info@suwar-magazine.org

خطاب الكراهية وثقافة الإقصاء

خطاب الكراهية وثقافة الإقصاء
Whatsapp
Facebook Share

 

 

الكراهية جائحةٌ ثقافيّةٌ وأخلاقيّةٌ، لا تقلّ خطراً على الإنسانيّة من الجائحات الطّبيعيّة، كالكورونا والطّاعون وغيرهما من الأمراض المعديّة في محدّداتها ومضمونها. فقد يتوصل العلم في أبحاثه إلى علاجٍ شافٍ من تلك الأمراض، لكن هل تتوصل الثّقافة في المجتمعات المتخلّفة إلى علاجٍ يحدّ من مخاطر الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات المختلفة؟

 

الكراهية عكس المحبّة في كلّ شيءٍ، المحبّة لا تحتاج إلى تبريرٍ، لا تحتاج إلى أسبابٍ موجبةٍ؛ نحن نحبّ أولادنا وبناتنا، آباءنا وأمهاتنا، أخوتنا وأخواتنا، أصدقاءنا وصديقاتنا، وجيراننا، وزملاءنا وزميلاتنا ...إلخ، لأنّنا نحبّهم أو نحبّهن فحسب. ولأنّ الحبّ من طبيعتنا، أو من جبلَّتنا، لذلك تدوم المحبّة في النّفس، تغمرها بالسّكينة والغبطة والسّرور، بخلاف الكراهية، الّتي لا تكون إلا لسببٍ أو علّةٍ، وتزول بزوال السّبب أو العلّة، ولكنها تترك ظلالاً شاحبةً في النّفس، ولا تنقلب إلى محبّةٍ. لكن ثمّة محبّةٌ مغشوشةٌ، "محبّة مصلحةٍ"، أو محبّةٌ لغايةٍ في نفس يعقوب، هذه من نوع الكراهية، كراهيةٌ غير معلنةٍ، يمكن أن تنقلب إلى كراهيةٍ، عندما تنقضي المصلحة، أو تتحقّق الغاية، وتعبيرها الأخلاقيّ هو الّنفاق والتّزلف.

 

وهناك نوعٌ من المحبّة، غير معروفٍ بعدُ، في عالمنا العربيّ، ونحتاج إلى التّدرّب عليه، هو محبّة الّذين لا نعرفهم، بصفتهم مواطنينا ومواطناتنا، تربطنا بهم أواصر صداقةٍ، تسمّى "الصّداقة المدنيّة"، وهي قرينةٌ المواطنة ولصيقةٌ بها، وجذرها المشاركة المتساوية في النّوع، على الصّعيد الإنسانيّ، والمشاركة المتساوية في المجتمع والدّولة، على الصّعيد الوطنيّ. هذا النّوع من المحبّة قائمٌ على مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانيّة والجدارة والاستحقاق، ومرتبطٌ بالمجتمع المدنيّ والدّولة الوطنيّة الحديثة، الّتي تجرم الكراهية والتّطرف والعنف.

 

في رحاب المجتمع المدنيّ والدّولة الوطنيّة الحديثة وحكم القانون يتنافس النّاس، ولكن معظمهم لا يتخاصمون، والّذين يتخاصمون منهم لا يتكارهون، بل يلجؤون إلى قضاءٍ عادلٍ يفصل بينهم، فلا ينتقم بعضهم من بعض، ولا يثأر بعضهم من بعض، ولا يكيد بعضهم لبعض، سوى الاستثناء والشّواذ، الّذين يتكفّل بهم القانون. فحيثما وجد قانونٌ يتساوى المواطنون والمواطنات أمامه وينصف المظلوم وينتصف من الظّالم، تنحسر الكراهية ويضمر التّعصب، ويعدّ العنف جريمةً، والمساواة أمام القانون تعبيرٌ عمليٌّ عن العدالة، ومن ثمّ إنّ الظّلم والجور  يولّدان الكراهية بين النّاس. والظّلم والجور سمتان من سمات الحكومات المستبدة، الّتي تستقوي بالدّين.

 

ومن ثمّ إنّ خطاب الكراهية، هو نتيجةٌ موضوعيّةٌ للظلم والجور، ظلم الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء وظلم الحكام للمحكومين وظلم الأكثرية الإثنية أو الدّينيّة للأقليات، فأيّ خطابٍ للكراهية هو نتيجةٌ موضوعيةٌ للاستبداد الموسوم بالظّلم والجور، بدءاً من الاستبداد بالرّأي، إنّه نتيجةٌ للاستبداد بمعنيين: أولهما أنّه من طبيعة الاستبداد ذاته، والثّاني أنّه ردّ فعلٍ على استبدادٍ.

 

علّق الباحثين والمفكرين في العالم، وخاصّة في العالم العربيّ الّذي يرزح تحت نيران الاستبداد، ويعاني من التّسلط؛ آمالاً كبيرةً على بزوغ فجرٍ جديدٍ، في بداية القرن الحادي والعشرين، يخلو من التّطرف والعنف والإرهاب، لكن السّبل ضاقت بتلك الآمال، فقد تبيّن أن التّطرف لم يتوقّف عن "الفعل" حتّى في بلدان قطعت شوطاً طويلاً على طريق الحداثة، فلا تزال الحركات العنصريّة المعادية للأجانب والمعادية لملونيّ البشرة ولا تزال المنظّمات الإرهابيّة تنمو وتتوسع في غير مكانٍ، تغذيها العصبيّة القوميّة هنا والعصبيّة الدّينيّة هناك.

 

إنّ الإجابة عن سؤال: لماذا يكرهونـ (نا)؟ هو بكلّ بساطةٍ، لأنـ (نا) نكرهـ (هم). فحين نكفّ "نحن" عن الكراهية يكفّ "الآخرون". هذا يعني أنّ مشكلة الكراهية هي مشكلتـ (نا) الخاصّة، مشكلة المتكلمين والمتكلمات، وليس بوسع أحدٍ غير (نا) أن يحلّها. حصر ضمائر المتكلمين بين قوسين، يعني أنّ الكراهية، الّتي تسممّ الحياة الإنسانيّة، وتهدّد تماسك المجتمع، هي شعورٌ جمعيٌّ وموقفٌ جمعيٌّ، يتمثّله الأفراد، من دون أن يعوا ذلك، فيمارسون الكراهية، كأنّهم أحرارٌ ومستقلون، وكأنّ بوسعهم أن يحبّوا؛ فالكراهية هي عجزٌ عن الحبّ أو عجز عن تعلم "فنّ الحبّ" وممارسته. إن من يكره عدوه لا يستطيع أن يحبّ صديقه.

 

شدّدنا على التّطرف والعنف والإرهاب، لأنّها تفضي إلى خطاب الكراهية، وإقصاء الآخر المختلف والأخرى المختلفة، كما أن خطاب الكراهية نفسه يجرّ في أذياله التّطرف والعنف والإرهاب، فنحن إزاء عمليّةٍ تبادليةٍ مركّبةٍ ومعقدةٍ، أو حلقةٍ مفرّغةٍ.

 

وبالرّغم من عدم وجود تعريفٍ واضحٍ وصريحٍ لخطاب الكراهية، إلّا أنّه قولٌ عنيفٌ أو نابٍ، يصدر عن شعورٍ بالفوقيّة والاستعلاء، أو بالدّونية والوضاعة، وسلوكٍ أو فعلٍ يؤدّي إلى فتنةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وثقافيّةٍ ودينيّةٍ، وإلى التّمييز العنصري، والعرقي والطّائفي، ويؤدّي أيضاً إلى الإقصاء، (من ليس معنا فهو ضدّنا). وقد أصبح خطاب الكراهية ظاهرةً اجتماعيّةً سياسيّةً ودينيّةً واضحة المعالم ومتفشيةً بين السّوريّين والسّوريات في الشّبكة العنكبوتيّة وعلى مواقع التّواصل الاجتماعيّ، لا يمكن تفسيرها بغير طبيعة الحرب الّتي دارت رحاها في سوريا ولا تزال دائرةً، ما كشفت عنه هذه الحرب من انقسام المجتمع على نفسه، عائلاتٍ وعشائر وطوائف وإثنياتٍ متكارهةٍ، كما أرادتها السّلطة أن تكون. فإنّ نظام الوشاية وحدّه يكفي لكي يكون نظام كراهيةٍ، ناهيكم عن القمع والتّنكيل والتّجويع والتّهميش.

 

يتّسم الخطاب الشّائع في وسائل التّواصل الاجتماعيّ؛ بالعداوة والرّؤية الأحادية للعالم، فيتطور من الكراهية إلى الإقصاء؛ نخصّ بالذّكر الخطاب السّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ في البلدان الّتي تشهد نزاعاتٍ، إما مسلّحةٍ أو سياسيّةٍ أو دينيّةٍ، وجميعها تصبّ في نهرٍ واحدٍ. ففي سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا، على سبيل المثال، نرى خطاب الموالي لأنظمة الدّول المذكورة، يقصي المعارض لها، والعكس صحيحٌ، فالتّهديد والوعيد والشّتيمة تحتل المرتبة الأولى من الخطاب، وبعض الخطابات تنزع عن الآخر إنسانيّته، كوصفه بـ "بالحيوان" مثلاً، أو "الكافر" أو "الخائن"، ويندرج كلّ ذلك تحت مسمّى "حرية التّعبير"، أو الحريّة الشّخصيّة الّتي لا تحترم حرّية الآخر ولا تعترف بإنسانيّته.

 

الكره الاجتماعيّ يفضي إلى التّطرف في السّياسة والتّطرف في الفكر والفنّ والثّقافة، من ثمّ، تصبح الكراهية ثقافةً إقصائيّةً بامتيازٍ، فإقصاء الرّأي لا ينّفصل عن إقصاء الجنس أو العرق أو الدّين، فالرّؤية الإقصائيّة واحدةٌ، وهذا نابعٌ من وعيٍ مجتمعيٍّ موروثٍ ومتأصلٍ في المجتمعات المتخلّفة الّتي تعاني من القصور الذّاتي، وتعيد إنتاج تخلّفها. وتعيد الإنسان إلى تشكّله الأول من حيث العنف والوحشية، فلا يتعيّن الرّجل إلاّ بنفي المرأة، ولا يتعيّن المسلم إلاّ بنفي غير المسلم، فكلّ تعيينٍ هو نفيٌ بالضّرورة، فإنّ الثّقافة المبنية على عدم الاعتراف بالآخر على أنّه المختلف، هي أيضاً مبنيّةٌ على عدم الاعتراف بالذّات على أنّها بالنّسبة للآخر هي آخرٌ مختلفٌ أيضاً، ثمّ إنّ هذه الثّقافة تشوّه الشّخصيّة الإنسانيّة، من خلال إضفاء بعض الصّفات عليها إما صفةٍ دينيّةٍ أو صفةٍ عرقيّةٍ، أو صفةٍ حزبيّةٍ، فتصبح هذه الصّفة مع مرور الزّمن هويةً.

 

اقرأ أيضاً:

 

الساعة الخامسة والعشرون بتوقيت الشرق الأوسط لعنة الاسم

 

نتساءل: هل يحتاج تقبل الآخر بجميع محمولاته؛ واعتباره إنساناً فقط إلى جهدٍ كبيرٍ، لا نقدّر عليه؟ السّؤال برسم المثقفين والمثقفات في العالم بشكلٍ عامٍّ، وفي المجتمعات النّامية على وجه الخصوص، الّذين يقع على عاتقهم تغيير النّظرة الأحادية إلى العالم وإلى المجتمع والإنسان.

 

المعرفة على قارعة الطّريق؛ فليغرف منها من يشاء، إنما الوعي المعرفيّ هو الّذي يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لإدراك الذّات، وإدراك العالم الخارجيّ؛ من ثمّ. الوعي المعرفيّ يفضي إلى الوعي القانونيّ والمساواة والعدالة، والوعي بالإنسانيّة ككلٍّ.

 

عملت منظّمة الأمم المتّحدة في القوانين الحديثة على ضمان حقوق الإنسان من خطاب الكراهية، وأشارت إليه في الفقرة الثّانية من المادّة عشرين من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة: "تحظر بالقانون أيّة دعوةٍ إلى الكراهية القوميّة أو العنصريّة أو الدّينيّة، تشكّل تحريضاً على التّمييز أو العداوة أو العنف". وقد تظهر أهمّيّة هذا القانون في الدّول المتقدّمة أكثر منها في الدّول المتخلّفة أو النّامية، وذلك لتجيير القانون في الدّول الأخيرة لصالح السّلطات (السّياسيّة والدّينيّة والقوميّة)، ففي سوريا على سبيل المثال، أُلغي قانون الطوارئ في العام 2012، ليحلّ محلّه قانون الإرهاب، أو محكمة الإرهاب، الّتي ولّدت العداوة بين المجتمع والقانون، وذلك لنصها على موادٍّ تحدّ من حرّية أفراد المجتمع في التّعبير عن الرّأي لفظاً وكتابةً، وقانون الإرهاب هذا تنص بعض موادّه على الحكم المباشر، أيّ دون محاكمةٍ أو مساحةٍ يدافع بها المتّهم عن نفسه، أيّ إنّه حكمٌ "عرفيٌّ"، على الرّغم من إلغاء الأحكام العرفية من القانون السّوريّ منذ عام 2011.

 

هل سيكون مستقبلنا في سوريا خالياً من خطاب الكراهية، خصوصاً بعد التّطورات السّياسيّة الجارية على السّاحة السّوريّة؟

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard