info@suwar-magazine.org

أحمد علي الزين: لكأنّ ما حدث.. حدث في غيابه

أحمد علي الزين: لكأنّ ما حدث.. حدث في غيابه
Whatsapp
Facebook Share

 

 

لا أدري إذا ما كان "السجن الصحراوي" هو سجن تدمر.. ربّما "تدمر أخرى"، سيختلط علينا الأمر حين ينبّئنا الرواي بأنّه "يعرف الحدود من رائحتها" و"من رائحة الأشياء التي يمحوها الزمن"، لا يهم، ليس أيّ سجن هو المهم، المهم في الأمر أنّ (سجيننا) هذا ترك خلفه "ثلماً يشبه حفرة في السنين من عبورها الفتّاك.. حفرة غائرة في النفس كثلم التجاعيد، مُضافاً إليه ألم لا شفاء منه".

 

ـ وأيّ ثلم؟

إنّه "خمس وعشرون سنة".

لا تقل لي هذا مجرّد رقم أبطأ بكثير من تعداد أيّامه، وكانت أيّامه هذه تحت رعاية سجّانين لا يسأمون من وساختهم.

في حال كهذا، ما الفرق إذا ما كان المقصود بالسجن الصحراوي هو سجن تدمر أو سواه من السجون، وقد تحوّل المكان بالنسبة للرواي إلى "المكان خاصّته"؟

نعم هذا ما سيكون عليه الحال، "سجني" كما لو تقول "سيجارتي"، "بيتي"، وجعي"، أو تقول :"عشيقتي".

 

أحمد علي الزين، في "حافّة النسيان"، المشتقّة من "ثلاثية عبد الجليل الغزال"، لا يشتغل على إخبارنا عن يوميّات السجن والسجّان والسجين، حتّى نكاد نصدّقه بأنّه يحكي عن "سجن لا سجّان فيه ولا سجين سواه"، وقد باتت الأيّام "التي لا شفاء منها عصيّة على لعبة النسيان".. أكثر من ذلك هي الأيّام التي أخذت صاحبها إلى "الحريّة".. الحريّة التي تقع في المسافة الفاصلة ما بين خيارين، أن يبقى ميّتاً، أو أن يمشي ميّتاً.. ولا ثمّة خيار ثالث.

غير أنّ نفاذ بصيرته، ساقه إلى تسوية بالغة الذكاء، لتقع يده على الخيار الثالث الذي لم يدلّه أحد إليه.. إنّه:

ـ خيار أن يمشي ويموت.

 

هل بوسعنا في هكذا حال الاستعارة من الفيلسوفة الطليانيّة ميشيلا مارزانو، تعبيرها الفظيع عن:

ـ دكتاتوريّة الأفضليّات؟

 

هو الأمر كذلك، فـ "عبد الجبّار" لا تتسنّى له سوى خيارات أفضلها:

ـ أن يبقى ميّتاً.. أن يمشي ميّتاً، أو أن يمشي ويموت، فكان أن اختار، وكانّ لـ جسده عليه "حقاً" وقد منحه الحقّين:

ـ حقّ المشي، ومن ثمّ حقّ الموت، ليستجمع "ثنائيّة الإرادة" في تعبيرهما الذي يساوي الموت والولادة.

 

ـ وأين يحدث ذلك؟

 

يحدث في الصحراء، في الفراغ الذي تملأه تلك الشجرة المقدّسة، إنّها شجرة السدر التي تضيء الـ "الإناث من الكثبان".. ولماذا شجرة السدر لا سواها؟ لم لا تكون شجرة "المسواك" على سبيل المثال؟

 

كما لو أنّ أحمد علي الزين سيذهب من الغيبوبة في كثبان الصحراء إلى الغيب في كثبان السماء، فالسدر من أشجار الجنّة يتفيّأ تحتها الناجون (هكذا أرادها الله حتّى أنزل بها آية / إذ يغشى السدرة ما يغشي) .. هي جنّة المأوى لأبطال مسجونين، منهم المتشكّك والآخر اللا أدري، ومصطفى السجين الذي يؤمن بالله من باب الحذر، الاحتياط، وبما توّفر من وقت سجين زادت مدّة سجنه عن السبعين عاماً فتفرّغ للملاحم.. أوديسا، جلجامش، وصار السجين الوحيد الذي يسمح له بالتجوّل في السجن حيث يشاء، ومتى يشاء، ليتوسّد أرضاً لزجة، وعيناه متعلقتان بالسماء.

 

لم يقل لنا أحمد، ولا بطله الراوي، ما المآل الذي آل إليه مصطفى، كلّ ما علمناه أنّه لا مرآة في السجن سوى في غرفة آمر السجن، يخبرنا أحمد وعلى لسان عبد الجليل، أنّها "مرآة محطّمة"، غير أنّ عبد الجليل وكان باحثاً عن مآلات وجهه وما انتهى إليه، كان يبحث عن وجهه في وجه مصطفى وفي عينيه اللتين تحدّقان بالفراغ.. لقد بات لـ "عبد الجبّار عشرين وجهاً"، ولكنّه "لم ير وجهه".. تلك رسائل مصطفى، رسائل تكسير المرايا، و"في هذه المدينة، إذا رميت حصاة في المرآة.. تكسر وجهك"، هذا من مغامرات حنّا المعافى حتّى الموت للراحلة، إكرام أنطاكي، وكانت قد أذهلتنا باستخدام المرايا، وها هي المرايا تعود إلينا وبلغة التكسير إيّاها سوى أنّه التكسير الآخر، تكسير أحمد علي الزين، وهو التكسير المرهون للزمن.. لسبعين سنة من عمر سجين بات يحمل لقب شيخ السجناء، بعد أن بات (صاحب العمر الطويل).. هي سنوات متراكمة في السجن، قد تكون لمجموع أشخاص، بعضهم ما زال يمشي، وثمّة من لن يبلغ عمراً طويلاً يحتاج فيه إلى العكّازات، كما حال عبد الجبار، صاحب الساق العرجاء، وقد منحت عبد الجبّار مجازفة الصراع، بل وحتّى المواجهة الصارمة التي حطّت أمامه في سجن الصحراء.

 

  • أعرفك من رائحتك، ويعرف البريد من رائحة الأختام:

 

تلك كانت طبيعة بطله عبد الجليل غزال، الأعرج من قدمه اليسرى، القدم التي لا تسعف حاملها حتّى باتت علّته أو عالة عليه، وربّما "حمل زائد"، "غصناً يابساً"، يتوكّأ عليها كما لو عكّاز، ليس بفاعليّة العكّاز الذي يستكشف حفر الطريق، فـ "عبد الجليل غزال"، رجل غرائزي، بوصلته قد تتأتى من رائحة الأشياء، الرائحة "واحدة من خصاله"، ربّما تجلّت ذروة مواهبه في التقاط رائحة مريم، فقد ماتت مريم وبقيت رائحتها، وكان عبد الجيل يعرف بالتمام والكمال، من هو القادم نحوه، يعرفه من رائحته قبل أن يصل ويفتح باب الزنزانة، وكان يميّز ما بين رائحة السجّان ورائحة السجين.. يعرف الغرف من رائحتها، ويدرك للتو "نوع التعذيب أكان يدويّاً أو آليّاً"، و: "عندما يضعون كيساً في رأسي كنت أعرف أنّ هذا الكيس يحمل بريداً، أعرفه من رائحة حبر الأختام".

 

أكثر من ذلك، كان عبد الجليل يعلم بالتمام والكمال، ومن الرائحة أيضاً إذا ماكان ذاك الكيس قد وضع سابقاً في رأس شيبان أو مصطفى أو عامر الدليمي، رفاق السجن، ضحايا السجّان "الضبع"، الذي عرّى زوجة السجين داوود ثم رفع شعرها عن وجهها ممزّقاً صدرها ووجهها، حافية وخيط رفيع من الدم على ساقها البيضاء.

 

كان السجّان "الضبع"، عندما يبدأ بالتعذيب، يضحك و يبكي معاً، حتّى كدتَ أن لا تميّز أكان يبكي أو يضحك، وعندما انتهى به المطاف ممدّداً على سفرة الدرج المؤدّي إلى شرفة مطلّة على السجن "بدا كائناً هشّاً، فاقداً لكلّ طغيانه، كان مغمض العينين، توحي ملامحه بألم اعتصره، كان يطوّق عنقه بيده اليسرى، بدا يتيماً لا أهل له".

ـ ثمّة ما يستدعي الشفقة، وقد حدث أن نال السجّان الضبع شفقة عبد الجليل السجين، كما لو أنّ عبد الجليل يرفع إصبعه الوسطى في وجه سجّانه، وقد بلغ بها العمر سبعون عاماً.

 

  • قتيل لم يعثروا عليه:

 

كلّ هذا، من أحداث وتأمّلات، واستحضار للذاكرة التي تمانع النسيان، يقع في العشرين صفحة الأولى من "حافة النسيان"، وقائع وأحداث محمولة على حكمة في الكلام، هي ليست لغة الشعر، وإن جاءت بكثافته، فالراوي الذي أراد أن ينسى نصف ثانية، دقيقة، دهراً، لم ينس، ربّما لأنّه أرادنا أن نراه حيّاً، ثم أراد أن يخبرنا عن حدث وقع في غيابه، تاركاً لنا السؤال:

ـ كيف لحدث ينال منّا وقد وقع في غيابنا؟

 

سأكون حاضراً فيما أرويه، سأكون في سجن بلا سجّان ولا سجين، أليس هذا ما يخبرنا به عبد الجبّار منذ مطلع الرواية؟

كيف بالوسع قبول هكذا اعتراف؟

سبق وقبلناه من لوركا "عرفت أنّي قتيل، فتشوا المقابر والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن، سرقوا ثلاثة هياكل عظميّة لينتزعوا أسنانها الذهبيّة، ولم يعثروا علي".

 

لم يعثروا عليه حقّاً، أيزال جسده مفقوداً، وكأنّما أراد أن يكون حرّاً حيّاً كان أم ميّتاً.

وحين يدرك عبد الجبّار موته، يعلم ماذا سيفعل، سيأتي إلينا ليخبرنا بما حدث، غير أنّه سيعلن ربّما للمرّة الأولى، وهو يسرد وقائع حواراته مع رفيق سجنه "شيبان": " قلت له، ماذا بوسع ميّت أن يفعل لميّت يا شيبان؟".

 

  • الروائي وقد نجا من الشاعر:

 

أخاف من الشاعر في الرواية، غير أنّه (هنا)، في "حافة النسيان" يشتغل الشاعر في حقل الروائي، ليمنح اللغة كثافة ونزق الشعر، ويعطي للرواية حقّها في ما تخفيه أو تبوح به من تضاريس الوقائع تحتها، فيحكي الرواي تاريخاً من الأغلال فيما تتقصّى الرواية جرحى الأغلال.

 

في "حافّة النسيان"، يسجّل شيبان مهنته "هو منظّر متخفّ في هيئة راع"، هكذا جاء في  محضر التحقيق، وهو واحد من مجموع سجناء، عدنان الأسدي، ومصطفى شبلي، و... طيف امرأة مصلوبة على النافذة.. امرأة "مصلوبة على حديد النافذة، رأسها مائل على كتفها اليسرى، وشعرها منهدل طي نصف وجهها".

ولا ينسى وهو يروي أن يذكرنا بأنّ لطيفها فستان زهري مورّد.

ـ كيف يتسنّى له بعد كلّ هذا أن يضيف:

ـ لكأنّها ميّتة؟!!

 

  • لِمَ عبد الجبار أعرجاً؟

 

هي الذاكرة "الكلبة" التي تفتك بنا، كما بالرواي (وربما بالروائي الذي يروي على لسان راويه)، فاحتفالات "يوم النصر" جرّته إلى القفص، هناك حيث "النباح التودّدي"، على رجل بقدم واحدة لا تسعفه على الهرب، تحت وطأة "عقل لا يجترح الحلول"، ليضاف عقله إلى عبء كما حال أعباء القدم العرجاء اليسرى، غير أنّها الذاكرة وحدها تشتغل.. ذاكرة بلا عرج، ليس مطلوب منها اجتراح الحلول، كلّ المطلوب من الذاكرة أن تتذكّر، وها هي كما لو آلة لم تفقد أهليّتها تستحضر المشهد:

 

ـ "لقد حفظت صورة أخيه، داخل قفص تنهشه الكلاب المسعورة".

هي الذاكرة المضادة للممحاة.

يقولون: "صورة لا يمحوها سوى الموت".

هذا ما يقترحه أحمد على الزين على بطله، ثمّ، وكأنّما يملي عليه درساً:" الإنسان إنسانان، إنس للألفة وإنس للوحشة، وتأتي ألفة هذا المسار في وحشة متاهتي خارجاً من السجن الصحراوي بملء إرادتي، لم يبق هناك من سجن ولا سجّان".

 

فور أن بدأت بقراءتها (أعني حافّة النسيان)، كان سؤالي:

ـ لم اختار أحمد علي الزين أن يكون بطله أعرجاً؟

لم تلح عليّ الإجابة، غير أنّني أخذت علماً بأنّ كوازيمودو، بطل رواية فيكتور هوغو التي تحمل صفته (أحدب نوتردام)، لم يكن ليقرع كاتدرائيّة نوتردام على ذاك النحو لولا حدبته، (أو ربّما كان ليفعلها)، سوى أنّ صوت الأجراس لم يكن على النحو الذي وصلت أصداءه إلينا، وكذا حال عبد الجبار، بطل أحمد ذاك الكائن المعطوب بالتذكّر الباحث عن ممحاة الزمان دون العثور على بواعثه.

 

  • من قال أنّ الموت لقاء حتمي مع الأموات؟

 

"بطل تعتريه القشعريريّة"، هوذا عبد الجبار، كما لو أنّه قارئ من قرّاء "حافّة النسيان"، كما لو أنّه قارئ من طرازي أنا "نبيل الملحم"، الذي يبحث عن تلك القشعريرة ليمحو موته، ومن قال أنّ الموت لقاء حتمي مع الموتى؟

هي القشعريّة التي تصيب مشّائي الصحراء، وكيف لك أن لا تصاب بالقشعريرة وأنت في علامات التيه، وقد وقعت عينك على الشجرة المقدّسة النابتة من الرمال الميّتة؟

 

حدث لي ذلك مع رواية أحمد، وقد وقعت بيني وبينها بالتمام والكمال ما وقع لعبد الجبّار من منازلة غير متكافئة مع خصم "شديد الغموض والامتداد والصمت"، هو بلغة "عبد الجبّار" الصحراء، وبلغتي رواية تصرخ أكثر ممّا ينبغي، وتهمس أكثر ممّا ينبغي، وتسأل أكثر ممّا ينبغي، وتمتّع أكثر ممّا ينبغي، وتحضّ على ما نهرب منه، لنهرب إليه:

ـ لنهرب إلى التذكّر ونحن من فصيلة البشر الباحثين في الممحاة، وعن الممحاة، وأهوال الممحاة، ورطوبة الممحاة، ورحمة الممحاة، ليرمي بنا أحمد علي الزين في مخالب الإصرار على التحديق بعد أن "يمحو من رؤوسنا حساباتنا كلّها"، لنغادر النسيان.

 

ـ النسيان؟ ما يعني الرحيل إلى حيّز ما في أنفسنا يقع خارج الزمن.

لم يتسنّ لـ أحمد الزين أن يخرجنا من زمن أبطاله وزمن روايته.. أقول روايته وما زلت في الصفحة  (25) من أوراقها.

 

ـ هل من قارئ، يقف على (25) صفحة من رواية تمتد إلى (230) صفحة، ممتلئة بالوقائع والأحداث والزمن؟

في "الصلب الوردي"، نصحنا هنري ميللر، بـ "اليقظة"، تلك "السكّيرة الرائقة الرائعة"، وفي الـ (25) صفحة الأولى من رواية أحمد علي الزين، أصبنا بذاك الداء:

ـ داء اليقظة، السكّيرة الرائقة الرائعة".

أيّة لغة يدلّنا إليها هذا الرجل؟ ونحو أيّ مصائر يختار لنا أن نمضي مع تراجيديا "حافّة النسيان"؟

 

أستعير ممّا استعار أحمد علي الزين، وقد ثبّتها على الصفحة الأولى من روايته:

ـ إذا ضاقت بك الدنيا فَسِرْ.

هذا ما فعله عبد الجليل الغزال، وقد قدّم نفسه من الصفحة الأولى للرواية، بالقول: "بدوت لنفسي فريسة أخطأها الموت، فزاولت عرجها الطويل".

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard