info@suwar-magazine.org

في مديح الهامش

في مديح الهامش
Whatsapp
Facebook Share

 

 

دعونا نتحدث عن أشياء نافلة، أشياء لا تستفز أحداً، لا تستنفر قانون الإعلام الإلكتروني والمخافر الإعلامية المتأهبة لأي صيد جديد يخرج عن النص، ويتفق عليها معظم الناس، وحتى من يختلف معك فيها لن يلجأ إلى اعتقالك أو تصفيتك أو حتى تخوينك وتحميلك أوزار المؤامرات والخطط التي تتشارك فيها الإمبريالية والصهيونية والرجعية وتفرعاتهم وأذيالهم.

 

لماذا هذه الدعوة التي تبدو بريئة في ظاهرها، ومشبوهة لمن يبحث عن مؤامرة مخبأة في صرير الباب أو حفيف شجرة وحيدة في حديقة افتراضية؟!

 

لأن السياسيين لن يتوقفوا عن الكذب واتهام الآخرين به، لن يتوقفوا عن ركوب كل موجة للبقاء على رقاب الناس إلى ما شاء الله، سيستمرون في مديح السلطان وذم خصومه حتى تفرغ معالفه، وتمتلئ معالف الخصوم، حينها ينتقلون بخفة لا مثيل لها من ضفة إلى أخرى متابعين عملهم الأساسي، بيع الكلام.

 

لأن اللصوص الصغار لن يتوقفوا عن التسلل إلى المنازل والمحلات ليلاً وسرقة ما يجدونه، أما اللصوص الكبار فلن يتوقفوا عن الاجتماع ليلا ليفاجئونا صباحاً وهم يدلفون إلى مكاتبهم الوثيرة برفقة السائقين والخدم والحشم، ثم بيد واثقة، بيد لم تعرف التردد في نهب البلد والناس، يوقعون على قرارات الليل التي تدهش الناس بقدرتهم المميزة على سحب آخر قرش أبيض خبأه الناس لأيامهم السوداء التي طالت أكثر مما ينبغي، أكثر مما ينبغي ولا ينبغي أيضاً.

 

لأن السجون لن تفتح أبوابها لمن تجرأوا على الحلم يوماً وحلموا بالكرامة والحرية، لمن قالوا كلمة حق في وجه سلطان جائر، بل هي تفتح لهم أفواهها العفنة صارخة هل من مزيد.

 

دار السينما الرخيصة التي كنا نلوذ بعتمتها، ونحن نتابع بشغف تلك الأفلام التي شاهدناها عشرات المرات، بانتظار المشهد الذي دخلنا من اجله، أُغلقت، وتحولت إلى بوتيك أو صيدلية لبيع الأدوية علناً والمواد المخدرة سرّاً، ولن تعود إلى عرض أفلامها المتتابعة والكثيرة.

 

المراكز الثقافية بقاعاتها الباردة لم تعد تأخذك إليها بشغف قاتل لتترك كل أشغالك وهمومك الصغيرة وتذهب إليها.

 

الآن، يؤمها بضع شعراء وكتاب في خريف أعمارهم، يتبادلون النكات الرذيلة ويلوكون قصص أمجادهم الآفلة قبل أن يقرأوا لبعضهم ما كتبوه، ثم يمضون إلى منازلهم البعيدة في أطراف المدينة، وهم يحلمون بالجمهور الغفير والشهرة التي لن تأتي.

 

إذاً . . . لنتحدث عن المطبخ مثلاً، لنناقش عن الرجال الذين لا يدخلون إلى مطابخ بيوتهم إلا ليلتهموا طعاماً بارداً من البراد لأنهم مستعجلون، ولا وقت لديهم لانتظار أن تقوم سيدة البيت بتسخين الطعام وترتيب السفرة، وعن القلائل النادرين الذين يدخلون مطابخ بيوتهم ليساعدوا رفيقات حياتهم في شيء ما مهما بدا بسيطاً، نقل الصحون مثلاً، جلي بعض الأواني التي استخدمتها السيدة في الطبخ، تهيئة السفرة سواء كانت هناك "طاولة سفرة" او مدها على الأرض ليجتمع عليها من تبقى من العائلة لم تلتهمه الغربة والهجرات.

 

لنتحدث عن أطفال القرى الفقيرة النائية الذين يصنعون ألعابهم من أي شيء يصادفونه، أغصان الشجر، الطين بجانب النهر أو البركة، الطيور والحيوانات الشاردة أو الأليفة، وحتى الدبابير وصغار الأفاعي التي يتمكنون من القبض عليها وسجنها في مخيلاتهم البيضاء.

 

لنتحدث عن كرة القدم، عن فينيسيوس جونيور الذي بكى طويلاً لا لأن فريقه ريال مدريد خاسر مع فالنسيا المهدد بالهبوط، بل لأن العنصريين من بين جمهور الفريق المنافس أطلقوا عليه ألفاظاً بذيئة وشنيعة ومليئة بالحقد والعنصرية، لكن عزاءه وعزاءنا إن المباراة توقفت مطولاً لحل المشكلة، وحاور الحكم كل المعنيين حول إيقاف المباراة بسبب تلفظ مشجع أهوج بألفاظ عنصرية أو الاستمرار فيها بعد توجيه تنبيه للجمهور ثم إيقافها إن تكررت الإساءة، ثم ما لبث فينيسيوس أن اختير افضل لاعب في الريال لعام 2023.

 

إنها شعوب تعلّمت من حروبها وخرافاتها ومآسيها وبنت دولها ومجتمعاتها وحصنتها ضد كل هذه الآفات بدولة القانون والمؤسسات مثلنا، مثلنا تماماً.

 

لنتحدث عن قيام بلدية مكتظة بالفساد والفاسدين قامت بهدم سور لمنزل عربي، سور يا أمة الله، سور بناه أهل الدار من دم قلوبهم بعد أن حرموا أنفسهم من الكثير حتى أنجزوه، لأن أوامر السيد المحافظ ـ كما صرحت رئيسة البلدية ـ  تنص على منع إقامة أسوار للمنازل إلا من الأسلاك الشائكة والأوتاد وكأننا في معسكرات أو نواد وليس للبيت حرمته، فيما ترتفع الأبنية الشاهقة في طول البلاد وعرضها مخالفة لأبسط شروط العيش الإنساني والكودات الهندسية المعتمدة ثم تتم المصالحة عليها بالطرق المعروفة وبموافقة الجميع، لتصبح البلد كلها منطقة عشوائيات.

 

لنتحدث عن أمورنا الصغيرة التي غمرتها سيول الشعارات الكاذبة والأوهام التي ما زالت تحتل عقول الكثيرين، عن مبررات واهية لما يفعله بنا الحكام الذين قفزوا إلى السلطة في غفلة من الزمن ومن التاريخ. بالحجة القديمة الجديدة التي أسكت الحكام بها الناس "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".

 

والله لو أنهم خاضوا معركة ناجحة واحدة مع العدو المحتل، لو أنهم حرروا شبراً واحداً من الأراضي المحتلة من أكثر من دولة وجماعة، لسكتنا الدهر كله.

 

دعونا إذاً في الصغائر، لأن الصغيرات تصنع الكبيرات، ولنترك عظائم الأمور لعظمائنا لا سلّم الله لهم ولا عظمة.

 

          

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard