info@suwar-magazine.org

ناجي عبيد.. آخر نازيّي العرب.. ما زال مسدس أنطون سعادة على خاصرته

ناجي عبيد.. آخر نازيّي العرب.. ما زال مسدس أنطون سعادة على خاصرته
Whatsapp
Facebook Share

 

95 عاماً وما زال يحلم

 

*سناء إبراهيم

 

 

تدرّب على أيدي النازيين، ومهووسٌ بإطعام قطط دمشق. مجرّبٌ باللون والخط والكتلة، ومنتمٍ إلى رسّامي السوق، ومجايلٌ لأعلام التشكيل السوريّ ومؤسّس. يتجنبه مثقفو البلد ونقّادها. ثريٌّ بما لا يسمح بمناقشة ثرائه. معتكفٌ في مرسمه (في التكية السليمانية) حيث تواضع المكان. معمّرٌ من معمّري البلاد، ولا يرى للموت أهميةً والموت يقرع بابه. ضابط استخباراتٍ زمن الوحدة السورية - المصرية، ومتسائلٌ عن سرّ الكون وسؤال الوجود. ذاكرته كما الصوّان وجسده كذلك. لم يقترب من الصلصال يوماً، وسيرته ممتلئةٌ بالتفاصيل، تفاصيل يمكن إعادة نحتها كما الصلصال أيضاً، قد يكون أبرزها أنه صحب أنطون سعادة إلى حتفه، وفي الطريق نال (مسدس) سعادة، وما زال المسدّس ملقّماً كما لو أنه جاهزٌ للإطلاق.

 

إنه ناجي عبيد، صاحب "عنترة وعبلة"، الرجل الذي لا يخلع النظارة السوداء عن عينيه، واحدٌ من بين تشكيليين سوريين، ليس أوّلهم فاتح المدرس والياس الزيات ونذير نبعة والمنتحر في مجازفة الوجع لؤي كيالي، لكلٍّ من هؤلاء ما علق في ذاكرة تاريخ اللون. أيّ لونٍ عالقٌ في التكية السليمانية؟ أيّ لونٍ هو ناجي عبيد؟

 

 

من الصعب أن تقول من هو ناجي عبيد (ولد 1918)، ومن الصعب أن تختصر عمره الممتدّ على قرنين من الزمن في كلماتٍ عابرة، فإذا ما سألته من أنت؟ يجيبك: أنا إنسان الكوكب، باستطاعتي أن أرسم أعمالاً تعادل فن عصر النهضة قبل 660 سنة.

 

ناجي.. جدٌّ لابنه:

 

في الركن الخلفيّ المخفيّ من حياته، عاش ناجي سنوات عمره وشربها. لم يبكِ عندما رافق أنطوان سعادة إلى إعدامه، لكنه يبكي اليوم عندما يرى إحدى لوحاته وقد أصابها التلف. هو بطل سوريا في الملاكمة والرماية، وهو العاشق الذي يكبر زوجته بـ37 عاماً، كما هو الجدّ والأب والصديق لولده محمد الذي يصغره بـ85 عاماً. هو الآن في طريق الزوال كما أخبرنا، رئته أصيبت بالتهتك، وقلبه فقد أهليته، لذلك يستعد لدخول المشفى، و"جائز أن لا يعود" كما قال لنا. من أجل ذلك يرتب ممتلكاته علّها تعود بالفائدة على ابنه. لا يخاف الموت، لكنه يُبقي صوت الراديو عالياً، فالضجيج يحول دون التأمل والتفكير. أحبّته الحياة كما لم تحبّ إنساناً آخر (هو يقول ذلك)، فمنحته 97 عاماً من عمرها، كل سنةٍ منها تساوي حياةً كاملة. وإذا سألته ماذا تعني لك هذه السنوات؟ يقول: "97 سنة هي أشبه بأكلة بتحبّيها، بتاكليها كل يوم، وبعد ما تشبعي منها بتقومي بتغسّلي، وكأنكِ ما أكلتي"، و: "هذه هي الحياة، أنا عرفت وجودي وإمكانياتي وتفهّمت الحياة، لهذا لا أخشى مغادرتها".

 

عيونهنّ المطموسة:

 

الحركة التشكيلية السورية ممهورةٌ بثلاث بصماتٍ لناجي عبيد؛ رسم عنتر وعبلة فبات خيال تاريخهما حصرياً به، ورسم العين المغمضة (المطموسة) في معظم لوحاته الأساسية، فبات السواد يتطلع إليك حيث كنت، وأضاف الخط العربيّ إلى اللوحة ليقول الحرف ما لا يقوله اللون.

 

 

أخذ ناجي من الغرب التكنيك، فكانت لوحته تلعب مع التجريد، ومن الحضارة العربية انبساط اللوحة ببعدين، فألغى البعد الثالث التي تتميّز به اللوحة في التصوير الأوروبيّ (طول وعرض وعمق)، ألغى العمق، وحدد أطراف اللوحة بالخط الأسود، وطمس العين، وأدخل الحرف والكلام على اللوحة، كما أدخل الرقش والتزيين العربيّ ذي الأصول المحلية العربية الشعبية التي لم يهتمّ بها أو يركز عليها أحدٌ من رسامي جيله (وربما الأجيال اللاحقة من مقلديه)، أعاد ناجي اللوحة إلى طفولتها وبراءة اليد.

 

 

عنترة خيال الحرية.. قصيدة العاشق:

 

ولكن لماذا عنتر وعبلة تحديداً يا ناجي؟ "عنترة خيال الحرية التي تحمل نفسها فوق السيف. عنترة خيال العشق. ذاك الخلاسيّ من أمٍّ هي الحبشية الجارية لبيبة وأبيه الأمير العربيّ. الغرب -كما الشرق- اهتمّ به، لأنه أسود وناضل في سبيل عرقه وجنسه، إضافةً إلى أن فكره لم يكن استعمارياً، كان مناضلاً من أجل الحرية. شخصية عنترة لم تبنَ على أساس مكاسبٍ دينيةٍ أو عنفيةٍ أو طائفيةٍ أو اقتصادية، بل بنيت على أساس إنسانٍ يحاول أن يثبت وجوده ونسبه، واستطاع أن يثبت ذلك".

 

5037 لوحة حصيلة ما رسم:

 

يصف عبيد نفسه بالفنان الأغنى في العالم، لا بالحصاد الماليّ ولكن بلوحاته، فحصيلة عمره الفنيّ 5037 لوحة، وفي منزله ما يملأ ثمانية غرفٍ باللوحات، عمر بعضها سبعون سنة، رسمها لمرّةٍ واحدةٍ ولم يعد لرؤيتها ثانية. كما يقتني ما يقارب 500 لوحةٍ يصفها بالثمينة، حاول أن يكون السبّاق إليها كما يقول، ولم يسبق لرئيس دولةٍ أو مليارديرٍ في العالم أن اقتناها؛ ومنها لوحةٌ للملك فيصل ملك سوريا وهي من أندر الأعمال، ولوحةٌ للشريف حسين، ولوحةٌ لأخت الملك فاروق ملك مصر، ولوحةٌ ليوسف العظمة موجودةٌ الآن في متحف المهاجرين بدمشق، ولوحةٌ لأديب الشيشكلي، ولوحةٌ لعاهل الأردن الملك حسين. كما يمتلك أندر قطعة عاجٍ (ناب الفيل) في العالم، طولها 167 سم، على وجهها الأول رُسم يومٌ من حياة الإنسان في إفريقيا، فيما يمثل الوجه الآخر يوماً في حياة الحيوان، وكانت من مقتنيات الرئيس السوريّ الراحل تاج الدين الحسني. ويمتلك عبيد التقويم الفلكيّ لحضارة المايا والأزتيك الذي يحوي الجهات الأربع الفرعية. ويمتلك مسدس أنطوان سعادة الذي أخذه الأخير من الدوتشي موسوليني. وهو، كما يصفه: مسدسٌ صغير، 6 ملم، صوته أقوى من الكلاشينكوف، له مشطان: مشط يتسع لـ22 طلقة، وآخر يتسع لـ9 طلقات، وطلقة واحدة في بيت النار. وضع فيه ناجي قطعتين من الذهب، ولديه ترخيصٌ من الحكومة بحيازته.

 

في سنواته الأخيرة يعيش ناجي من أجل لا أحد، سوى ابنه محمد الذي يصفه بغير العاديّ، ويحيل ذكائه إلى التناقض الذي جمعه -وهو عربيٌّ شمّريٌّ من آل الرشيد- بزوجته الفلسطينية، وإلى فارق العمر الكبير بينهما الذي سينتج مولوداً من اثنين، معاقاً أو خارقاً. يعتكف ناجي في مرسمه الصغير، وحيداً دون رفقةٍ سوى بعض أصوات القصف القادمة من ضواحي العاصمة، وبعض خربشاتٍ ترسمها القطط على لوحاته متجاهلةً نظراته كما وجوده.

 

ناجي في الطريق إلى المشفى، يقول:

 

- لن أعود منه هذه المرّة.

 

نحن نقول: "عقد زواجك مع الحياة لم ينته بعد".

.

.

اقرأ المزيد للكاتبة ..

 

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard