info@suwar-magazine.org

قراءة في رواية "ألف شمسٍ مشرقة" لخالد الحسيني

قراءة في رواية "ألف شمسٍ مشرقة" لخالد الحسيني
Whatsapp
Facebook Share

 

نساءٌ في الهوّة الفاغرة بين الحبّ والموت

 

 *أنجيل الشاعر

 

 

كيف اتفق أن ما جرى في أفغانستان يجري مثله في سوريا وغيرها: "البشتون كانوا يهاجمون بيوت الهازارا، يقتحمونها، ويقتلون عائلاتٍ بأكملها، والهازارا ينتقمون باختطاف المدنيين من البشتون واغتصاب نسائهم وقصف أحيائهم والقتل دونما تمييز. كلّ يومٍ تكتشف جثثٌ مقيّدةٌ إلى الأشجار، بعضها تكون محروقةً فلا يمكن التعرف عليها، غالباً ما يكون الرصاص قد أطلق على الرؤوس، والعيون مفقوءة والألسن مقطوعة ..." (ص 184). لا يمكن إلا أن تفرض المقارنة نفسها على القارئة السورية والقارئ السوريّ لدى قراءة هذه الرواية. لماذا حدث ما حدث هناك، ولماذا يحدث هنا أو في غير مكان؟ لا تطرح الرواية السؤال، ولكنها توحي به إيحاءً، بل تفرضه بداهةً.

 

"منذ سيطرة المجاهدين في نيسان 1992 تغير اسم أفغانستان إلى الولاية الإسلامية الأفغانية. المحكمة العليا بقيادة رباني امتلأت بالملالي المتشددين، .. أُمرت النساء بالتحجب، وحُرّم عليهنّ السفر بدون محرم، وتهمة الزنا تعاقب بالرجم .." (ص 265، بتصرف). فقد نظر الحسيني إلى الحروب الأفغانية من زاويةٍ إنسانية، محورها ما عانته النساء الأفغانيات قبل هذه الحروب وأثناءها. بل يمكن القول إن الرواية تعبّر تعبيراً عميقاً عن نظرة النساء إلى المجتمع والدين والحرب، في ضوء نظرة المجتمع والدين إلى المرأة وأثر الحرب في حياتها، كأنّ الحروب كلها تدور على أجساد النساء. كلّ ما كان يريده المجتمع الأفغانيّ وكلّ ما تريده العقائد الدينية هو انضباط الجسد الأنثويّ انضباطاً تاماً، وفق مشيئة الذكور.

 

 

"مريم" و"ليلى" و"عزيزة"، ثلاثة أجيالٍ من نساءٍ باكياتٍ ومبكيات، مقهورات، مغبونات، اضطهدن من قبل الحرب والرجل والدين والمجتمع، أولئك هنّ نساء "ألف شمس ساطعة".

 

هكذا أنهى خالد الحسيني روايته، بولادةٍ جديدةٍ بعد أربعة عقودٍ ونيّف من المخاض العسير لبطلاتها وأبطالها، في أرضٍ شهدت من ويلات الحرب الجسيمة التي مرّت بها أفغانستان، بدءاً من الغزو السوفييتي، فتناحر الجهاديين في ما بينهم، ثم حكم "الطالبان" الظلاميّ والمظلم مروراً بأحداث سبتمبر، حتى عام 2009.

 

 

ثلاثة أجيالٍ متعاقبةٌ من الشعب الأفغانيّ يعرضها لنا الكاتب ببناءٍ شاسعٍ متمثلٍ في مجتمعٍ بأسره خلال حقبةٍ تاريخيةٍ معيّنة، بآلامه وآماله، بالتمايز الطبقيّ، والانقسام الطائفيّ، والتطرّف الإسلاميّ المتمثل في "الطالبان" والحروب الطاحنة، وأولاً وأخيراً التمييز ضد المرأة وتضحياتها المستمرّة من أجل البقاء. كتب الحسيني روايته باللغة الإنكليزية، ليعرض للعالم الغربيّ معالم حضارةٍ شرقيةٍ مدفونةٍ يجهلها الغرب أو يتجاهلها. إن "هِرات، المدينة التي ولدتِ فيها عام 1958، كانت ذات يومٍ مهد الثقافة الفارسية، وموطن الكتاب والرسامين، والمتصوفة" (ص 10). لكن أمراء الحروب والجهاد لم يتركوا من تلك الحضارة شيئاً.

 

 

بطلتا الرواية "مريم" و"ليلى" من مكانين وجيلين مختلفين، جمعتهما قسوة المجتمع ولاإنسانية الشريعة وظروف الحرب والشتات تحت سقفٍ واحد، زوجتين لرجلٍ واحد، تعانيان صنوف القهر والاضطهاد، في منزلٍ جعلت منه الحرب وقيود الشريعة سجناً لا يطاق. فقد حرَّم الطالبان عمل النساء وتعليمهنّ وفرضوا عليهنّ التزام البيوت، فلا يغادرنها إلا منقباتٍ ومخفوراتٍ بأبٍ أو أخٍ أو زوجٍ أو غيرهم من المحارم.

 

"مريم" "الحرامي"، أي ابنة الزنا، ثمرة نزوةٍ غريزيةٍ لرجلٍ واسع الغنى والشهرة وامرأةٍ واسعة الفقر، من حضيض المجتمع. ابنة خادمةٍ أذعنت لنزوة سيدها، وحملت منه، فنبذها وحمْلَها إلى كوخ، في مكانٍ قصيٍّ خارج المدينة، هرات. تواطأت عليها تقاليد المجتمع، كما تواطأت على أمها التي طالما كانت تتمنّى لنفسها أن تكون امرأةً كغيرها من النساء اللاتي يعترف المجتمع بأهليتهنّ زوجةً شرعيةً وأماً شرعيةً لأولادٍ شرعيين. ما كابدته الأمّ تسلل إلى ابنتها أضعافاً مضاعفةً من الذلّ والمهانة على يد رجلين، أحدهما أبوها المتخاذل، "جليل"، والثاني زوجها المتوحش "رشيد"، الذي زُوِّجت منه قسراً، بعد انتحار أمها.

 

 

 مريم ضحية تواطؤ التقاليد والشريعة، أما ليلى فضحية الحرب. "ليلى" ابنة "حكيم"، معلم المدرسة المتقاعد والمثقف، الذي عمل جاهداً على تعليم ابنته. لكن الحرب لم تمهله، واجتثته وزوجته بانفجارٍ عنيف. فكان قدر "ليلى"، التي تمثل الجيل الثاني المتعلم نسبياً والأقلّ جهلاً من جيل "مريم"، أن ينقذها جارهم "رشيد" من تحت الأنقاض، ويتزوّجها بعد أن تشفى من جروحها، وهي لا تزال طفلة، يكبرها بخمسين عاماً.

 

في البداية أحسن "رشيد" معاملة "ليلى" حتى حملت، ولكن سرعان ما تغيّرت معاملته بعد أن وضعت مولودتها "عزيزة". البنت في نظر "رشيد" وأمثاله في المجتمعات المتخلفة وباءٌ قاتل، تماماً كما كان يفعل بـ"مريم" بعد إجهاض حملها الأول والأخير. التاريخ يتكرّر، والمرأة تحمل وزر النوع البشريّ في تجسيد المجتمع الذكوريّ بإنجاب "الصبيان"، ومن لا تنجب صبياً لا تصلح أن تكون زوجة. مصائر معظم النساء متشابهة، سواء بسبب التقاليد أم بسبب الشريعة أم بسبب الحرب أم بسبب القحط.

 

بعد سنواتٍ عجافٍ أنجبت "ليلى" لـ"رشيد" صبياً أسماه "زلماي"، فنال من الدلال والحبّ ما لم تنله أخته "عزيزة" التي أودعت دار الأيتام بسبب القحط الذي مُنيت به أفغانستان، فصار الجوع والعطش والحرب هي القاسم المشترك بين الأفغان على اختلاف أطيافهم.

 

ولكن، على الرغم من المصائر الفاجعة والمعاناة المريرة، ثمة ما يبعث على الأمل، ويدعو إلى التحمّل، إنه الحبّ الذي جعله الحسيني نافذةً مفتوحةً على المستقبل، والذي ساعد "ليلى" على التحمّل ومواجهة مصاعب الحياة، جعل "مريم" تغدق ما تختزنه روحها من الحبّ على ضرّتها "ليلى" وابنتها "عزيزة"، ثمرة الحبّ. ذاكرة "ليلى" مفعمةٌ بحبّ "طارق" صديق طفولتها وحبيب ريعانها وأبو طفلتها "عزيزة" التي كانت ثمرة لحظةٍ متوهجةٍ بالحياة مشعةٍ بالأمل، لحظة وداع "طارق" لـ"ليلى"، قبل سفره بساعات. فقد أجبرها حملها وموت والديها على القبول بـ"رشيد" زوجاً بعد أن دبّر لها الأخير من يخبرها بالموت المزعوم لـ"طارق". منحت صداقة الزوجتين الصادقة، بعد خلافاتٍ كبيرةٍ وفترةٍ لا يستهان بها من الزمن، المرأتين قوّةً استثنائيةً جعلت الحسيني يخرج بالحدث إلى مكانٍ آخر لا وجود فيه للظلم والعبودية، من خلال هروب الزوجتين من "كابل". لكنه عاد بهما مسرعاً إلى مسرح الأحداث. قبض عليهما "الطالبان" وأعادوهما إلى "رشيد" الذي استأسد في الانتقام منهما، وكاد أن يقتل "ليلى" خنقاً، فأنقذتها "مريم" من بين يديه بقتله، فدفعت حريتها ثم حياتها دفاعاً عن "ليلى" وعن ابنتها "عزيزة".

 

اعترفت "مريم" بأنها قتلت "رشيداً" دفاعاً عن "ليلى" وعن نفسها، وليس لديها من يشهد على ذلك سوى "ليلى". لكن الشريعة، التي لا تقبل إلا بشهادة رجلين أو رجلٍ وامرأتين، حكمت على "مريم" بالموت. قال "الطالبان": "إني أتعجب. لقد خلقنا الله مختلفين، أنتنّ معشر النساء ونحن معشر الرجال. عقولنا مختلفة. أنتنّ غير قادراتٍ على التفكير مثلنا. لقد أثبت الأطباء الغربيون بعلمهم هذا الأمر. لهذا لا نقبل الشهادة إلاّ بامرأتين، بينما يكفي رجلٌ واحد" (ص 472). 

 

وقبل النطق بالحكم قال الطالبان المسنّ، وكان مريضاً إلى حدّ الموت: "يراودني إحساسٌ بأنكِ لست امرأةً شريرةً يا "همشيرة". لكنك ارتكبت فعلاً شريراً. ويجب أن تدفعي ثمن فعلتك. الشريعة ليست ملتبسةً في هذا الأمر. تقول يجب أن أرسلك إلى حيث سألحق بك سريعاً. وليغفر لك الله". أُعدمت "مريم" أمام حشدٍ كبيرٍ من النساء والرجال.

تعيش النساء في الهوّة الفاغرة بين الحبّ والموت، والرجال والغون في الدم. الحرب هي الهوّة الفاغرة بين الحبّ والموت، حرب التقاليد على النساء، وحرب الشريعة على النساء، وحرب الرجال على النساء، فهل من مخرجٍ سوى الحبّ؟

 

.

.

.

اقرأ المزيد للكاتب .. 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard