info@suwar-magazine.org

نبيل الملحم .. حين تدرك بأن الكتابة ما هي سوى "نهاية العزلة وبداية العار"

نبيل الملحم .. حين تدرك بأن الكتابة ما هي سوى "نهاية العزلة وبداية العار"
Whatsapp
Facebook Share

      

 

صدرت رواية (إنجيل زهرة) عن دار الريس للروائي السوري نبيل الملحم وجاء في مقدمتها

 تسألني السيدة في دائرة الهجرة:
ـ ماهي ديانتك؟غلاف رواية (إنجيل زهرة)
كان عليها أن تترك الفسحة المخصصة للديانة فارغة.
وحين سألتني ما مهنتك؟
كذلك كان عليها أيضاً أن تترك مكان المهنة فارغاً.
يحدث ذلك، لأن البحث عن الآلهة لا يتوقف، فيما العثور عليهم قد يتحقق مع النَفس الأخير الذي يعني خلاصة رحلة لاتوهب لك سوى مرة واحدة، رحلة يسمونها اصطلاحاً (الحياة)، تنتهي بما يدعى (يقيناً):
ـ الموت.
معه قد تعثر على إلهك، ربما لتذهب إليه، وعلى الغالب لتفارقه وسؤاله إلى حيث لن تعثر عليه، وأراهن أنه لم يحدث أن عثر إنسان على الله بعد موته.. أقلّه أننا لم نصادف ميتاً يحكي لنا ما يستحضره من الذاكرة أكثر من أنه:
ـ مات.
أما عن المهنة، فذلك سؤال مربك، وهزيل، ولا أظنه يستدعي التأمل.. كل ما في الأمر أن المهنة ما هي سوى حصانة من هلاك العيش. ولهذا، ليس لي أن أجيبها:
ـ أيتها السيّدة.. أنا روائي.
ستكون الإجابة، (مضافاً إلى هزالها)، ستكون كاذبة.. هي بحق كاذبة، فأنا لست روائياً، لا.. أنا رجل روى، فعل ذلك لأنه يهاب الحياة فاستبدلها برويها كي لايهان بما هو أكثر من "لاجدوى" حياته فيعمل على خلق جدوى للحياة الخرائية التي يعيشها.
الأمر كذلك، ذلك أن لخلاصنا بوابات فقيرة وقليلة ونصف مفتوحة ومن بينها بوابة أن تروي، وأنا رجل يخاف أن يغادر مقعد الراوي، لا لأن الرواية فعل خارق، بل لأنها الفسحة الرائعة للعبة أن تكون الخالق، فالخالق الذي افترضت البشرية أنه (الله)، هو أيضاً يروينا، لسنا وحدنا من يرويهم، هو كذلك يروي ديدان الأرض، وأحياء البحار والعجائز التائهين والصبية السفهاء، وكذلك الأفلاك التي لم نختبرها، وفوق هذا وذاك ينجو بفعلته من سوء الهضم بعد أن يلتهم مخلوقاته من أعناقها.
تلك هي الحكاية، كل الحكاية.. هي مجرد أن تلعب لعبة الله، وهي لعبة لاتخص المتفوقين كما يذهب البعض إلى الظن.. لا.. في لحظة ما، هي لعبة العاجزين عن دحرجة الحياة ما بين أقدامهم وتسديدها إلى المرمى كما يفعل لاعبو الكرة، فمن يصوغون حياتنا، يروونها بدروب مختلفة تماماً عن دروبنا .. يروونها بإيقاد الحروب، باقتصاد الخوف، بإدارة غرائزنا، وبالمشانق حين ينفد الرصاص من بنادقهم، أما نحن فكل ما علينا فعله هو أن نغويهم بابتساماتنا بعد أن نؤكد لهم :
ـ كم أنتم مهمون بالنسبة إلينا.
هؤلاء، قد يلتفتون إلينا بوصفنا:
ـ مهرجون في السيرك الكبير.
فيبتسمون ردّاً لابتساماتنا كما تستدعي اللياقة، ويربتون على أكتافنا المكسّرة ليضاعفوا آلام عظامنا. ثم لايلبثوا أن يمسحوا على فرائنا.. تماماً كما يفعل مروّضو الخيول قبل ركوبها.
في هذه الـ (إنجيل زهرة)، تسنّى لي الوقت كي أمارس اللعبة.. لعبة الخلق، وسأكون بالغ الروعة إذا ما انطلت حيلتي على القارئ، وذهب إلى النهاية في تصديق أن بشر هذه الرواية هم بشر من صنع الله لا من صناعتي.. سأكون مبتهجاً وسعيداً حين يأتي من يقول:
ـ هذا الرجل مرّ بي.
ـ تلك العاهرة عرفتها.. لقد فتحت بوابة أحزانها لي وتثاءبت في وجهي. وسأكون اكثر سعادة حين يأتي من يضيف إلى كلامه: "لا.. إنها مجرد عاهرة لمرة واحدة".
ـ أولئك البشر الممسوسون بالخوف، والتردد، هم من ساكني مدينتي.
ـ نعم وكنت مثل هذا البطل، أتركها تمارس الخدعة، فقط لأنها كانت تستمتع بالخداع. مع ذلك كانت شابة بريئة وجميلة وعذراء، فيما بعد انتهك عذريتها دزينة من الرجال.
ـ تلك البنت، أرغمتني لليلتين متصلتين أن أجفف دموعها وهي في الطريق إلى سرير من يعلمها قواعد المضاجعة.. في ثانيتين تحوّلت إلى بنت قحبة.
ـ يا إلهي، أقسم بأنني عرفتها.. هي من النوع الذي لاتنتظم دورتهن الشهرية.
ـ نعم.. الكاتب على حق، نادراً ما تعثر على قط ذكر بأكثر من لونين. أما أنثى القطط فقد يكون لها ألوان كثيرة.. نساء روايات هذا الكاتب قطط.. ياله من كاتب ذكوري أرعن.
ـ يا إلهي، لقد حدث لي تماماً ماحدث لذاك الرجل.. لم أقبّلها حين كانت تحتاج إلى قبلة، للسبب نفسه لم أفعل، لقد كان لساني متشققاً وعفناً.. هو ذا سبب امتناعي عن تقبيلها.
أما الآخرون في خلفية الصورة، فليس من حقك أن تجتازهم كما تجتاز شارعًا يخلو من المارة دون أن تتعرف إلى دوافعهم وحقيقة الكسور التي حلّت بقلوبهم.
وبعد أن ينتهي الجميع من تلاوة شهاداتهم، كل ما عليك أن تفعله هو أن تقول:
ـ تلك هي الحياة المنيوكة وقد تبدو كما لو أنها ارتدت ثوباً من الأزاهير.. و:
ـ تلك هي روايتها.
كل هؤلاء ونسينا بطل الرواية، أو لنقل سارد أحداثها، هو بلا شك رجل أراد أن يفكّك الاجندة الخفية للإغراء، أن يختبئ في الأرض كجذور النباتات، مانحاً نفسه الحق بأن يعيش خارج الجحيم، ثم لايلبث أن يقع في الحب، ذاك المتوحش الذي لايقع فيه إنسان عاقل.
في "إنجيل زهرة"، لم أشغل أبطالي بالقضايا الكبرى، فأنا رجل لايعير انتباهاً لتلك القضايا.. لا، أنا رجل منشغل ببشر لانراهم، حتى عندما يولدون، يولدون ليعتريهم النسيان، هؤلاء هم فلاسفة الهلاك اللذيذ، يداوون جراحهم بتوسيع الجرح، فيكيلون جرحاً فوق جرح حتى ليبدو واحدهم وكأنما خيمة ممزقة، مع ذلك ثمة من يذهب إلى مزق خيمتهم.
هكذا يفعل الروائيون ليصدقهم الناس، وهم بذلك لا يخسرون شيئاً.. كل ما يفعلونه هو أن يقفوا على حافة الهاوية.
ـ أنا فعلت ذلك لأجرّب الجرح النازف وأعالجه بالكيّ ثم أتخلى عن أبطالي لأنجو من السقوط في الهاوية.
يا لأبطال روايتي هذه.. بشر يطلون على أوبئتنا، مع أننا كنا نظن بأنهم هم الوباء.

سأكون سعيداً بلا شك، إذا ما وفقت بلعب دور الخالق، وإذا لم يحدث ذلك فلا بأس، ما من شدّة تساوي شدّة الحياة بتفاصيلها.. تفاصيل اللحظة، ففرشاة الأسنان، ورباط الحذاء، عملان شاقان لابد من ممارستهما مع الأخذ بالاعتبار أن تمارسهما وأنت أبطأ من ذوبان الماء في فمك.
"إنجيل زهرة"، أقل من حماقة في الرواية، غير أنها أكثر من السلامة في الرواية، فالسلامة قيد الإنسان، والحماقة انتحاره، وما بينهما فسحة لتأمل:
ـ ما العمل القادم بعدها؟
بعدها لا أظن أنني سأقحم نفسي في هذه اللعبة / المجزرة.
فقد بات يتوجب عليّ أن أختار ما بين السلامة والانتحار، وما بينهما هو:
ـ الصمت.
الصمت؟ نعم الصمت، فلا هو الانتحار، ولا هو السلامة، هو الوقت الذي يطويه النسيان.. وحسناً أن يكون الأمر على هذا النحو.
في هذه الرواية، كتبت مايشيب له الرأس، هكذا ظننت، غير أنني في الواقع أدرك أن ماكتبته لايغيّر لون شعرة من فروة رأس قارئ سيشيب لا بفعل القراءة وإنما بفعل الزمن.
نعم، بالنتيجة هي رواية بطلها الزمن وهو يتجول في قاعات أعمار أبطالي وقد ظنوا مثلي أنهم بأفعالهم سيشيبون رأس الزمن.. وحده الزمن يكشف أوهامنا، هو البحر الذي يكذّب الغطّاس وأنا أدرك ذلك.
ما لا أنكره أنني كتبت بسخاء عن بشر وجوههم معطوبة والأقراط تتدلى من آذانهم، تماماً كما عن أبطال في أرذل العمر يكافحون ليثبتوا للحياة أنهم الافضل في اختبار التجربة، وأنها / الحياة/ لابد وأن تغفر زلاتهم.
كل ذلك هراء.. نعم الكتابة هراء يضاهي الوسادة التي يضعونها تحت رأس الميت على أمل أن يستريح الموت فيها.
كتبتها، لأن الكتابة، وكما يقول لي سومر في رسالة مستعجلة: "نهاية العزلة وبداية العار" بعد أن يضيف:"كالمرأة".
اللحظة، وقد صدرت الرواية، يُطبق عليّ صمت وجودي صرف.. صمت، على جديته وجدارته، لايعفيني من أن أطلب:
ـ كل ما أطلبه أن لايستخف القارئ بمحاولاتي.. علاوة على ذلك أقول له:
ـ حتى ولو كانت محاولات فاشلة، فهي محاولات تتقصى تلك الفلسفة الغامضة وقد لخصتها هيلين راولند بالكلام التالي:" يفقد الإنسان أوهامه أولاً، ثم أسنانه، ثم حماقاته أخيراً".
بطل هذه الرواية فعل كل ذلك.
في "إنجيل زهرة"، لم أختر.. مشت الرواية كما شاءت أن تمشي، ومشت مخلوقاتها كما شاءت المشي، وكنت بالغ السعادة حين كتبت آخر جملة فيها:
ـ لقد وفيت بوعدي وكتبتها "إنجيل زهرة". كتبتها متوجهاً فيها إلى أولئك الذين مازالوا يعتقدون أن الحب يساوي شيئاً.
وها هي اليوم باتت مطبوعة، وما دامت كذلك فلقد جاء دوري في أن أتقدّم بالشكر لدار الريس، للسيد رياض الريس والسيدة فاطمة بيضون.
غير أنه وما دام الشكر واجباً، بل ورغبة، فالشكر كل الشكر لفوّاز حداد، ذلك الرجل الذي مُنح القوّة والحكمة.. قوّة الحب، وحكمة التعبير عنها، وقد قرأ هذه الرواية وزاد، ليقول لي:
ـ اكتب.. لا تتوقف عن الكتابة.
وها أنذا، وقد انتهيت من الكتابة، وتحوّلت إلى (مسوّق لكتابتي)، أدعوكم إلى قراءة "إنجيل زهرة".. إذا حدث وقرأتموها، حسناً، وإن لم يحدث فـ "ليكن"، دون نسيان أنني فقدت خيار الانسحاب منها.
ما تبقى.. هو ما يتوجب عليّ قوله فيما تبقّى لي من وقت:
ـ حزين هو الوقت الذي لا يضحكنا.
أيتها الحياة:
ـ كم أحبك.. وكم لا أحتملك أكثر.
للمرة الأولى سأقولها: عظامي مكسرة، وقد لا أستطيع أن أكتب في الأيام اللاحقة.

في النهاية يحضرني كلام للروائي إمبرتو إيكو كنت قرأته عن طريق الخطأ:" على المؤلف أن يموت بعد كتابته رواية ما، كي لا يشوش على مصير النص".
مؤكد أنني شوشت على مصير النص كثيراً دون أن أموت.
ملاحظة: لن أكون سعيداً إذا ما اعتبرت شخصيات هذه الرواية، شخصيات من الواقع، ولمزيد من الإيضاح، لم تشهد الدانمارك أميراً يدعى هاملت.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard