info@suwar-magazine.org

المجتمع المدنيّ السوريّ: إشكاليّة الهويّة!

المجتمع المدنيّ السوريّ: إشكاليّة الهويّة!
Whatsapp
Facebook Share

 

* فاروق حجّي مصطفى

 

 

تشغل مسألة هوية المجتمع المدنيّ السوريّ بال الكثير من الذين يرون أنفسهم جزءاً من هذا الحيّز. وهي مسألةٌ ليست هيّنةً بكل تأكيد؛ فمن جهةٍ يعجز الفاعل عن إبراز هويته وخطابه المدنيّ، ومن جهةٍ أخرى تعجز المنظمات عن بلورة هويّةٍ للفاعلين وللعاملين في الحقلين المدنيّ والإنسانيّ السوريين. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه ليس شرطاً أن يكون العامل في المنظمات حاملاً لفكرة وقيم المجتمع المدنيّ، بيد أنه شرطٌ أن يتحلى القائمون على المنظمات بقيم المجتمع المدنيّ وخطابه أيضاً!


والحق أنّ سبب عدم نضوج هويّة المجتمع المدنيّ وظهوره يعود بالدرجة الأولى إلى أمرين:

 

الأول: ظروف ظهور المجتمع المدنيّ السوريّ بهذه الكثافة، إذ إنّ مجمل المنظمات التي نراها اليوم ونتفاعل معها ولدت من رحم الثورة، وربما أتت من تحت إبط المعارضة إلى درجةٍ تثير الشكوك وعدم قدرة أحدٍ على التمييز بين من هو فاعل المجتمع المدنيّ ومن هي المعارضة، وهذا ما يؤثر أو سيؤثر على العمل المدنيّ في سوريا عموماً. وربما من الصعب بمكانٍ أن يتخلص الفاعل المدنيّ نفسه من مسألة التخندق، وربما من الاستحالة أن يتحوّل الفاعل المدنيّ من كونه يعمل في القاع المجتمعيّ المعارض إلى كونه يعمل في كلّ الحيّزات الجغرافية والمجتمعيّة. فضلاً عن أنّ البيئة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة غير مهيّئةٍ لإنتاج فاعلين حقيقيين يعملون بمصداقيةٍ في حيّزهم المدنيّ، ويستجيبون لحاجات الناس وقضاياهم، دون الانغماس في هويّة الناس وخلفيتهم السياسية والثقافية-الاجتماعيّة.

 

الثاني: طغيان الحرب وتداعياتها على القاع المجتمعيّ، ما دفع بالكثير من الذين لا علاقة لهم بالمجتمع المدنيّ ولا يحملون ثقافته وقيمه إلى الاشتغال في هذا الحيّز، ما انعكس سلباً على أداء المجتمع المدنيّ ودوره وحضوره.


ولا نستغرب أنّ بين السببين اللذين عرضناهما هناك سببٌ ثالثٌ أسهم، بشكلٍ أو بآخر، في تأخير بلورة هويّة المجتمع المدنيّ، وهو غياب ميثاق الشرف بين المنظمات أو الأفراد؛ أو لنقل مجموعة المبادئ التي لو وُجدت لكانت لعبت دوراً كبيراً في تحسين أداء الحيّز المدني، بمعنى أنها كانت تشكّل بمثابة نواةٍ لبناء القيم وثقافة المجتمع المدنيّ عليها، وبدا أنّ غياب القيم سببٌ أساسيٌّ في إظهار هويّة المجتمع المدنيّ السوريّ.

 

إشكاليّة الهويّة تكرّر نفسها!

 

في زمن "ربيع دمشق" دار سجالٌ حامٍ بين المهتمين والمشتغلين في "المجتمع المدنيّ"، وكانت النقطة الخلافية حينذاك تدور حول: هل ما يمارسه الناشطون تحت عنوان "المجتمع المدنيّ" هو خطاب المجتمع المدنيّ أم المجتمع المدنيّ نفسه؟ مع أنّ المجتمع المدنيّ شرطه خطابه؛ إذ لا يمكن أن نتحدث عن "خطابٍ" إن لم يكن هناك بالفعل مجتمعٌ مدنيّ.


ولا نقول إنه من سوء حظّ هذا الحيّز –أي حيّز المجتمع المدني- هو أن التنظير فيه على قدمٍ وساق، وبإمكان الجميع ان ينظّروا ويعطوا تفسيراتٍ وتأويلات، ويوغلوا في جملةٍ من المفاهيم، وأحياناً يؤدي هذا الإيغال بصاحبه إلى التماسّ أو التماهي بالسياسة، وينسى أن المجتمع المدنيّ ينتهي مع البدء بالسياسة (السلطة). ومن الغرابة بمكانٍ أنّ البعض يتجاوزون السياسة–السلطة وتراهم ما يزالون يتباهون بأنهم يتحدثون بالنيابة عن المجتمع المدنيّ، والكثير منهم يقدمون أنفسهم على أنهم المجتمع المدنيّ نفسه!


 والحال.. هل بيئة الحرب تنتج المجتمع المدنيّ؟ في العموم يُعرف المجتمع المدنيّ بالمؤسّسات والأطر والنقابات، وهذا ما يستدعي أن يكون هناك وجودٌ للسلطات وحركةٌ للمال والأعمال وحركةٌ للمجتمع والأسواق، أي بالمختصر يحتاج الى استقرارٍ وحياةٍ طبيعية. ومن المعروف أنه في ظلّ الحرب يفتقر المجتمع المدنيّ إلى هذه الشروط والظروف، ما يعيدنا إلى نقطة البداية وهي نقطة عجز بلورة هويّة المجتمع المدنيّ. فبالإضافة إلى الحرب هناك انقسام المجتمع بين موالاةٍ ومعارضة، مما قد يكون سبباً إضافيّاً لعدم قدرة المجتمع المدنيّ أن يظهر نفسه من خلال هويته ويصعب عليه أن يواجه استحقاقاته!

 

بين المدنيّ والأهليّ: ضياع الهويّة!

 

لا نستغرب أنّ المجتمع الأهليّ لا يشبه المجتمع المدنيّ، فلكلّ حيّزٍ من هذين الحيّزين بيئته وقيمه وثقافته وجمهوره. وبالرغم من ذلك، وفي الكثير من الأحيان، نقع في الخطأ ونخلط بين ما هو المجتمع المدنيّ وما هو المجتمع الأهليّ!

 

يعمل المجتمع المدنيّ في الدولة الحديثة، دولة المواطنين، ويعمل المجتمع الأهليّ في إطارٍ معيّنٍ بدءاً من العشيرة وانتهاءً بالمجال الدينيّ. ويلتقيان فقط في نقطةٍ وهي التطوّع وتقديم الخدمات وتبني قضايا الناس؛ بيد أنّ المجتمع المدنيّ يقدّم لصالح كلّ ما هو عام، والمجتمع الأهليّ يقدّم لكلّ ما هو خاصّ. وهنا نصبح أمام مجموعةٍ من التساؤلات حول المجتمع المدنيّ (والأهليّ). وعدا عن سؤال المجتمع المدنيّ نفسه هناك سؤال استحقاقات المجتمع المدنيّ السوريّ، فمقاربة استحقاقاتٍ أو الاستجابة لها تبرز الهويّة وتميّزه عن المجتمع الأهليّ، وتبرز مدى مقاربة فاعل المجتمع المدنيّ لقضايا الناس (أفراداً وجماعات). وبمعنى أوضح فإن الإجابة عن سؤال الاستحقاق هي نفسها تسهل أمامنا الطريق أمام معرفة ماهية المجتمع المدنيّ.

 

استطراداً، مسألة المجتمع المدنيّ السوريّ مسألةٌ يشوبها التباس، إذ ثمة إشكاليةٌ تلازم الحديث عن المجتمع المدنيّ، فمرّة سألت أحد القيادات في حقل المجتمع المدنيّ، وقلتُ: ماذا فعلتم كمجتمعٍ مدنيٍّ في جنيف؟ فردّ عليّ هذا الفاعل بالقول: لسنا مجتمعاً مدنياً في جنيف، نحن ممثلون عن المنظمات في جنيف. كلام هذا الفاعل وناشط المجتمع المدنيّ ملفتٌ ومثيرٌ للتساؤلات، إذاً بالفعل أحدنا يسأل: هل هناك مجتمعٌ مدنيٌّ سوريٌّ أم ما زلنا في طور المجتمع الأهليّ؟ أو هل تمكن تسمية هذه المنظمات بمنظمات المجتمع المدنيّ؟ أو هل بيئة سوريا صالحةٌ لإنتاج المجتمع المدنيّ؟ أو ربما نأخذ السؤال ونوجّهه على الشكل الثالث، وهو: هل يحقّ لنا الحديث عن المجتمع المدنيّ بينما الحرب تفعل فعلتها وتقسم الناس بين "فسطاطين" وتعزّز نموذج "إمارات الحرب"؟ كلها أسئلةٌ محقةٌ، وهي، في الوقت نفسه، بمثابة تحدٍ للمجتمع المدنيّ مجازيّاً لنقل وتلكؤ بلورة هويته.


منظماتٌ لا تحقق تطلعات الناس إنما القيم!


لا يقتصر المجتمع المدنيّ على المنظمات، ويظهر من خلال تعاريفٍ له أنّه مجموعةٌ من التشكيلات أو النقابات أو الأطر؛ بيد أنّنا ننسى الشطر الثاني من التعريف وهو أنه حامل قيمٍ معينةٍ تحدّد هوية الفاعل والمنظمة، ومن هنا قد يحاربنا البعض ويقول: كانت "الأوقاف الدينية" في النظام الإسلاميّ القديم هي المجتمع المدنيّ، أو إنّ دار الأيتام او دار الزكاة أو توزيع الإفطار كلها مجتمعٌ مدنيّ. والسؤال هل هذه الأخيرة مجتمعٌ مدنيّ؟ مع أنّها مجتمعٌ أهليّ، لكن لنتفق ونقُل: يمكن؟! مع أنّ المجتمع المدنيّ هو الإطار الذي يعمل ويسخّر جلّ ثقله لأجل العامة، فهل جمع الزكاة عملٌ يمسّ الشأن العامّ أم الخاصّ (الطائفيّ أو الدينيّ)؟ ماذا لو كانت هناك عائلاتٌ مسيحيةٌ في بقعةٍ جغرافيةٍ ما، هل تُعامَل بالتساوي مع بقية المستهدفين؟

 

بقي القول إنّ ظهور هويّة المجتمع المدنيّ ضرورةٌ مثلها مثل أيّ استجابةٍ لحاجات الناس وقضاياهم، ودون الهوية لا يمكن أن نتحدث عن مجتمعٍ مدنيٍّ سوريّ، ربما نتحدث عن منظمات، والأخيرة بدون قيمٍ كما لو أنها آلةٌ لتقديم الخدمات. فالمنظمات وحدها لا يمكن أن تحقق تطلعات الناس، بقدر ما أن القيم التي يحملها فاعلٌ في منظمةٍ ما هي التي تحقق تطلعات الناس. ولا تقف عند هذه الحدود، بل تمتد لتلعب دوراً في إمكانية تعزيز مكانة الدولة وتحقق شرط المواطن الحقيقيّ فيها!

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard