info@suwar-magazine.org

فيلم "الجميع بخير" لجوزيبّي تورناتوري

فيلم "الجميع بخير" لجوزيبّي تورناتوري
Whatsapp
Facebook Share

 

 

سرطان العصر: العزلة

 

عمار عكاش 

 

لم يحدث أن جَمَع مخرجٌ بين السويّة الفنيّة العالية والجماهيريّة مثل تورناتوري. اتسمت أفلامه بالجمع بين الواقعيّة والرومانسيّة ولمساتٍ بسيطةٍ من سيرياليّة فيلليني.

 

 

حكاية أبٍ من أسرةٍ تقليديّةٍ من الجنوب الإيطاليّ تفرّق أولاده في أرجاء إيطاليا، وتوفّيتْ زوجته وبدأ يعاني من سرطان العصر؛ داء العزلة. يذهب الأب لزيارة أبنائه من حينٍ لحين، فيحضّر الأبناء أنفسهم ليظهروا في أبهى صورةٍ ويخفوا حقيقةَ مشاكلهم عن أبيهم، كي يحافظوا على وهم العائلة السعيدة الذي يمدّه بطاقة الحياة. وفي النهاية يكتشف الأب فجأةً الحقائق جميعها، ويتداعى عالمه الموهوم، قبل أن يعيد ترميمه ويستمرّ في الحياة. فما يتحدّث عنه تورناتوري هو العزلة الداخليّة التي تقبض على خناقنا رغم أنّنا محاطون بالبشر. ومثل معظم أفلامه يمزج تورناتوري بين الكوميدي والمأساوي Tragicomic لربّما هو إيقاع الحياة ذاتها بلغةٍ بصريّةٍ سينمائيةٍ ومنطوقاتٍ حواريّة.

 

إلى جانب العزلة، يأتي محورٌ آخر هو الهوّة الجيليّة بين الجيل الجديد الحديث وبين الجيل القديم بقيمه المتكلّسة. يتحرّك هذان المحوران على خلفيّةٍ عامةٍ للفيلم هي نقد الحضارة الحديثة، والحنين إلى عالمٍ صغيرٍ كان محدوداً وكابحاً لحريّة الفرد ولكن كان من السهل القبض على معناه والشعور بالحميميّة فيه من خلال بناه الأوليّة، كالعائلة وعلاقات الوجه للوجه.

 

استخدم تورناتوري أدواتٍ مختلفة، منها تقنية الفَلْتَرة الزرقاء للصور Blue filter في بعض المشاهد ليعبّر عن جوّ الاكتئاب والعزلة. مثال ذلك: في مشهد رقصة الفالس يراقص الأب سيدةً مسنّةً ويتحادثان عن علاقة كلٍّ منهما بأبنائه، وفي المشهد الذي يغادر فيه الأب منزل ابنته ليلاً وينام إلى جانب المشرّدين ثم يخاطب أبناءه واحداً واحداً، وفي مشهد العشاء الجماعيّ المُفترَض يجالس الأب ابنيهِ على طاولةٍ فارغة تعجُّ بالصحون، إذ يلتقط تورناتوري الصورة من الطرف الآخر للطاولة ليظهر إحباط الأب المكابِر.

 

ومن الأساليب الرمزية في تصميم المشاهد Mise-en-scene تجميد كلّ الناس في المشهد، حين يتصل الأب هاتفياً بابنه المُنتحِر، فنرى حشوداً يجمعها المكان دون رابطٍ بينها، فلكلٍّ منهم عالمه الخاصّ. وأيضاً يستخدم المخرج صورة الأبناء أطفالاً في بداية كلّ مشهدٍ يلتقي فيه الأب بأبنائه الكبار، ليعبّرعن فكرةٍ بسيطةٍ هي أن الأبناء في عيون آبائهم يبقون أبداً أطفالاً.

 

يعاضد الحوار الصور البصريّة، تتوّجِهُ عبارةٌ يقولها الأب الذي يكابد الوحدة: "لا أصدق أن إنساناً يموت من الوحدة مع وجود وسائل النقل والكومبيوتر والهاتف". ويُختَم الحوار والفيلم بجملةٍ يقولها الأب أمام قبر زوجته: "أبناؤنا يشقّون طريقهم في الحياة، إنهم جميعاً بخير".

وفي صورٍ شعريّةٍ شفّافةٍ يعرض تورناتوري سطوة التكنولوجيا والحياة الحديثة: في مشهد الأيل الذي يقتحم زحام السيارات، وفي مشهد كَنْس الطيور الميتة من الشوارع بعد أن تضلَّ طريقها في سماء روما المخنوقة بالدخان والتلوّث، وفي صور المشرّدين، اللصّ، بائعة الهوى، والمشهد الذي يوهم فيه الحفيد الجدّ بوجود حشرات سِراجات الليل في سماء روما، وهي التي اختفت منذ زمان طفولة الجدّ.

 

وتجيء الموسيقا التصويرية للمبدع إنيو مورّيكونه كجزءٍ من الحبكة، وهي مزيجٌ من كلاسيكيّات الأوبرا، خاصةً أن الأب بطل الفيلم من عشاق الأوبرا.

 

 الجميع بخير قصيدةٌ سينمائيةٌٌ لتورناتوري، يحلّق فيها بين الخيال والواقع، وبطريقةٍ تذكرني بمحمود درويش في تمريره أفكاراً كبرى بسلاسةٍ فنيّةٍ تجعلها محبّبةً للقلب.

 


ولنتذكر تلك الجملة الرمزيّة الطريفة التي تكرّرت عبر الفيلم: نحتاج العنب لصنع النبيذ.

 

فهل ضللنا دربنا إلى كروم الروح؟!

 

 

لمشاهدة الفيلم كاملاً ؛

الترجمة غير متوفرة

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard