info@suwar-magazine.org

كيف فقدنا قدرتَنا على التعبير؟

كيف فقدنا قدرتَنا على التعبير؟
Whatsapp
Facebook Share

 

 

"سوف تتناقص الكلمات عاماً بعد عام، مثلما يتناقص الوعي والإدراك شيئاً فشيئاً، بل إنّ جريمة الفكر ما عادت تجد سبباً أو عذراً يبرِّر اقترافها"

جورج أورويل - 1984

 

"حتى وقت قصير كنتُ أظنّ بأنّي أستطيع التعبير عن أفكاري، وفهم الحالات الشعورية التي تخلقها الأحداث من حولي دون التماهي معها، أو الانغماس بها إلى الحدّ الذي يجعلني غير مدركةٍ لها، وفي اللحظة التي قررتُ فيها الكتابة عن فقدان هذه القدرة لدينا نحن السورين الآن، اختفى كلُّ شيء، بدأتْ خيوط البداية بالإفلات مني، ولم أستطع ربط الأحداث، وفهم الآليّة العميقة التي جعلتنا نصبح على هذا الشكل، سيطرت عدم القدرة على التعبير عليَّ وأصبحتُ عاجزة عن فهمها".

 

يبدو أنَّ ما حدث لنا هو تغييب شبه تام للميل القصدي الموجود عند الإنسان، والذي يمثِّل فعل التفكير. مورِسَ هذا التغييب بطرائق مختلفة، وأصبحت جميع المنظومات في مجتمعنا بدءاً من الأسرة وانتهاءً بأعلى السلطات تمارسه علينا بشكل يومي ليصبح طبيعياً وضرورياً، أصبحنا جميعاً لا نعبِّر عما نريد قوله كما نريد، بل كما يريد من حولنا، ليصيبنا عجزٌ تامّ عن القول، وبالتالي الفعل، واقتربنا من أن نشبه من نَصِفُهم بالمجانين، والذين هم ربّما في حالة أكثر تطوراً عنا غير قادرين على ترجمة مشاعرهم في كلمات، ولا تسعفهم مصطلحاتهم لوصف ما يعتريهم.

 

الحتميّة اللغوية:

 

تعتبر اللغة وسيلة الفكر، فمن خلالها يمكن للفرد فهم العالم من حوله والتفكير به وتحليل الظواهر التي تحدث بشكل مستمر، ويرتبط التعبير عن الذات بشكل أساسي بها، وبدقةٍ أكثر بالمفردات التي تصف الحدث والحالات الشعورية التي تصيب الإنسان، ويمثّل الصوت الوسيلة التي تعطي هذه المفردات أصالتها، وواقعيتها بقوَّته والعكس بضعفه، يبدأ الإنسان منذ طفولته بتطوير هذه المهارة وصقلها، للوصول للحالة التي يصبح فيها قادراً على التعبير عن ذاته وما يريده دون خوف.

 

في سوريا تَعلَّمنا في كلّ مكان أنَّ بعض الكلمات علينا أن نخفض صوتنا عند قولها، بقينا نخفض صوتنا مَرَةً بعد مرة حتى غابت هذه المفردات تماماً عن لغتنا، أصبحنا نستخدم جملاً مواربة، ونقول نصف ما نريد قوله، نخبّئ مشاعرنا وما نحسّ به، اختفت تدريجياً كلّ الكلمات الحقيقية، والتي تعبِّر عمّا يحلّ بنا، وحلّت محلها كلمات أخرى نرددها دون أدنى شعور بها، لا نستطيع قول الحقيقة بالمطلق، ولا نمتلك حتى اللغة الدقيقة لوصف ما يحدث، تَحوَّلنا إلى أناسٍ خائفين من الكلمات.

 

الحرية – السجن:

 

لكلِّ كلمةٍ معنى يُكتسب من المعارف التي يخضع لها الفرد، إنْ كنتَ تعيش في سوريا هذا يعني بأنك تمتلك خللاً حتمياً في الربط بين الكلمة ودلالتها الواقعية، فعند التفكير بكلمة "الحرية" مثلاً سترتسم في مخيلتك قضبان السجن لا إرادياً، لا يبدو واضحاً إنْ كنّا قد تلقَّينا هذا كإحالة واضحة خلال حياتنا، أو أنّها ترميز غامض يختلقه العقل، السؤال هو: كيف أصبحت كلمة حرية هي المفتاح الذي يُدخِلنا السجن الذي يقضي على جميع حرياتنا معاً؟!

 

 

يرى بعض علماء النفس إنّ اللاوعي عبارة عن بناء لغوي، يتشكَّل تبعاً للتجارب والخبرات.

 

خلال أكثر من أربعين عاماً تم التلاعب بنا على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية، و أسوأها جميعاً كان التلاعب اللغوي الذي جرى استخدامه في كلّ ما نتلقّاه بدءاً من مناهجنا المدرسية وانتهاءً بالإعلانات الطرقية.

 

كيف يمكننا التعبير عمّا نشعر به إنْ كانت لغتنا هي سجن بحد ذاته، يمارَس علينا من خلالها قمعٌ يومي ومدروس؟!

 

أنتج هذا القمع ترابطاً بين كلمات متناقضة في المعنى إلا أنها متداخلة في الأثر السياسي، فالسلطة هي التي تحدِّد المساحة اللغوية التي نستطيع استخدامها، والمفردات التي يحقّ لنا تدوالها دون أن نشكِّل خطراً عليها، هذا الاختزال اللغوي الذي مارسَتْه السلطة السياسية في سوريا نتج عنه اختزال الفكر والوعي، ومن ثمَّ غياب القدرة على التعبير، وضياع الذات السورية بين حالة شعورية غير مدركة، وعجز لساني عن التعبير عمّا تكونه هذه الحالة.

 

على مدى سنوات طويلة سبقت الحرب كانت المؤسسات السلطوية تمارس قمعها اللغوي عبر ضبط المصطلحات، وإقصاء كل ما يسبِّب تهديداً لها، عملٌ طويل مارسَتْه هذه المؤسسات بسيطرتها على الملفوظ المجتمعي والفردي في سوريا، ليمتدَّ ذلك إلى ضبط السلوكيات، والأفعال لدى شعب كامل بما يتناسب مع طبيعتها الديكتاتورية، العجز عن التعبير هو إحدى السمات الأساسية التي كانت السلطة تهدف لغرسها عميقاً عبر منظومة متكاملة من المحظورات، لتغييب الفكر الذي تُشكِّل اللغة حاجته ووسيلته الأساسية والوحيدة ليتطور.

 

التعبير– الجريمة:

 

حقَّق هذا القمع مبتغاه، أصبحنا ندرك جميعاً بأن أية محاولة للتعبير هي بمثابة جريمة تستحق العقاب، تمَّ كبت رغبتنا الطبيعية في التعبير عن ذواتنا بحريّة، في قول الحقيقة والإشارة إلى الأخطاء المرتكَبة بفعل بطش سلطةٍ تعتبر أيَّ عملية تفكير خارج إطار خطابها عملاً عدائياً.

 

عام 2011 بدأت محاولة رفض هذا الإخضاع، عادت الحناجر تمارس طبيعتها بصوت أعلى من المعتاد، وتحوَّلت العلاقة من "تعبير– منع" إلى "تعبير – قتل"، فكّلما علَت الأصوات زادت الدماء المسفوكة.

 

الآن بعد مضي عشر سنوات لم نعد نستطيع قول أي شيء، قسوة ما حدث حوَّلَتنا إلى بشر صامتين عاجزين عن فعل الفكر، والقول المرافق له مقتنعين بعبثيته ولا جدواه، نحن شعب فقَدَ قدرَته على التعبير نهائياً.

 

يبدو هذا واضحاً في وجوه الناس في الأماكن العامة والشوارع، مشهدٌ جماعي لكائنات تحرِّكها رغباتها الأولى والبدائية للبقاء، دون أية رغبات أخرى للتطور والتفكير أو لفعل شيء.

 

أصبحنا نتحاشى النظر في عيون بعضنا، ننظر إلى من يحاول قول ما يعتريه باستغراب، فكلماته تبدو غير مفهومة أو مبرَّرة. صمتٌ جماعي نمارسه يومياً بتواطؤ متَّفَق عليه، فالكلام لا قيمة له الآن بعد كلّ ما حدث، وما يزيد الوضع تعقيداً هي هذه المشاعر التي خلقتها الحرب، والتي نختبرها للمرة الأولى، إنْ فكَّرنا بها أو حاولنا فهمها نعجز عن ذلك، مع قناعتنا أنّ ما يحدث يخلو من المنطق، ولا أحد منا يستطيع فهمه.

 

لم يقتصر الخلل على قدرتنا على التعبير عن أنفسنا فحسب، بل امتدّ ليشمل ذاكرتنا أيضاً، نحن عاجزون عن استعادة صورة لحياتنا قبل الحرب، كيف كنّا نمارس حياتنا بشكل طبيعي، لا نستطيع المفاضلة إنْ كانت حياتنا في ذلك الوقت أفضل أم أكثر سوءاً.

 

غابت جميع أشكال الشغف والرغبة مع بداية الحرب. والآن نقف هنا عاجزين عن استعادة شيء مما كان، أو التقدّم خطوة نحو مستقبل لا نأمل منه شيئاً.

 

أصبحنا كائناتٍ عالقة في منتصف دائرة فارغة لانهاية لدورانها ننتظر نهايتنا فقط.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard