info@suwar-magazine.org

المُعْتقلات السوريّات بين مَخالب المجتمع وأنياب المُتحاربين

المُعْتقلات السوريّات بين مَخالب المجتمع وأنياب المُتحاربين
Whatsapp
Facebook Share

 

"هنا في هذا السجن منع حافظ الأسد وجود الله، نحن الله، نحن نُحْييكم ونحن نُميْتُكم"

 تلك العبارة التي طالما ردّدها عناصر النظام السوري على مسامع السجناء الجُدُد في سجن "تَدْمُر" المُميتِ تلخّص إلى حدّ كبير  السياسة المتّبعة في السجون السورية عموماً و ضدّ السجناء السياسيين خصوصاً، و ظهر ذلك جليّاً في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات التي شهدت حراكاً سياسياً واسعاً تمثّل في نشاط حركة الإخوان المسلمين و بعض الأحزاب اليسارية  المعارضة لحكم البعث.

وقد ترافق هذا الحراك مع حملة اعتقالات واسعة في صفوف المنتسبين لهذه الحركات و المقرّبين منهم، وذاع صيت الممارسات اللاإنسانية والتعذيب الممنهج الذي يتعرّض له المعتقلون السياسيّون في كافة فروع المخابرات السورية وفي سجن تدمر وصيدنايا  على وجه الخصوص.

سادت حالة من الخوف والهلع أوساط الناس عامّة و تحوّلت البلاد إلى دولة بوليسيّة  بامتياز  تحكمها أبشع الأفرع الأمنية، وضبّاطها بصلاحيات غير محدودة وخارج إطار المساءلة.

لم تكن النساء في سورية بمعزل عن هذا الحراك، و قد تعرّضْنَ للملاحقة الأمنية والاعتقال، ويحفل تاريخ رابطة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي في سورية بأسماء سيّدات تعرّضنَ للتحقيق والاعتقال، ومورست بحقهنّ كافة أنواع التعذيب الجسدي و النفسي، و حكم عليهنّ بالسجن لسنوات طويلة على خلفية انتمائهنّ السياسي.  كما تمّ اعتقال زوجات وقريبات (الإخوانيّين) كوسيلة للضغط على أزواجهنّ، أو بتهمة الانتماء  للتنظيم المحظور.

و قد شكّل انطلاق ثورات الربيع العربي وسقوط العديد من الأنظمة العربية بارقة أمل لدى الشعب السوري في إمكانيّة تغيير واقعه، و إقامة دولة ديمقراطية مدنيّة . وكانت الثورة السورية في آذار 2011 نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ سوريا؛ لم تقفِ المرأة فيه على الحياد ، بل نزلت مع بداية الاحتجاجات الشعبية إلى جانب الرجل في الشوارع والساحات، مطالبة بالحرّية والديمقراطية. فطالت حملات الاعتقال أوساط النساء المشاركات والناشطات البارزات، وتعدّتهنّ لتطال قريبات الشبان المطلوبين أمنيّاً و زوجاتهم، ممّا يعيد إلى الأذهان الأسلوب القمعي الذي اتّبعه النظام في عهد "الأسد" الأب، والذي لا يختلف كثيراً عن عهد ابنه! رغم كل الوعود التي حملها "خطاب القَسَم" للأسد الابن وربيع دمشق الذي لم يُزهر.

إن نظرة سريعة إلى ملفّ اعتقال النساء منذ بداية الثورة ، تبيّن الطريقة الممنهجة التي اتّبعها النظام في عملية الاعتقالات، حيث شملت الناشطات على اختلاف الانتماءات الفكرية و السياسية والطائفية. كما طالت سيّدات ليس لهنّ علاقة مباشرة بالثورة، على أنهنّ تمثلْنَ الحاضنة الاجتماعية لها، في محاولة لتفككيها و إعاقة تقدّمها أو لاستخدامهنّ كورقة ضغط على أقاربهنّ و للمساومة عليهن في عمليّات تبادل الأسرى. هذا بالإضافة للاعتقالات العشوائية التي مارسها عناصر الأمن ضمن الصلاحيات المُعطاة لهم و وفق تقديراتهم  الشخصية.

تبدأ رحلة الاعتقال في إحدى الأفرع الأمنية والتي هي المرحلة الأقسى و الأصعب، حيث تُزَجّ فيها المعتقلة  في زنزانة انفرادية و قد تتشاركها مع معتقلة أخرى، و تخضع فيها لكافة أنواع الإهانات والتعذيب الجسدي؛ من الضرب المبرّح بكافة أنواع العصيّ و الكبلات، إلى الشبح واستخدام الكهرباء، و قد تصل إلى الاعتداء الجنسي الذي يتمّ أحياناً أمام أقاربها لانتزاع اعترافاتهنّ. ويتعدّى الأمر التعذيب الجسدي ليصل إلى الابتزاز النفسي و المادي؛ فتُستخدم المعتقلة كوسيلة للضغط على زوجها وأفراد أسرتها لتسليم أنفسهم للـ"سلطات الأمنيّة" أو يتمّ تعذيب أقاربها أمامها لإجبارها على الإدلاء باعترافات معيّنة بعيدة عن الحقيقة. ولا آلية واضحة في التعامل مع المعتقلة! فقد يتمّ إطلاق سراحها من المعتقل أو تقدّم  للمحاكمة و قد تُرحّل إلى أحد السجون المدنيّة  حيث يتمّ وضعها مع المحتجزات بتهم الدعارة و المخدّرات و غيرهنّ من  مرتكبات الجرائم الجنائية، ويتمّ تسلطيهنّ عليها لإزعاجها و إقلاقها.

مع خروج المعتقلة تبدأ فصول جديد ة من المعاناة  تتشابه حيناً و تختلف أحياناً تبعاً لخصوصية البيئة الاجتماعية التي تنتمي إليها؛ فتجد الجامعية نفسها خارج المؤسّسة التعليمية بقرار فصل تعسّفي و تسرّح الموظفة من عملها و تُحرَم من  حقوقها. أما في البيئات السورية المحافظة، غالباً ما تجد الفتاة نفسها وحيدةً في مواجهة مع المحيط الاجتماعي الذي تسكنه، فتطالها الأقاويل وقد تصبح منبوذة  لا يرغب أحد أن يرتبط بها كزوجة.. لما يُحتمل تعرّضها من انتهاكات جنسية في السجن. و قد يرفض أحياناً أهلها استقبالها مخافةً من (العار)! هذا عدا عن حالات الطلاق التي سُجّلت بحقّ الكثير من المعتقلات في مختلف السجون السورية؛ لذا، من الشائع أن يتمّ التكتّم على الممارسات المرافقة للاعتقال، أو على الاعتقال بحدّ ذاته.

إن الانتهاكات التي تتعرّض لها المرأة في فترة الاعتقال مع الظروف التي تُفرَض عليها بعده، تُسهم في خلق أزمات نفسيّة ليس من السهل تجاوزها في مجتمع لا يفرّق بين سجينة رأي وأخرى جنائية.  ويُعتبَر الاكتئاب والوسواس القهري والقلق والخوف من أبرز الأعراض التي تستمرّ بعد الخروج من المعتقل، وتأثّر هذه الأعراض بشكل مباشر على المرأة و على تعاملها مع  أطفالها ومحيطها. فمازالت هذه المشكلة لا تحظى بالاهتمام الكافي من المؤسّسات والمنظّمات المعْنيّة بتقديم الدعم النفسي المطلوب لتجاوزها أو التخفيف من وطأتها .

وإن كانت الممارسات و الانتهاكات بحقّ المعتقلات في سجون النظام هي الحالة الأكثر شيوعاً، فقد سُجّلت حالات من الاعتقال في صفوف الإعلاميات والناشطات المدنيّات ضمن مناطق سيطرة الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة، إضافة إلى ذلك، تمّ اعتقال النساء اللواتي يرفضنَ الالتزام بتعليمات الفصائل الإسلامية المتشدّدة من حيث اللباس و السلوك؛ كـ"داعش و جبهة فتح الشام" ــ  النصرة سابقاً ــ  وتختلف الانتهاكات الممارسة داخل هذه السجون باختلاف الفصيل المسيطِر و مرجعيّته، وقد ورد في تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" الصادر في 8 آذار 2017 أن :

 7571 امرأة قيد الاعتقال و الاختفاء القسريّ إلى الآن من قبل الأطراف الرئيسية الفاعلة في سورية بينهنّ 504 طفلة.

يتوزّع العدد كالتالي: 

5858 معتقلة  لدى النظام السوريّ بنسبة 81%

813 معتقلة لدى المعارضة المسلّحة بنسبة 12%

345 معتقلة لدى داعش و هيئة تحرير الشام بنسبة 4.5 %

61 معتقلة لدى الوحدات الكرديّة بنسبة 1.53%

تذهب أغلب الضغوطات الدولية والإقليمية على النظام السوري للإفراج عن المعتقلات السوريات هباءً في الريح؛ فهو الذي لا يحاسبه أيّ أحد، ابتداءً من "مجلس الأمن" المتمثّل بالمجتمع الدولي الذي طأطأ الرأس وتنكّر لمجازر بشعة ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه بحقّ السوريين المنتفضين ضدّه. فكيف على نظام صمت العالم برمّته أمام جرائمه الشنيعة أن يُقدّم تنازلات للإفراج عن المعتقلين وخاصةً النساء اللواتي يتعرّضنَ للموت أحياناً داخل سجونه.

كانت ضغوطات (السلاح) والمفاوضات عبر وسطاء إقليميين كوزير الخارجية القطرية خالد بن محمد العطية  أقوى من ضغوطات المجتمع الدولي وتقارير الإنسانية التي يتشدّق بها،  حينما تمّ  إطلاق سراح 150 معتقلة لدى النظام السوري مقابل إطلاق سراح 13 راهبة مع 3 مساعِدات لهنّ تمّ أسرهنّ من دير مار تقلا بمدينة معلولا في ديسمبر 2014 من قِبَل جبهة النصرة.

حتى إن النظام السوري لم يتحرّك بشكل جدّي بشأن المعتقلات من المناطق الساحلية  اللواتي أسرنَ ضمن معارك جبل التركمان خلال الهجوم على 11 قرية علوية في آب /2013  من   قبل كتيبة "صقور العزّ وجبهة النصرة وتنظيم داعش". وفي حادثة اجتياح مدينة عدرا قرب العاصمة دمشق  من قِبَل الفصائل الإسلامية هناك،  أيضاً تمّ  اعتقال عدد كبير من النساء رفض النظام السوري استبدالهنّ بمعتقلين  لديه.  

 

*نظرة في حقوق السجناء ضمن "المواثيق الدولية" :

 

       "تؤكّد المواثيق الدولية على حقوق السجين عموماً المتمثّلة بضرورة معاملة السجين معاملة إنسانية تحترم كرامته و إنسانيّته و تمنحه الحقّ في الحصول على معلومات كاملة عن أسباب توقيفه وفي الدفاع عن نفسه بما فيه الاستعانة بمحامٍ لذلك، و ضرورة إبلاغ أسرته عن مكان احتجازه و حقّهم في زيارته و التواصل معه" .

 

كما تؤكّد هذه المواثيق على ضرورة توفير الشروط الصحية ومستلزمات النظافة كاملة في مكان الاحتجاز، وتقديم الرعاية الطبّية اللازمة للسجناء. ونظراً للطبيعة الخاصة للمرأة، فقد أفردت لها بعض النصوص التي تتلاءم مع وضعها كضرورة حصول السجينات على "فوط" صحية معقّمة وأن تحصل الحوامل منهنّ على فحص طبّي دوريّ ونظام غذائي خاصّ بالحمل والإرضاع، وأن تتمّ الولادة في مشفى مدنيّ دون أن يُذكر السجن في شهادة الميلاد، و أن يتمّ تأمين تواصل الأم مع أطفالها.

وليس خفيّاً على أحد أن المعاملة وظروف الاحتجاز في الحالة الجنائية أفضل بكثير من الاعتقال السياسي، وأنّ الانتهاكات والممارسات التي تتعرّض لها المرأة السورية المعتقلة تتجاوز كل الحدود، وباتت الأسوأ على نطاق العالم، وكافة المنظّمات الدولية الحقوقية والمدنية والنسوية منها؛ خاصّة وإن الأخيرة لم تكثّف جهودها وبرامجها لتوفير الحدّ الأدنى من الحقوق والعمل على حماية المرأة السورية.

       و يبقى ملفّ اعتقال النساء من الملفّات التي يصعب مقاربتها وتوثيق الانتهاكات التي تتمّ خلالها، نظراً لتكتّم الكثير من الأهالي على موضوع الاعتقال خوفاً من مجتمع لا يرحم! إضافة لانعدام الثقة بقدرة (الأمم المتحدة) وكافة منظّماتها الفاعلة على الأرض للضغط  على النظام السوري من أجل إطلاق سراح معتقل واحد أو تحسين ظروف الاعتقال بشكل عام.

       و تبقى المرأة السورية التي خاضت تجربةَ الاعتقال تدفع الضريبة أكثر من مرّة حتى لجهةٍ مجهولة.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard