً خارجيةٍ وانعقاد الرهان عليها. ومع ذلك، يوصف "الحلّ" بأنه "حلٌّ سياسيٌّ". السؤال المطروح، إذاً، هو سؤال السياسة، قبل سؤال الحلّ.

 

يفهم عامة السوريين من الحلّ السياسيّ اليوم أنه حلٌّ غير عسكريّ، فلو أن الحلّ العسكريّ سهلٌ ويسيرٌ وفي متناول أحد الأطراف لما احتاج الأمر إلى حلٍّ "سياسيّ". في هذا الفهم الشعبيّ شيءٌ صائبٌ جداً وعميقٌ جداً هو تنافي العسكريّ والسياسيّ وتناقضهما، خلافاً لما يؤثر عن كلوزفيتز من أن الحرب امتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى، وخلافاً لمقاربة ميشيل فوكو التي تعُدّ السياسة امتداداً للحرب بوسائل أخرى، وإن كانت مقاربة فوكو تصف ما انتهت إليه الحداثة المبتورة والعقلانية الأداتية في الغرب وما أسفرتا عنه من نتائج. وهذا مما يحيل على الجذور الشعبية للفلسفة بوجهٍ عامٍّ والفلسفة المدنية بوجهٍ خاصٍّ، أي على الحكمة.

 

تعني السياسة، في الوعي الشعبيّ أو وعي العامة، علاوةً على التدبير، إمكان تحقيق الأهداف دون استعمال القوّة، باكتشاف ما هو مشتركٌ بين الأهداف المختلفة؛ وعي العامة متقدّمٌ هنا على وعي الخاصّة أو النخبة، التي لا تعني بالحلّ السياسيّ، اليوم، شيئاً أكثر من تثبيت نتائج الحرب. الحرب ضدُّ السياسة والسياسة نقيض الحرب؛ فقد بزغ فجر المدنية مع نفي الحرب، أو نبذها، إلى خارج المدينة–الدولة، وإلا لما كانت الديمقراطية ممكنة. ولا يزال الأمل معقوداً على شفاء البشرية من أمراضها المزمنة، ونبذ الحرب كلياً، وحلّ مؤسّساتها وتدوير أدواتها، ونقد ثقافتها، ومحاكمة قادتها وأبطالها في محكمة الضمير الإنسانيّ.

 

السياسة في العربية تعني التدبير، بحسب العادة ووفقاً للسائد والمألوف. ومنها تدبير شؤون المعاش، وتدبير شؤون الجماعة، أي سَوْسها وسياستها، ومنها "سَوْس الدواب وسياستها"، أي رعايتها وحمايتها وتنميتها، وغير ذلك مما تمتاز به الدواب على البشر في النظم السلطانية والسلطانية المحدثة. فالسلاطين وبطاناتهم لا ينظرون إلى الرعية إلا بصفتها موضوعاً لسلطتهم ومسخَّرةً لهم، كالدواب.

 

وفي المحكية، التي تقبع في خلفية الوعي السياسيّ العربيّ، السياسة هي التدبير كيفما اتفق، تعبّر عن ذلك كلمة دبِّرها، أي لفَّها أو لفلفها كيفما اتفق، أو مشِّيها، وعباراتٌ من نوع: "دبِّر راسك"، وفلان "مدبِّر حاله (حالو)" أو مدبِّر أموره، وأشباهها، التي تدلّ على الحيلة والاحتيال. والحيلة في العربية ترادف التدبير، أي السياسة، ولذلك يقول السياسيون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر، ويدبّرون الأمور كيفما اتفق وفقاً لمصالحهم الخاصّة العمياء. فلا تزال "السياسة" تتكلم بلغة التدبير، لا بلغة المعرفة والعلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والإنسانية، ولا بلغة القيم والمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها بين أفراد الجماعة الإنسانية.

 

لا بدّ من التوقف ملياً عند معنى السياسة في اللغة العربية، لأنه يتصل أوثق اتصالٍ وأشدّه بمعنى الرعوية (من الرعي) وتراتبية الرعاة والرعايا في النظم البطركية، والبطركية المحدثة، الموازية لتراتبية السماء والأرض والخاصَّة والعامة والسادة والتابعين. الرعيّة في نظر السلاطين والمتسلطين وبطاناتهم موضوعٌ للرعاية، التي لا تختلف عن رعاية الدواب، باستثناء ما تمتاز به الدوابّ على البشر من حمايةٍ وتنمية، وحرمانها من تلك الحرّية الطبيعية، التي هي عتبةٌ مشتركةٌ بين الإنسان والحيوان. فلا الحرّية الطبيعة متاحةٌ للرعايا البشرية، ولا الحرّية المدنية ممكنة. نسوق هذا كله للكشف عما يربط السياسة بالحياة المدنية والحرّية المدنية، بخلاف ما تعنيه، في المنظومة الرعوية، من العمل على ضبط المجتمع بالقوّة العارية وانضباطه الكليّ بالقوّة الناعمة.

 

 

أما السياسة المدنية، policy، فمشتقةٌ من المدينة polis عند اليونان، وتعني جملةً من المسؤوليات القانونية والواجبات الأخلاقية ملقاةً على عاتق شخصٍ حرٍّ هو عضوٌ كامل العضوية في المدينة–الدولة. فهي، أي السياسة، صفةٌ مدنيةٌ للمواطِنة والمواطن باعتبار كلٍّ منهما كائناً اجتماعياً وسياسياً وشخصاً قانونياً وأخلاقياً، بالتلازم الضروريّ، متساوياً مع نظرائه في الكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية والجدارة واستحقاق الحقوق المدنية والسياسية.

 

ثمة علاقة ارتباطٍ وثيقةٌ بين السياسة والتمدّن والديمقراطية، تقابلها علاقةٌ وثيقةٌ بين الحرب والتوحش والاستبداد. هذه الثلاثة الأخيرة كانت ولا تزال من أبرز سمات الحياة العامة السورية، منذ سيطر العسكر على السلطة وتفرّدوا بها. وهي سمةٌ فرعيةٌ من سمات الحياة العامة للبشرية، التي تسيطر عليها "النخبة العالمية" المتنافسة، لا على الموارد المادية واللامادية فقط، بل على إدارة الأزمات والحروب أيضاً.

 

يرى بريجينسكي أن توزّع القوى العالمية الأساسية بين عشر دولٍ، هي الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والبرازيل وإندونيسيا، وفقاً لمعايير مختلفة؛ يجعل السياسة العالمية أكثر تمثيلاً جغرافياً وبشرياً من جهةٍ وأقلّ توافقاً وتماسكاً من الجهة المقابلة. (يلاحَظ أن القارة الأفريقية والقسم الآسيويّ من الشرق الأوسط غير ممثلين أولاً، وخارج معادلات القوّة ثانياً، ويمكن القول إنهما خارج التاريخ). تمثل هذه التركيبة الراهنة للنخبة العالمية تحوّلاً تاريخياً في عملة التوزّع العالميّ للقوّة قد يفضي إلى إبعاد مركز الثقل عن الغرب، وهو الهاجس الذي يوجّه سياسة الولايات المتحدة وحلفائها الإستراتيجيين.

 

 

ولكن الوتيرة العالية لتحوّلات القوّة العالمية تشير إلى التسارع التاريخيّ في التوزّع المتغيّر لهذه القوّة، من جرّاء صيرورة الحركية السياسية الواعية ظاهرةً اجتماعيةً متزايدة الانتشار، ما يجعل معادلات القوّة أكثر تقلباً، وتفوُّق هذه الدولة أو تلك أقلّ دواماً. في ضوء هذين التقلب المتسارع وعدم اليقين في ديمومة التفوّق يبدو المشهد السياسيّ العالميّ مضطرباً، ينطوي على احتمالاتٍ خطرة، تتجلى في تفجّر مزيدٍ من النزاعات المحلية والبينية أو تفجيرها، وانهماك النخبة العالمية في التنافس على إدارتها، كما هي الحال اليوم في البلدان المقصية على هامش التاريخ (أفريقيا والقسم الآسيويّ من الشرق الأوسط)، والتي يبدو أنها ميدان صراع القوى بين الدول المشار إليها، ولا سيما الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. والحالة السورية الراهنة ومثيلاتها شواهد شديدة الوضوح على ذلك.

 

بيد أن الحركية الشعبية الواعية، وقد غدت ظاهرةً اجتماعيةً متزايدة الانتشار، لن توفر دول النخبة العالمية ذاتها، إلا إذا تمكنت هذه الدول من إحكام قبضتها على شعوبها وترهيبها من الغول الجديد، "الإرهاب"، الذي يثابر إعلامها على أسطرته. فلا يمكن تجاهل آثار التفاوت الاجتماعيّ وعمليات التهميش المتمادية في هذه البلدان واحتمالات تفجّر حركاتٍ شعبيةٍ واعيةٍ في كلٍّ منها في تغيّر معادلات القوّة العالمية، أو تغيّر مواقع هذه الدول على سلّم القوة العالمية. القوّة، ولا سيّما القوّة العسكرية، ليست المعنى الأخير للتاريخ.

 

يقال إن وضع مسألةٍ ما هو حلّها، أو كيفية حلّها والطريق إليه، فكيف تضع القوى المحلية والإقليمية و"النخبة العالمية" المسألة السورية؟ ثورةٌ على نظامٍ تسلطيٍّ أم صراعٌ على السلطة أم صراعٌ إقليميٌّ ودوليٌّ على النفوذ؟ حربٌ أهليةٌ أم حربٌ طائفية؟ نزاعٌ سنّيٌّ شيعيٌّ أم حرب سنّةٍ على علويين وغيرهم من "تحالف الأقليات"، أم إرادة التوحش و"إدارة التوحش" و"حربٌ على الإرهاب"؟

 

لقد صار واضحاً أن كلّ واحدةٍ من الدول الضالعة في الحرب، والوالغة في دماء السوريين، تنظر إلى المسألة السورية وفق واحدٍ أو أكثر من الاعتبارات المشار إليها أعلاه، باستثناء اعتبارها ثورةً شعبيةً واعيةً على نظامٍ تسلطيّ. وأن كلاً منها تقترح حلاً للمسألة وفقاً لرؤيتها، وتحاول تسويقه أو فرضه إن أمكنها ذلك. وصار واضحاً أيضاً أن هذا الاستثناء، أي استثناء أن تكون المسألة السورية مسألة ثورةٍ على نظامٍ تسلطيٍّ، يجعل من جميع الحلول المقترحة حلولاً غير سياسيةٍ، تهدف كلها إلى تثبيت نتائج الحرب، وإرادة التوحش و"إدارة التوحش"، علاوةً على أنها تحرم السوريين، جميع السوريين، من العدالة.

 

منطق السياسة المدنية هو منطق العقود، التي تقوم على تكافؤ المتعاقدين وإرادتهم الحرّة وقبولهم المتبادل، وتتأسّس جميعها على عقدٍ أصليٍّ، دستور، يتأسّس على مبادئ المساواة والحرية والعدالة، ويقبل به الجميع صراحةً، بالاستفتاء، بعد نقاشٍ عامّ، أو ضمناً، بعدم الاعتراض، ويؤخذ بآراء المعترضين عليه قبل إقراره. فليس من "حلٍّ سياسيٍّ" ممكنٍ للمسألة السورية قبل وقف الحرب وقفاً تاماً، بما في ذلك ما يسمّى الحرب على الإرهاب. فلا يمكن الركون إلى أيّ تعريفٍ للإرهاب لا يشمل الدول التي تريده وتديره، والنظم التسلطية المندرجة في إستراتيجياتها على أنها أدواتها الخاصّة بالأعمال القذرة.

 

في ضوء ما أشرنا إليه من تقلبٍ متسارعٍ في معادلات القوّة في السياسة العالمية، وعدم اليقين في ديمومة تفوّق هذه الدولة أو تلك، وتحوّل الحركية السياسية الشعبية إلى ظاهرةٍ اجتماعية، وإمكان تحوّلها إلى ظاهرةٍ عالميةٍ تزعزع استقرار الدول الكبرى؛ يبدو "الإرهاب الإسلاميّ" أداةً من أدوات السياسة العالمية والسياسات المحلية، يؤكّد ذلك اضطراب المعايير التي تصنَّف على أساسها الدول والجماعات إرهابيةً أو راعيةً للإرهاب واختلافها وتباينها. وقد تكون الدول الأكثر حماسةً للحرب على الإرهاب هي أكثر الدول توليداً له واهتماماً بإدارته واستثماره لتحقيق غاياتها.

 

فما دامت الحلول، التي تقترحها القوى النافذة، تفضي كلها إلى تثبيت نتائج الحرب وإخلاء مسؤولية المجرمين عن جرائمهم، ليس من حلٍّ سياسيٍّ قريبٍ وليس من حياةٍ سياسيةٍ ممكنة. وستظلّ المسألة مفتوحةً على المجهول حتى يصير السوريون قادرين على تقرير مستقبلهم وتدبير مصيرهم بأنفسهم.

 

.

.

اقرأ المزيد للكاتب .. 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard