info@suwar-magazine.org

حوارٌ مع الباحث والمفكر السوريّ جاد الكريم الجباعي

حوارٌ مع الباحث والمفكر السوريّ جاد الكريم الجباعي
Whatsapp
Facebook Share

اللامركزية أو الفيديرالية يجب أن تكون خياراً وطنياً، من أجل دولةٍ وطنيةٍ قوية

 

كمال شيخو

 

*كاتبٌ وباحثٌ سوريٌّ. من مواليد السويداء 1945. حصل على إجازةٍ في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق 1968/1979. بدأ بتدريس مادة اللغة العربية في ثانويات اللاذقية والسويداء ودمشق بداية ثمانينيات القرن الماضي. ثم استقال من التعليم وعمل محرّراً ومدققاً لغوياً في هيئة الموسوعة العربية بدمشق، وكتب للموسوعة عدّة بحوث.

يدير موقع (سؤال التنوير) الإلكترونيّ. ومتفرّغٌ للبحث والكتابة. وأحد مؤسّسي لجان إحياء المجتمع المدنيّ في سورية، وجمعية حقوق الإنسان، ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطيّ. وكان عضواً قيادياً في حزب العمال الثوريّ العربيّ حتى عام 1996.

 

نشر عدّة كتبٍ ومؤلفاتٍ، منها:

(حرية الآخر، نحو رؤيةٍ قوميةٍ ديمقراطية)، (حوار العمر، أحاديث مع الياس مرقص)، (قضايا النهضة)، (المجتمع المدنيّ، هوية الاختلاف)، (المسألة الكوردية.. حواراتٌ ومقاربات).

 

في مقالتك "عن خيارات الحلّ السياسيّ في سوريا"، أشرتَ إلى أن الأوضاع القائمة على الأرض لا توحي بإمكان حلٍّ قريبٍ للمسألة السورية. ومع ذلك قلتَ: "لا بدّ من العمل في سبيل حلٍّ سياسيٍّ كأنه سيحصل غداً". لماذا الحلّ السياسيّ ليس قريباً برأيك؟

 

أولاً، لأن الحلّ، الذي يُراهَن عليه، هو الحلّ الذي ينجزه السوريون بأنفسهم، ويبدؤون بالعمل الجديّ من أجله، ويكون مداه الزمني منظوراً. فقد كنا نظن أن الحلّ السياسيّ مرهونٌ باقتناع القوى المحلية بعدم إمكانية الحسم العسكريّ لمصلحة أيٍّ منها، ولو كان الأمر كذلك لكنا في مرحلة الحلّ أو ما بعدها. فتبيّن أن إمكانية الحلّ مرهونةٌ بقرار القوى الإقليمية والدولية الراعية للحرب والمشاركة فيها، بأيّ صورةٍ من صور المشاركة.

لقد خرجت المسألة من أيدي السوريين جميعاً، بمن فيهم السلطة، التي لا تزال أكثر قوّةً وتماسكاً، ولكنها لم تعد تزيد على جماعةٍ مقاتلةٍ تسيطر على مساحةٍ من الأرض وتدير بعض شؤون سكانها إدارةً سيئة، كغيرها من الجماعات المقاتلة، ومرتهنةً مثلها للقوى التي تمدّها بعناصر القوة وتسيطر على قرارها، كلياً أو جزئياً.

ثانياً، لأن الفعل السياسيّ لا يؤدّي إلى النتائج المتوقعة منه بالضرورة، ولا سيما حين تكون السياسة مجرد أيديولوجيا، لا تأخذ الوقائع العيانية ونسبة القوى في الحسبان، ولا تتجه إلى المصلحة العامة. فقد أدّت سياسات السلطة و"المعارضة" إلى إطلاق وحوش الطائفية المذهبية، الإثنية والدينية، حتى بات التخوّف مما بعد الحلّ السياسيّ مثل التخوّف من استمرار الحرب. ومشاريع الحلول المفكّر فيها لا تتضمّن رؤيةً عمليةً لهذه المسألة المزمنة، وإن بدأ الحديث خجولاً عن اللامركزية. أعتقد أن اللامركزية أو الفيديرالية يجب أن تكون خياراً وطنياً، من أجل دولةٍ وطنيةٍ قويةٍ.

ثالثاً، لأن القضية تحوّلت إلى "القضاء على الجماعات الإرهابية"، لا إلى معالجة أسباب الإرهاب وتجفيف منابعه. والعصبية الطائفية والاستبداد كلاهما مولّدان للإرهاب، علاوةً على الإفقار والتهميش وتقفير الحياة الإنسانية و"هدر الإنسان".

 

حسب رؤيتك للحلّ في سورية، طالبتَ بتعهّد الأطراف المشاركة في الحرب بوقف جميع الإعمال القتالية، وإخراج جميع التنظيمات غير السورية وميليشياتها، وجميع المقاتلين غير السوريين من البلاد. هل تعتقد أن هذا المطلب سهل التحقيق، ومن الممكن أن يكون مفتاحاً للحل؟

 

لستُ في موقع من يطالب، أنا بالكاد في موقع من يرى. ولا أعتقد أن وقف القتال وإخراج التنظيمات وميليشياتها من البلاد بالأمر السهل، مع أنه أسهل من استمرار الحرب وأقلّ كلفةً. أسهل على السوريين حين يقرّرون أن يعيشوا معاً، ويعيدوا بناء ما تهدّم وتهتك، حين يعترف كلٌّ منهم بالآخر، على أنه ندُّه وعديله، ويعترف الرجال بحرّية النساء وحقوقهن، وتعترف كلّ جماعةٍ إثنيةٍ أو دينيةٍ أو مذهبيةٍ أو حزبيةٍ بسائر الجماعات الأخرى، وباستحقاقها الحرّية والكرامة الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية بالتساوي، أفراداً وجماعات.

 

منذ بداية انطلاقة الانتفاضة الشعبية المناهضة لنظام الحكم في سورية، أواسط آذار/مارس عام 2011، كان هناك سجالٌ حول موقف الأقليات، التي يرى البعض أنها بقيت في منزلةٍ بين المنزلتين. كيف تنظر إلى حالة الأقليات وتفاعلها مع الحراك المعارض وموقفها؟

 

ثمة سجالٌ بالفعل، حول هذه المسألة وغيرها. فإذا كان هناك من يرى أن الأقليات بقيت في منزلةٍ بين المنزلتين، فإن أكثرية المساجلين يتحدّثون عن تحالف الأقليات. وعلينا أن نتساءل: من هم المتساجلون في هذه المسألة؟ هل هم المسلمون والمسيحيون عامةً، أم السنة والشيعة، أم السنة والعلويون والدروز والإسماعيليون، أم العرب والكرد، عامةً؟ المتساجلون قسمٌ من نخبةٍ سياسيةٍ تدافع عن السلطة وتسوّغ احتكارها، وقسمٌ منها يطالب بالسلطة ويتطلع إلى احتكارها. ويحتاج أيٌّ منهما إلى عصبيةٍ وعقيدةٍ إبرائيةٍ لتبرير مشروعيتها، وإلى جمهورٍ لا يستطيع مخاطبته إلا بمفردات ثقافته ومستوى إدراكه، ليقول لهذا الجمهور ما يعرفه الجمهور نفسه ويؤمن بصحته، فيقع التصديق الضروريّ للتعبئة والحشد والتجييش. هذه الشريحة من الموالين والمعارضين هي من تصنِّع الطائفية المذهبية وتؤجّج العصبيات، وتعدّ الأفراد وسائل وأدواتٍ لتحقيق غاياتها.

السجال الدائر حول موقف الأقليات، يتصل مباشرةً بحكم أيديولوجيٍّ-سياسيٍّ مفاده أن النظام السوريّ نظامٌ طائفيٌّ، علويٌّ، وسلطته علويةٌ، وأن "الأقليات" متحالفةٌ معها. هذا الحكم كان يقال همساً، ثم صار جهراً.

 

أفترض أن مقولة الأكثرية والأقليات مقولةٌ أيديولوجيةٌ-سياسيةٌ، في أيّ مجتمعٍ، يتبناها من يعتقدون أن العرق أو الدين أو المذهب أو العقيدة العلمانية هويةٌ، وأن الجماعة العرقية أو المذهبية أو العقائدية بنيةٌ متجانسة. وهؤلاء شريحةٌ من الإنتلجنسيا، كما تقدّم، لا نستطيع تقدير نسبتها، ويبدو أنها غير قليلةٍ. المولودون من هؤلاء في أسرٍ عربيةٍ سنّيةٍ يعتقدون أن العرب السنّة مثال ما "يجب" أن تكون عليه الأمة، والمجتمع والشعب، وأن الوطن وطن العرب السنّة والدولة دولتهم. ومن ثمّ فإن غير العرب وغير المسلمين السنّة أقلياتٌ، أقلّ قيمةً وأدنى منزلةً، وأمرُهم في يد "الأكثرية"، بوصفهم إما ذميين وإما ضالين وإما غرباء وإما مواطنين من الدرجة الثانية ومشكوكٌ في ولائهم، في أحسن الأحوال. تعبّر عن ذلك أيديولوجية الإسلام السياسيّ، المنظّم، كالإخوان المسلمين، وغير المنظّم، وهذا الأخير يتزيَّا بزيٍّ "ديمقراطيّ". فالمسألة لا تتعلق بالإسلام والإيمان، ولا بالوجود التاريخيّ لجماعاتٍ إثنيةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ مختلفةٍ، بل تتعلق بأيديولوجية السلطة والسلطة المضادة. فمن غير الواقعيّ أن نتحدّث عن كتلٍ متجانسةٍ، كالمسلمين والمسيحيين والسنة والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين، أو الكرد والآثوريين وغيرهم، ونحكم فيها أو لها أو عليها، أياً كانت معايير الحكم.

 

مقولة الأقليات مقولةٌ ذات دلالةٍ تحقيرية، لم يجرِ فحصها ونقدها، وهي جزءٌ من ثقافة الاستعمار، وإستراتيجية "حماية الأقليات"، وهي إستراتيجيةٌ استعماريةٌ تُلقى مسؤوليتها على "الأقليات". ومقولة "تحالف الأقليات" الشائعة اليوم والتي يطلقها بعضنا، بلا تبصرٍ، تنبع من وعيٍ أو لا وعيٍ عصبويٍّ، وتنطوي على أمرين: أولهما تخوين "الأقليات" أو تكفيرها، والثاني تهديدها، مما يزيد من توجس الجماعات غير العربية وغير السنّية، ويضاعف مخاوفها.

 

"تمانع أسلمة الدولة وتتوجّس منها شراً"، وترى أن "أسلمة الدولة لا تختلف في شيءٍ عن تبعيثها" (جعلها بعثيةً) الذي هو أساس ما تعاني منه أكثرية الشعب. ماذا قصدت بكلامك، وأيّ شكلٍ للدولة تستشرف لسورية المستقبل؟

 

ثمة نموذجان لا يحتاجان إلى جهدٍ كبيرٍ لإدراك مغزاهما: السلطة التي تحكم بأيديولوجيةٍ قوميةٍ، وتخوِّن كلّ من لا يواليها، وتنظيم داعش الذي يحكم بأيديولوجيةٍ إسلاميةٍ، ويكفِّر كلّ من لا يواليه. لا أظن أن أحداً، غير السلطة وأمثالها وداعش وأمثالها، يريد أن تكون سوريا كذلك في المستقبل. لا أحد عاقلاً وأخلاقياً يريد أن يعيش مخوَّناً أو مكفَّراً، أي مهدّداً في حياته ومهدورةً إنسانيته ومهدوراً دمه. الدولة المؤدلجة لا عقلانيةٌ بإطلاق، ولا أخلاقيةٌ بإطلاق، ولا إنسانيةٌ بإطلاق، بل هي إهانةٌ للكرامة الإنسانية. هكذا دولة البعث ودولة الخلافة الداعشية وأمثالهما.

أما عن المستقبل فثمة تصوّران: المستقبل الذي هو ممكنات الحاضر، والمستقبل المنشود أو المرغوب فيه. عن الأول لا أستطيع أن أقول شيئاً كثيراً، في ظلّ هذه الفوضى والشواش وهذا اللامعقول، مع أن الفوضى شقيقة الحرية، إذا اقترنت بالمسؤولية الإنسانية، واللامعقول أساس المعقول. وعن الثاني يجب ألا أقول شيئاً، لأنني أعاني شخصياً من آثار التبشير بغدٍ مشرقٍ وفردوسٍ على الأرض. ولكنني أفترض افتراضاً أن ما تشهده سوريا من تفككٍ وانحلالٍ على جميع الصعد، أمرُّها الانحلال الأخلاقيّ وقتل الروح الإنسانيّ، اللذين تنطق بهما همجيةٌ غير مسبوقةٍ، تقابله عملية تشكلٍ جنينيةٌ، ضعيفةٌ وبطيئة النموّ. وهذا ليس استشرافاً، لأن ثمة ارتساماتٍ واقعيةً تدلّ عليه، ارتساماتٍ اجتماعيةً وثقافيةً وأخلاقيةً، ليست سياسيةً بعد. الرهان ينعقد على هذه العملية الثانية، عملية التشكل، التي لا تخضع لأيّ حتمية، لذلك لا تزال مجرّد رهان. فلن تكون الدولة إلا كما يكون السوريون، وكما يريدون أن يكونوا.

 

شكل الدولة مرهونٌ بجدلية الانحلال الجاري وعملية التشكل التي أشرت إليها. وما زلت أميل إلى دولةٍ فيديراليةٍ، أسمّيها فيديراليةً جديدةً، وإلى نظامٍ ديمقراطيٍّ برلمانيٍّ لجمهوريةٍ سوريةٍ.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard