info@suwar-magazine.org

"إمام" من الصومعة إلى ميدان التحرير

"إمام" من الصومعة إلى ميدان التحرير
Whatsapp
Facebook Share

 

ما أن أعلن عبد المنعم القيسوني، وكان نائباً لرئيس مجلس الوزراء المصري، رفع أسعار "الرغيف" حتّى انتقلت مكبّرات الصوت إلى جامعة القاهرة، مكبّرات الصوت إيّاها كانت قد تلت اللغات الهامسة لطلبة جامعة القاهرة كما عين شمس ومعاهد الجيزة، كان هذا في عام 1977، بأكثر دقّة عشيّة 18 يناير.

 

الرغيف بالمحكيّة المصريّة يعني "العيش" والطلبة مولعون بالعيش بدءاً من رغيف الخبز، وصولاً للحوارات الصاخبة التي تمتدّ من "الثالوث المحرّم" إلى تفسير المنامات.

 

يساريّون بمحاكاة التحولات في اليسارات العالميّة، وصولاً للأسر الإسلاميّة بجلابيبها ومعدّاتها المقدّسة وما بينهما من عمال الجمّالية، هرعوا لانتزاع الميادين من أيدي "قوّات حفظ النظام".

 

نحكي عن انتفاضات يناير 1977

 

هؤلاء لم تجمعهم لغة واحدة ولكن في ميدان التحرير جمعتهم لغة:

ـ الشيخ إمام واسمه الكامل إمام محمد أحمد عيسى.

معه بات لمصر لغة مضافة للعربيّة الأم، ومن ثم الإنكليزيّة ميراث الاستعمار (الغاشم)، بات لمصر لغة اسمها إمام/نجم.

 

لم تكن الساحة له لم يكن له ما هو حصري سوى إلهه..

كانت مصر عبد الحليم ووردة والهرم الأكثر ارتفاعاً أم كلثوم.

 

وكانت المسافة ما بين "شيّد قصورك ع المزارع / من كدّنا وعمل إيدينا" لإمام، و "قارئة الفنجان" للعندليب الأسمر (هكذا كان لقب عبد الحليم حافظ)، مسافة ما بين زمنين يعيشان في لحظة واحدة.. و يتعايشان، بل في ذروة واحدة إن شئنا:

 

ـ زمن الرومانسيّة الطاغية لعبد الحليم وشارك فيها نزار قبّاني.

 

وزمن السؤال الذي راكمته حركات احتجاجيّة في العالم تبدأ من الهيبيز، وصولاً لأشكال ماركسيّة مثل الحركة الشيوعيّة الجديدة التي لا تخلو من التروتسكيّة، وقد اجتاحت بقاعاً من العالم من بينها ثورة طلبة باريس.

 

حدث ذلك، وسيكون من بالغ الإجحاف أن ننسى "أحمد عدويّة" و "السح اندح امبو"، وكانت النشيد الوطني لحمّال المطاوي في هوامش القاهرة، المدينة التي لا تتوقف عن السهر والإنجاب.

 

جمهور "عبد الحليم" ما زال يحاكي نجيب الريحاني والصالونات وأصداء مراكب النيل، فيما جمهور الشيخ إمام من حصّة أولاد الشوارع وعمّال حلوان والمتعبين والآملين والطلبة النزقين، وقد اهتدوا إلى بنطلون الجينز والرسم بالألوان الأساسيّة السبع على أقفية سترهم، وثمّة منهم من رسم قبضة تشي غيفارا على قبعته.

 

كان الشيخ إمام قد سكن غرفته في القاهرة، حوش قدم، المتفرّع من الغورية/ الدرب الأحمر، وهو البيت الذي يحمل اليوم يافطة كتب عليها، اسم (الراحل الشيخ إمام) موثّقة تاريخ موته ويوم ولادتيه:

ـ ولد في 2/ 7/ 1918، وتاريخ الوفاة 1995.

اللوحات الدالّة على أسماء ملاّك البيوت أو ساكنيها، لا تكفي لأيّة زيادات أو إضافات في عدد كلماتها، إضافات من مثل:

ـ داء الجدري وقد أصاب الشيخ إمام في طفولته فأدّى إلى كفاف بصره.

ـ ولادته بعد وفيّات سبعة أخوة ذكور، ليكون وحيد والديه.

ـ والده شديد القسوة، وكان قد طرده في عمر مبكّر من منزل العائلة في قرية أبو النمرس من محافظة الجيزة، وأمّه الملفوفة بالأمومة التاريخيّة الملتصقة ببقاء النوع رحلت عنه.

 

في "أبو النمرس"، الرجال يرقصون بالعصي وترقيص الخيول، أمّا النساء فما زالت أغاني "فاطمة علي" تدلّنا على ما كنّ يغنين كما لو "تستاهيليه اللي رجالك دولا" وربما "يا بتاع الورد"، بأصواتهن الآتية من أعالي النيل والتاريخ.

 

كان على الصبي الكفيف أن يرى بأذنيه خليط الأجساد بالأرداف العريضة، والأعناق المرتفعة للنساء المحتفلات، ولكنّه لم يكن سوى:

 

ـ ولد يرتّل القرآن على يد معلّمه الشيخ محمد رفعت، الكفيف أيضاً، وقد أمسك المعلّم الكفيف بيد التلميذ الكفيف ليكون الترتيل بداية طريق الشيخ إمام، وعلى يد معلّم صنّاع النحاس، وتلامذة التلاوة نحاساً بين يديه، وهو من وصفه الشيخ محمد متولي الشعراوي يوم سُئل رأيه بمجموعة من المرتّلين، محمود خليل الحصري، وعبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى اسماعيل، ومحمد رفعت، فأجاب بقوله: "إذا أردنا أحكام التلاوة فهو الحصري، وإن أردنا حلاوة الصوت فهو عبد الباسط عبد الصمد، وإذا أردنا النَّفَس الطويل مع العذوبة فهو مصطفى إسماعيل، وإذا أردنا هؤلاء جميعاً هو الشيخ محمد رفعت".

 

ومن شيخ إلى شيخ، وربما ستكون المحطّة الاكثر ثباتاً مع الشيخ درويش الحريري، الموصوف بأنّه "سيّد من يتلو سورة الكهف"، ومع الشيخ الحريري (الأصح بمعيته)، عُرف الشيخ إمام كبار المقرئين والمطربين، ومن بينهم زكريا أحمد، وحين تقول زكريا أحمد، يعني أن تقول أم كلثوم بما حملت مثل "أهل الهوى" و"أنا فى انتظارك" و"آه من لقاك في أول يوم" و"الأولة فى الغرام"، وكان الشيخ الفتى يحفظ اللحن ويردّده، لتتسرب الأغنية إلى حواري، وأزقّة لم تكن تستمع للإذاعة بعد، فتذيعها المقاهي قبل أن تتولّى إذاعتها إذاعة القاهرة، ما دعى الشيخ زكريا أحمد لطرد الشيخ إمام من رفقته بتهمة:

ـ تسريب أسرار الموسيقى.

 

كان السؤال على الدوام:

ـ ما معنى أن يتحوّل "الكفيف" إلى موسيقي؟ سؤال جاء بعد حزمة أسئلة من مثل:

ـ كيف الكفيف لا يكتفي بمهنة قارئ شيخ، أو الشيخ المأذون، ذاك الذي لا يكفّ عن تغطية كفّ بكفّ، وهو يجيز زيجة "المرأة العاقلة" بـ "الزوج العاقل"، في إشهار يتطلّب الكثير من الزغاريد وهدر الدماء؟

 

ليس أمراً طارئاً ولا جديداً:

سيد مكاوي كان كفيفاً، وكذا عمّار الشريعي، وإذا ما ذهبنا أبعد فأبو العلاء المعري كان كفيفاً وبلعنة الجدري كما حال إمام وكلّهم من فاقدي البصر، تنتشلهم الأذن من خسارة العين، يجمعهم النزق والتحدي والسخرية، حتّى أنّ أبو العلاء هجا نفسه بالقول:

 

ـ دُعيت أبا العلاء وذاك مين

ولكنّ الصحيح أبو النزول.

 

وإذا ما كان الشيخ الحريري أستاذاً، فليس ثمّة مهرب من استحضار الكثير من السماعيات والموشّحات والطقاطيق، وقد يكون أكثرها حضوراً من موشّحاته في ذواكر اليوم "زارني باهي المحيا"، الموشّح الذي يكتب اسم الله بحبر جديد.

 

مع ذاك الشيخ كان إمام قد التقط الطريق، وبتخليه عن شيوخه بات وحيداً ليصعد وحيداً في رحلة تشبه السماء، وهو يعتكف بغرفته الكئيبة في "حوش قدم" حيث ترقد يافطة تدل على ساكنها السابق "الشيخ إمام"، وفي تلك الغرفة الكئيبة التقى أحمد فؤاد نجم، وكانا كالبرتقالة وسرّتها:

 

 

ـ الأول يبحث عن مغن لكلامه والثاني مصاب بشهوة الكلام، ومن تلك الغرفة انطلقت أولى أغاني الثنائي "نجم / إمام" وكانت الأغنية "أنا أتوب عن حبك أنا"، الأغنية التي أخرجت الشيخ إمام من بيوت الله لتستدعيه إلى غرف السطوح، ومن ثم الإطلالة على مصر، كلّ مصر، مصر ما قبل هزيمة الخامس من حزيران وما بعد الخامس من حزيران، وما بعده كانت أغنية "يامحلا عودة ظباطنا من خط النار"، الأغنية التي زجتهما معاً "نجم/إمام" في السجن، وكان الريس جمال عبد الناصر قد أمر بسجنهما إلى الأبد، ولم تنفع وساطة أبو عمّار في الإفراج عنهما، فما بالك إذا ما كان نايف حواتمة قد توسّط لهما بلغته الباردة وبندقيّته الباردة؟

ـ لم لا؟

كانت الأغنية قد نالت من "العسكر"، ومن بعض كلامها:

 

الحمد لله خبطنا

تحت بطاطنا

يا محلا رجعه ظباطنا

من خط النار

يا أهل مصر المحميّة

بالحراميّة

الفول كتير والطعمية

والبر عمار

والعيشة معدن واهي ماشية

آخر أشيا

مادام جنابه والحاشية

بكروش وكتار

ح تقول لى سينا وما سينا شي

ما تدوشناشي

ما ستميت اوتوبيس ماشى

شاحنين انفار

إيه يعني لما يموت مليون

أو كل الكون

العمر أصلاً مش مضمون

والناس أعمار

والشعب احتار

وكفايه أسيادنا البعدا

عايشين سعدا

بفضل ناس تملا المعدة

وتقول أشعار

أشعار تمجّد وتماين

حتى الخاين

وان شا الله يخربها مداين

 

تلك كانت المحطّة الفاصلة لـ"قطار إمام/نجم"، وقد امتدّا من سيّد درويش إلى الصومعة ومن الصومعة إلى السجن وبأوامر من محكمة جاء في قرارها:

ـ بسبب تعاطي الحشيش.

 

كانت النكسة قد جلبت "مية وكسة" على حد "كس أميات نجيب سرور"، وقد شارك نجيب الشيخ إمام بقصيدته "البحر بيضحك ليه"، فيما السخط يجمع ويُعلن نكاته على أساتذة اللغة الأنيقة، وقد انشطر كتّاب مصر إلى اثنين:

ـ ابن القحبة، وابن البلد، وكان نجيب قد حكى بالكثير من النزيف عن أبناء القحبة، فـ :

الموجة تجري ورا الموجة، والموجات الوف.

عجّل واركب أية موجة.. فالأيام دول.

ويل للبسطاء ذوي القلب الأبيض.. حين تفاجئهم أنواء الطقس

الناس اثنان..

الأول ينجو في الطوفان

والآخر يغرق في كأس.

إني أغرق.. أغرق .. أغرق.

 

ما بعد السجن وموت عبد الناصر، كانت القصيدة الأهم في رثائه قد كُتبت بصوت أحمد فؤاد نجم، وربما لا يجاريها سوى قصيدة لعبد الرحمن الأبنودي في رثاء الريس.

 

هي القصيدة التي تحمل إصراراً على تأليه سجّانه.. تأليه عبد الناصر (ثمّة فروسيّة في الأمر)، فكان منها:

السكّة مفروشة تيجان الفلّ والنرجس

والقبّة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس

والمشربية عرايس بتبكي والبكى مشروع

من دا اللي نايم وسكت

والسكات مسموع

سيدنا الحسين؟

ولا صلاح الدين ولا النبي ولا الإمام؟

 

أبويا حمار فكان طبيعي يجبني جحش

لا أعرف نبي من اجنبي

لا مين ماجاش

ولا مين مارحش

موسى نبي كمان محمد كان نبي

وكل عصر وله أدان وكل عصر وله نبي

 

عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت

ومعاش ومات وسطنا

على طبعنا ثابت

وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت

ولا يطولو العدا

مهما الأمور جابت

مع موت عبد الناصر كان الانقلاب الأكبر، فالرجل الثانوي أنور السادات ثبت بالوقائع أنّه سيكون الدور الأول، كان هذا حال من تتبّعوا آثار أنور السادات، رجل " أخويا كيسنجر"، غير أنّه وقد تمكّن من السلطة ما بعد تصفية كل من قرأ الفاتحة على قبر جمال عبد الناصر، أحال البلد من "قطّاع الدولة" و "أحنا بنينا وإحنا حنبني السد العالي" إلى عالم المقاولات، وما من شيء غير قابل للبيع، ولو كان للإهرامات أن تنتقل في الحقائب، لا نتقلت موميا تحوتمس في واحدة من حقائب سنيور، سي، مسيو، افندم، فالحقائب لاتخلو من سطوة الخواجات، والبلد (مفتوح) حتّى صارت وكما ألقاها نجيب سرور بحضرة إمام/نجم، مع الكثير من القهقهات:

ـ بلد المنايك بلدنا

والكل يناك فيها

شوف الخريطة تلاقيها فاتحا رجليها

ربك عملها كدا

وحتعمل ايه فيها؟

 

وفي الصفوف الخلفية شعراء من سطوح مصر، من "البيدروم" والعشوائيات والحواضر، تجمعهم السخرية والهجاء وروح المقاتل، شعراء من وزن فؤاد قاعود وسيد حجاب ونجيب سرور وتوفيق زياد ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد وآدم فتحى وفرغلى العربي، وغيرهم.

 

معظمهم شهد السجون، وكلهم اشتغلوا لحساب "الحريّة هانم"، فكان أن انتصرت حريّتهم على السجون ومع كلّ المراحل كانت الهجرات.

ـ ثمّة مئات آلاف العشاق هجروا عبد الحليم وانتقلوا إلى ضفّة الشيخ إمام، مع أنّ المقارنة بينهما ستخسر كليهما، وهي المقارنة التي اشتغل عليها مثقفون سوريّون مطلع ثمانينات القرن السابق حتى افتتحوا معركة من أبطالها بوعلي ياسين ونبيل سليمان في جبهة، وممدوح عدوان في الجبهة المضادة، وكان الحوار أيّهما أكثر انتماء للبروليتاريا الظافرة، عبد الحليم ومات بالبلهارسيا مرض الفلاحين والغيطان وفقراء الريف، أم الشيخ إمام فتى الصومعة وقد انتقل إلى الميادين؟

 

مات الشيخ إمام في 7 يوليو 1995، وولد الشيخ إمام بـ 2 يوليو 1918، ما يعني أنّه عاش 77 عاماً.

بوسعك أن تتساءل:

ـ هل سيختفي بعد 77 عام من موته؟

لو كان ذلك ممكناً، لما حضر في ميدان التحرير القاهري 2011 وكانت أغانيه مفتاح بوّابة ثورات امتدت من البوعزيزي في تونس، إلى مئات آلاف من منشدي ساحة الساحة في حمص.. كانت أنبل الأغاني، ومن بينها أغاني الشيخ وكأنّه بيننا.

مات إمام معزولاً، منسياً، في غرفته الفقيرة إيّاها، ثمّة من همس في أذنه:

ـ كفّ عن الجمال واصمت.

صمت، والكل سيصمت:

عبد الحليم صمت، أم كلثوم صمتت وأسمهان كذلك.

مع إمام أنت في "الصومعة، الميدان، الخمّارة، ورشات الشغيلة"، أنت في وسط البلد.

تلك مصر..

ـ هيا دي.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard