info@suwar-magazine.org

(مكرمة) العفو كاستثمار سياسي

(مكرمة) العفو كاستثمار سياسي
Whatsapp
Facebook Share

 

"أشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز سلطةً دينية. ولنا أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ من هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً".

      عبد الرحمن الكواكبي ـ طبائع الاستبداد

 

لا تُقْدِم الأنظمة الاستبدادية الشمولية (وهي سمة الاستبداد المعاصر، حيث الاستبداد يكون شمولياً بالضرورة حتى لا يفلت منه أي منحى حياتي) على أي إجراء قبل أن تضعه في ميزانها الأول بل الوحيد: مدى مساهمة هذا الإجراء في ديمومة سلطتها وزيادة تغوُّلها، وإضعاف خصومها في الداخل، وهم ضعفاء أصلاً نتيجة الحصار والخوف، وفي الخارج، حيث المنفيون والهاربون من الجحيم يقتاتون أيامهم ويكتبون أحلامهم بوطن خالٍ من القتل والتنكيل والسجون.

 

لا تضع سلطة الاستبداد أي معايير أخرى لقراراتها مثل إرضاء جمهورها مثلاً (ولكل سلطة جمهورها)، أو تحقيق بعض المطالب اليومية الحياتية للناس، أو رفع بعض المظالم عنها . .. .الخ، إلا كمؤشرات هامشية لا تؤخذ سوى بقدر ما تخدم الغرض الأساس الذي يحدد مسار الأمور.

 

مراسيم العفو العديدة التي صدرت في سوريا خلال السنوات الأخيرة من عمر الكارثة السورية لا تخرج عن هذا التوصيف، إنها كـسراب "يحسبه الظمآن ماء"، يتداعى المعتقلون والمخطوفون والمختفون قسرياً وذووهم لتلقفها و"فصفصتها" لعلّ فيها ما يبشرهم بعودة الغياب أو على الأقل بمعرفة شيء عن مصيرهم، لكن ما أن تصدر "التعليمات التنفيذية" للمرسوم، والتي تكون أشبه بمتاهات لا يعرف مساربها ومداخلها ومخارجها سوى من أصدرها، حتى يصبح العفو فرصة لأصحاب النفوذ وكبار المسؤولين لتحقيق المزيد من الثروات على حساب أهالي المعتقلين عن طريق ابتزازهم ودغدغة الأمل بعودة أبنائهم مقابل مبالغ مالية باهظة، فحتى للاستفادة من العفو ثمن لا بد من دفعه لهؤلاء حتى يشمل العفو غائبهم الذي أكل السجن من أجمل سني عمره.

 

منذ المرسوم 34 الذي صدر في 7 آذار عام 2011، أي قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية بأسبوع، كان واضحاً إنّ النظام يريد أن "يبيع ويشتري" بمراسيم العفو والإفراجات الجماعية الصامتة التي تتالت، سواء مع الجماعات الإسلامية التي تصدّرت المشهد عند تحول الثورة إلى حرب أهلية، أو مع الضغوط العربية والدولية التي مورست عبر لجان التحقيق ومساعي الحوار.

 

وكان هدفه من كل مراسيم العفو هو اللعب على الوقت لإحراز مكاسب أكثر على الأرض، وانتظار ظروف أفضل بعد ترميم تحالفاته وتفاهماته مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، فصدرت مراسيم عفو مختلفة في التواريخ التالية: (26/3/2011 ـ 20/6/2011 ـ 4/11/2011 ـ 15/1/2012 ـ 2/5/2012 ـ 23/10/2012 ـ 16/4/2013 ـ 29/10/2013 ـ 9/6/2014 ـ 25/7/2015 ـ 17/2/2016 ـ 28/7/2016 ـ 9/10/2018 ـ 15/9/2019 ـ 22/3/2020 ـ 12/3/2021 ـ 2/5/2021 ـ ومرسوم العفو الأخير  الذي حمل الرقم 7 لعام 2022).

 

"الأوسع والأشمل". . لماذا؟!

 

دأبت أجهزة إعلام النظام، وتلك المقرَّبة منه، على تكرار عبارة العفو الأوسع والأشمل في وصفها لهذا العفو، وهو في الحقيقة أوسع واشمل من جميع المراسيم السابقة، لكن السؤال هنا لماذا هذا العفو أوسع وأشمل من جميع مراسيم العفو السابقة؟

 

سنحاول الإجابة ببعض الاختصار، لأن التفصيل في هذا الموضوع يحتاج بحثاً واسعاً، وربما كتاباً، حتى نستوفي التفاصيل التي دعت النظام إلى محاولة إغلاق جزئي لملف الاعتقال التعسفي.

 

 فكل نقطة ستثيرها هذه المادة بحاجة إلى إيراد أمثلة مفصلة عن معتقلين شملوا بهذا العفو، ومقارنة أوضاع هؤلاء المعتقلين المشمولين بالعفو، سواء كان اعتقالهم استناداً إلى قانون العقوبات السوري رقم /148/ لعام 1949 وتعديلاته أو قانون مكافحة الإرهاب رقم /19/ لعام 2012، مع معتقلين آخرين لم يشملهم العفو، وغيرها من تفاصيل بحاجة إلى جهود مؤسسات قانونية ومنظمات إنسانية للتوثيق والتصنيف والمطابقة مع المعلومات المتوفرة لدى منظمات حقوق الإنسان وهيئات المعارضة السياسية حول أعداد المعتقلين وأسمائهم وأوضاعهم، وسنوات توقيفهم، والتهم الموجهة إليهم، ووضعهم القانوني والصحي، وغيرها.

 

رهائن لا معتقلون

 

هناك أعداد هائلة من المعتقلين تحت بند قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2012 لم يكن لهم أي علاقة بالصراع المسلحة او بالتنظيمات المسلحة للمعارضة، وإنما قام النظام باعتقالهم كرهائن يبتز بها المجتمع الدولي والمعارضة السياسية، معتمداً على فرضية بقائهم في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة خلال فترة الحرب، وبالتالي قام باعتقالهم بعد سيطرته على مناطق سكن هؤلاء، وقامت أجهزته بتلفيق تهم تدخل تحت بند الإرهاب (تمويل إرهاب، ترويج للأعمال الإرهابية، تدخل في أعمال إرهابية . . .  إلخ)، وهي تهم تزيد أحكامها بموجب القانون المذكور عن عشر سنوات.

 

أصبح هؤلاء المعتقلون شبه منسيين، لأنهم لم يكونوا ناشطين سياسيين أو مساهمين في الصراع المسلح، وإنما تابعوا ممارسة حياتهم ومهنهم في المناطق التي سيطر عليها مسلحو المعارضة، وتحمّلوا الحصار القاسي والقصف اليومي مفضلين كل هذه المخاطر على ترك بيوتهم وأرزاقهم، وبالتالي فإنهم غالباً لم يسجلوا في عداد المعتقلين على خلفية الصراع الدائر منذ عام 2011.

 

 

 وهناك قصص كثيرة عن هؤلاء يندى لها الجبين، فكيف يتهم من كان طفلاً عام 2011 بتمويل الإرهاب، أو التدخل في أعمال إرهابية، أو تشكيل مجموعة إرهابية، أو السطو . . . إلخ، وهو قد اضطر إلى ممارسة أي مهنة يعيش منها هو وأهله ضمن المناطق المحاصرة في ظل غياب المعيل؟!

 

هذا النموذج من المعتقلين يعدّ بعشرات الآلاف في مختلف السجون ومراكز التوقيف والفروع الأمنية، وهم مادة جاهزة للمساومة مع مختلف الأطراف، وقد استفاد الكثيرون منهم من مراسيم العفو السابقة كلياً أو جزئياً، أي انّ أحكامهم كانت تُخفَّض مع كل مرسوم يتضمن العفو عن نسبة من "الجرم" الذي اتهموا به، وبعضهم أُطلق سراحه بعد مراسيم عفو سابقة، لكن بقيت غالبية هؤلاء تنتظر عفواً عاماً يعيدهم إلى عائلاتهم وذويهم، فيما بقي النظام محتفظاً بهم.

 

الآن، ومع الانفتاح العربي النسبي (الخليج ومصر) على النظام، وتزايد احتمالات عودته إلى الجامعة العربية، والأحاديث عن تسويات سياسية جزئية طبعاً، وإعادة الإعمار بمساعدة دول الخليج، كان لا بد من ثمن يدفعه النظام لحفظ ماء وجه الدول التي ستطبع معه،  لكنه ثمن وهمي لا يكلفه شيئاً، فهو سيفرج عن أناس أبرياء لم يرتكبوا أي جرم، ولا علاقة لهم بالإرهاب أو حتى بالسياسة والشأن العام.

 

سيفرج عن رهائن مدنيين أخذهم من بيوتهم وأسرهم ليفاوض عليهم، ويبيع ويشتري بهم

 

هذا بالضبط ما جعل العفو الأخير هو "الأوسع والأشمل"، لأنه قرر كما يبدو الإيحاء إلى المنفتحين عليه من عرب ودول كبرى أنه يقوم بطي ملف الاعتقال، وتقديم "تنازل مؤلم"، في حين إنه لم يفعل شيئاً سوى إعادة معتقلين أبرياء إلى بيوتهم بعد سنوات طوال من الاعتقال والتعذيب والذل والتنكيل بهم وبأهاليهم، وابتزازهم مراراً وتكراراً بتحصيل مبالغ خيالية عبر سماسرة الأجهزة ومحترفي عمليات النصب والاحتيال على هؤلاء الضحايا.

 

هنا يصح السؤال: من الذي يجب أن يعفو عن الآخر؟

 

الثمن الذي تنتظره السلطة مقابل هذا العفو وإجراءات شكلية اخرى قد تأتي خلال الفترة القادمة، يسيل له لعاب  كبار الطباخين فيها والأثرياء الجدد الذين صعدوا خلال سنوات الحرب: الانفتاح على المحيط العربي.

 

سيقومون  ـ كما يأملون ـ بمشاركة رأس المال الخليجي المخصص لإعادة الإعمار، ويضيفونه إلى أرصدتهم، ويمكنهم في أي لحظة أن يعيدوا من أخرجوهم من سجونهم إليها وإعادة التفاوض عليهم.

 

أين المعتقلون؟!

 

الجميع يعلم أن هذا العفو لم يشمل المعتقلين السياسيين والناشطين المدنيين والكتاب والمثقفين الذي اعتقلوا بسبب تعاطفهم مع الثورة.

 

لم يشمل العفو د. عبدالعزيز الخير والناشط السياسي فائق المير والمحامي خليل معتوق والكاتب عدنان الزراعي والصحفي جهاد محمد، الفنان زكي كورديلو وابنه مهيار، والقائمة تطول.

 

العفو الذي صدر كما كل "المكرمات" التي تصدر من الرئيس، مثل زيادات الرواتب، و"المنح" المالية التي يجود بها كل فترة على الموظفين الجوعى، لم تصدره مؤسسة أو هيئة منتخبة، بل جاء ليظهر تسامح الرئيس وسعة صدره تجاه العُصاة  من شعبه، العُصاة الذين بقوا في منازلهم ومارسوا أعمالهم المعتادة بعد انسحاب الدولة من مناطقهم وسيطرة المجموعات المسلحة عليها دون أن يهتموا من يحكم ومن ينسحب، وسيعودون إلى مهنهم إن بقيت لديهم قدرة على العمل بعد سنوات السجن الطويلة، وإلى منازلهم إن بقيت لهم منازل.

 

أما من تجرّأ وصرخ في وجه آلة العسف والقمع فلا متسع لعفوٍ تجاههم عند السلطة التي تتوهم أبدية لم تتحقق لأحد، حتى للآلهة.

 

 

                                                                              حسين محمد

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard