info@suwar-magazine.org

تراجيديا أفريقية .. قراءةٌ في رواية "مات الرجل"

تراجيديا أفريقية .. قراءةٌ في رواية "مات الرجل"
Whatsapp
Facebook Share

 

حربي محسن عبد الله

 

عندما يتحوّل الإنسان إلى مجرّد رقمٍ في السجلات، تكون دورة اللاجدوى قد اكتملتْ حول أعناق الضحايا، وبدأت "التراجيديا التي لا تتعدّى كونها طريقةً للتعويض عن التعاسة البشرية، لاحتوائها وبالتالي تبريرها على أنها ضرورةٌ أو حكمةٌ أو تطهير". لكن "لا يستطيع الإنسان أن يقبض على وجوده الأصليّ إلا عبر التصدّي لتقلبات الحياة"، هذا ما يؤكّده وول سوينكا في روايته "مات الرجل" الصادرة مؤخراً عن دار التكوين بدمشق، ترجمة: د. راتب شعبو. وهي رواية أحداثٍ يوميةٍ بطلها الكاتب نفسه، تحكي عن سجينٍ يحلم بالحرّية ويسعى إلى خلاص وطنه من نير الجهل والتخلف والصراعات القبلية التي تجرّ من ورائها مذابح متواصلةً وإبادةً عرقيةً في مجتمعٍ تطحنه المصائب المتلاحقة. فقد استنزف المستعمر خيرات البلاد وزرع في أرضها بذور الشقاق والعصابات المسلحة الطامحة إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية وتشديد قبضتها على رقاب الأحرار من الوطنيين. تلك العصابات التي لا تأخذ بالحسبان سوى ردود الأفعال الدولية التي قد تهدّد سلطة الانقلابيين. وتتحرّك مواقف الدول الاستعمارية السابقة، هي الأخرى، وفق مصالحها، فما أن تكون تلك المصالح بأيدٍ أمينةٍ حتى تدير ظهرها عن مصالح الشعوب وتقف متفرّجةً على مصائبها وويلاتها وجرائم الإبادة وكلّ الانتهاكات التي تمارسها العصابات الحاكمة.

 

قبل أن نقلب سويةً صفحات الرواية نتوقف للتعريف بالكاتب الأفريقيّ النيجيريّ.

 

 يحوز وول سوينكا مكانةً متميزةً للغاية‏،‏ بوصفه أوّل أفريقيٍّ يفوز بجائزة نوبل للآداب،‏ عام ‏1986.‏ وقد استطاع أن يقدّم نفسه كأحد أهمّ كتاب القارة الأفريقية في العصر الحاليّ‏، إضافةً إلى كونه، في الأساس، واحداً من أكثر المناصرين والمقاتلين الشرسين من أجل قضية الهوية والثقافة الأفريقية والنظام الاجتماعيّ الأفريقيّ وحمايته من ثقافة المستعمر.

 

وول سوينكا من مواليد 1934 م في أبيوكوتا –نيجيريا. وهو كاتبٌ أفريقيٌّ بامتياز. معارضٌ ومناضلٌ وسياسيّ، ومدافعٌ بشراسةٍ عن حقوق الإنسان أيّاً كان. وهو السجين والهارب والمنفيّ، والروائيّ والشاعر الذي سعى إلى نحت هويةٍ حديثةٍ لأفريقيا، أفريقيا الحروب والاضطراب والجوع، ولكن أيضاً أفريقيا الآمال والأحلام. ويعدّ سوينكا -الذي كتب الشعر والرواية والمقال السياسيّ العنيف- من أشدّ المعارضين للإدارات النيجيرية والمستبدّين السياسيين في شتى أنحاء العالم، ومن بينهم نظام الرئيس روبرت موغابي في زيمبابوي. وقد شهد عام 1967 أول تصادمٍ بين سوينكا والسلطات النيجيرية، بعد أن اعتقلته الحكومة الفيدرالية للجنرال ياكوبو غوين، ووضعته في الحبس الانفراديّ، بسبب سعيه إلى التوسّط لعقد اتفاق سلامٍ أثناء صراع البايفران. وقد قضى سوينكا 22 شهراً في السجن، قبل الإفراج عنه بعد استهجانٍ دوليٍّ واسع. وعند سؤاله مؤخراً عن دوره اليوم في نيجيريا يقول:

"لطالما كان نفس الدور، وهو ضمان صوت المواطن في تحديد مصير وطنه". وهو الأمر الذي لم يكن يوماً بالهيّن، ففي بداية تسعينيات القرن الماضي ترك سوينكا وطنه خوفاً على حياته. فترة السجن هذه هي التي يرويها لنا في "مات الرجل"، ليؤكّد دعوته إلى الحياة وهو يصطدم بعبثية هذه العبارة فيقول (صعقتني العبارة في بادئ الأمر، بدتْ غريبةً ومع ذلك لها ألفة خاتمة حكايةٍ تربوية. شعر هزلي "وكأن الكلب هو الذي مات" بطريقة نطق من يتعلم مبادئ اللغة).

 

ثمّة مساران في هذه الرواية، يذهب الأوّل بعيداً في تفصيل ما يجري حول سوينكا في معتقله. وهو يصف ظروف الاعتقال، والأمراض المتفشية بين السجناء، والتهم التي اعتقلوا بسببها، والانتماءات القبلية التي ينتمي إليها هؤلاء الرجال.

يسلط الضوء على الفسيفساء القبلية والدينية في نيجيريا، ويعرّف القارئ على مدى تشابك الخيوط التي تشكّل النسيج الاجتماعيّ في بلدٍ لم تنقذه الفيدرالية من الخلافات التي تضرب بجذورها عميقاً في البنية المجتمعية. يصرّ سوينكا على المضيّ قدماً في الطريق الذي اختطّه لنفسه من أجل العدالة، التي هي بالنسبة إليه الشرط الأوّل للإنسانية، ويدعو القارئ إلى أن يصغي إلى ما كتبه أدولف جوفه لتروتسكي قبل أن ينتحر: "لا تنطوي الحياة البشرية على معنىً إلا بقدر ما وطالما تعاش في خدمة الإنسانية. بالنسبة لي الإنسانية لا نهائية". أما المسار الثاني فيتمحور حول معاناة الكاتب نفسه في هلوساته وصراعه مع ذاته وأفكاره الداخلية ومحاولاته الحثيثة للصمود بوجه العدوّ الذي ينبثق من اليأس الذي يمور في النفس ويهزّ القناعات فيتصادم مع الروح الحرّة الرافضة للاستسلام لهذا العدو الداخليّ.

 

يصف لنا الكاتب كيف يقع الإنسان فريسة المخاوف من فقدان العقل وهو في أتون عذابٍ متواصلٍ وانتظارٍ بلا جدوى يسحب أيام العمر رويداً رويداً نحو بئر النسيان. ثم ينتقل إلى حالةٍ أخرى فيكون بين اليأس والرجاء الذي يطير بأجنحة خياله نحو الحرّية بعيدة المنال ويفيق من أحلامه على كوابيس الانتظار فينطوي على نفسه داخل كبسولةٍ أو حلزونةٍ، على حدّ تعبيره، يختبأ داخلها ويمدّ مجسّاته ليكتشف ما يدور حوله وهو آمنٌ في مكمنه. يصف هذه العزلة قائلاً: "ومن رؤية نفسك تحت رحمة قوىً مغفلةٍ بلا ملامح يأتي الإرباك العميق الثقيل بالعزلة الكتيمة". يأخذنا الكاتب، عبر كلماته التي تشبه الشعر في العديد من المقاطع، في جنبات الرواية، ليذكّرنا بأن وول سوينكا ليس روائياً فحسب بل شاعرٌ أيضاً، فثمّة قصائد له هنا وهناك، وثمّة فقراتٌ تقترب من الشعر. نقرأ مقطعاً يقول فيه: (في لحظة سكينةٍ عميقةٍ خرجتُ من أصداء الأصوات في الشوارع، من أصوات الأسواق، من الهمسات في الممرّات، من اختلاسات النظر في التجمّعات، خرجتُ من مطر البصاق والاحتقار، خرجتُ من الدريئة التي تشير إليها الأصابع، من القهقهة في الظلام، من انحناءات الرأس الحكيمة للضمائر الشائخة، خرجتُ من السخرية ومن الحسد المرتوي ومن بهجة من يخدع نفسه. شيئاً فشيئاً وبشكلٍ ملتوٍ رحتُ أستكشفُ ذهن العدو وأخطار المستقبل). ولأنه ضدّ العنف أياً كان مصدره فقد وقف يحارب العنف المتولد في داخله ويقول: "كان الجرّاحون القدامى يفصدون دم الإنسان السريع الغضب. وأنا تعلمتُ أن أميت عنفي جوعاً حتى الهدوء. نجح العلاج. مجرّد اتخاذ القرار بالامتناع عن الأكل جعلني أسيطر حالاً على نوبة الغضب اللامجدية وعلى الارتعاش. كان ذهني يعمل ببرودٍ مرّةً أخرى". في حالة التأمل التي وجد السجين نفسه فيها مرغماً بسبب العزلة والوحدة، نجده وقد استرسل في وصف ثورة الرياح القادمة من جبال الهارمتان، والتي تحاصر جسده النحيل في السرداب، "وهو أكمل مصيدةٍ بُنيتْ لحدّ الآن. تقذف الرياح نفسها من جدارٍ إلى جدار، تصفع وتهزّ المسكن وهي تعول وتصفر بالتناوب كآلةٍ جهنميةٍ تحفظ توازنها في الفضاء بين الزمجرة والانفجار".

 

 

ختاماً نودّ القول إن رواية "مات الرجل" تمثل بامتيازٍ تراجيديا أفريقيةً وليستْ مأساةً شخصية، وإن بدتْ للوهلة الأولى وكأنها تسجيل مذكراتٍ شخصيةٍ لأيامٍ حالكة السواد. إنها صرخةٌ تمثل دعوةً إلى الحياة رغم قسوة الظروف وبشاعة تفاصيلها.

.

.

.

اقرأ المزيد للكاتب ..

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard