عن العلمانية والانعتاق السياسي والمواطنة
تُختزل العلمانية، عندنا، إلى علاقة الدين بالسياسة أو علاقة الدين بالدولة، ولكن ماذا عن علاقة الدولة بشروطها وافتراضاتها المسبقة، ولا سيما الشرط العرقي أو الإثني، كما عبرت عنه الأيديولوجيا القومية العربية، (الجمهورية العربية المتحدة، أو الجمهورية العربية السورية أو جمهورية مصر العربية)، أو الشرط الاجتماعي (الطبقي)، كما عبّرت عنه الأيديولوجيا الماركسية اللينينية (دكتانورية البروليتاريا)، أو الشرط الثقافي (الديني)، كما تعبّر عنه الأيديولوجيا الإسلامية، التي تتبنّاها جماعات الإسلام السياسي وجماعات المقاومة الإسلامية (الدولة الإسلامية)؟! إن تجربتنا الخاصة تملي علينا إعادة تعريف العلمانية بدلالة الدولة الوطنية الحديثة ودلالة المواطنة المتساوية، وبسط معنى الوطنية، الذي يكشف تعارض الدولة السياسية مع جميع الشروط والافتراضات المسبقة، غير السياسية، اجتماعية كانت هذه الشروط أم ثقافية. وذلك انطلاقاً من افتراضنا أن العلمانية هي جوهر الدولة الوطنية الحديثة ومضمون الوطنية، وإلا ستظل الأخيرة، أي الوطنية، قيمة معيارية، وشكلاً خاوياً من أي مضمون.
يتعلّق الأمر، في اعتقادنا، بما سمّاه كارل ماركس: "الانعتاق السياسي"، نعني الانعتاق من الشرط الديني، الذي يفترض (دين الدولة)، ومن الشرط الإثني، الذي يفترض (إثنية الدولة، عروبة الدولة، مثلاً)، ومن الشرط الاجتماعي، الطبقي أو الفئوي، الذي يفترض (طبقية الدولة)، ومن سائر الشروط غير السياسية والافتراضات التي تمليها البنى والتشكيلات ما قبل الوطنية، التي تحول دون ارتقاء جماعة ما وتحوّلها إلى أمة حديثة.
الانعتاق السياسي، بهذا المعنى، شرط لازم لتساوي جميع أفراد المجتمع المدني في عضوية الأمة وفي عضوية الدولة، بالتلازم، وشرط لازم للمواطنة وتساوي جميع مواطني الدولة ومواطناتها أمام القانون. إن إثنية أو عرقية الدولة وطبقيتها لا يختلفان في شيء عن دينيتها، لأن هذه جميعاً من قبيل فرض شرط غير سياسي وغير أخلاقي على الكائن السياسي والأخلاقي، الذي هو الدولة، ومن قبيل تحديد العام بالخاص، وتحديد الكل بأحد أجزائه، ومن شأن ذلك أن يبقي على الانقسامات العمودية، التي تحدّ من التواصل الاجتماعي والإنساني، إن لم تَحل دونه.
إن "دين الدولة" ينتج بالضرورة معارضة دينية أو مذهبية أو طائفية، لا للسلطة الدينية أو المذهبية أو الطائفية، بل للدولة ذاتها، وعروبتها تنتج بالضرورة أيضاً معارضة إثنية، لا للسلطة "القومية"، كسلطة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، بل للدولة ذاتها. واحتكار الدولة من قبل طبقة معينة يخرج الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى من دائرة الأمة ومن دائرة الدولة. وهذه جميعاً ممّا ينفي عن الدولة طابعها السياسي، الوطني، ويؤدّي إلى حروب أهلية دورية. الدول التي تنفجر فيها حروب أهلية ليست دولاً سياسية بعد، ليست دولاً وطنية، وأفرادها ليسوا مواطنات ومواطنين بعد، بل رعايا فحسب.
"الدولة السياسية الكاملة هي، حسب جوهرها، حياة الإنسان النوعية، العامة، في معارضة حياته الخاصة أو الشخصية. كل افتراضات الحياة الخاصة تواصل بقاءها في المجتمع المدني، (بوصفها) خصائص المجتمع المدني (البورجوازي)".[1] ما يعني أن التعارض بين الحياة الخاصة والحياة النوعية (العامة) هو بالأحرى تعارض جدلي، لا يمكن معه حذف أي من هذين الحدّين المتعارضين، بل إن هذين الحدّين، اللذين يذهب كل منهما في الآخر، يذهبان معاً في تركيب جديد، في كل لحظة من لحظات النمو والتطوّر، هذا التركيب الجديد هو الكلية العينية، التي يسري فيها كل ما هو عام وكلّي في ثنايا ما هو خاص وجزئي، فيرقى ما هو خاص وجزئي مقترباً شيئاً فشيئاً من العام والكلّي، وصولاً إلى المجتمع المؤنْسَن، الذي هو وحدة الخاص والعام، ووحدة الشكل والمضمون، ووحدة الحرية والقانون.
بيد أن هذه الوحدة ليست وحدة بسيطة ومباشرة، كاتحاد المتصوّف بالذات الإلهية، بل هي وحدة مركّبة وغير مباشرة وموسَّطة بالقانون، أو بنمط التنظيم الاجتماعي، وقد صارت الحرية شكله ومضمونه، وصار هو نفسه، أعني القانون، ضميراً أخلاقياً. إن الفرد أو الشعب، الذي يتبع قوانين عامة في فكره وعمله، سيتطوّر تاريخياً، لأن القوانين العامة لها أساسها في العقل وفي الحرية، وهي تنمو مع تقدّم العقل ونمو الحرية، ويمكن تحقّق هذا التقدّم بصورة أكيدة وعلى نحو أسهل، على أساس أن العقل، في قوانينه، إنما يتعامل مع منتجاته هو، وإذا أراد أن يغيّر هذه القوانين فإنه ليس في حاجة إلى أن يطلب الإذن من أي قوة غريبة أو مفارقة. أمّا ما يتخطّى عقل الإنسان، وليس له أن يبرره أو يسوغه، فليس للعقل عليه أي سلطة. إن أي شريعة دينية ستحتفظ بقيمتها إلى أن يحذفها من وضعها (أي التاريخ)، بالدقة والصراحة اللتين وضعها بهما.
التعارض بين الدولة السياسية وافتراضاتها ومقدّماتها الأولية، سواء كانت مادية، كالملكية الخاصة، أو روحية، كالثقافة والدين، هو تعارض علماني، دنيوي، من نوع تعارض المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، أو تعارض الحياة الخاصة والحياة العامة، أو تعارض الفرد والمجتمع، والحرية الذاتية والحرية الموضوعية (الحرية والقانون)، والأخلاق الذاتية والأخلاق الموضوعية (الاقتناع الذاتي والعقد الاجتماعي). جميع هذه التعارضات تنحلّ في تعارض الدولة السياسية والمجتمع المدني. وهو تعارض بين حدّين كل منهما ضروري للآخر، بالقدر ذاته، وانتفاء أحدهما هو انتفاء الآخر بالضرورة. فإن تمييز المجتمع المدني من المجتمع السياسي وفهم التعارض الجدلي بينهما، ووعي واقع أنهما معاً كلّية عينية، أو وحدة تناقضية ثلاثة شروط ضرورية لوضع العلمانية في سياقها الواقعي، بوصفها جوهر الدولة السياسية، أو الدولة الوطنية وحقيقتها الواقعية.
لعلّنا لا نستطيع أن نقول الشيء ذاته عن تعارض السماء والأرض، أو الدين والدنيا، إلا إذا نظرنا إلى الدين، بوجه عام، على أنه الحياة الأخلاقية النوعية للإنسان، وإلى كل واحد من الأديان الخاصة، كالمسيحية أو الإسلام أو اليهودية ...، على أنه الحياة الأخلاقية الموضوعية الخاصة بالمسيحيين أو المسلمين أو اليهود أو غيرهم من أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. وهذه النظرة في غاية الأهمية، لأن كل دين خاص هو دين، مثلما كل فرد هو إنسان (كل ما هو خاص هو عام، لأن ما هو عام وكلّي لا يوجد وجوداً فعلياً إلا في ما هو خاص وجزئي)؛ فإن مستقبل أي دين من الأديان الخاصة يتوقّف على مدى اتّساقه مع ما هو جوهري في جميع الأديان، بلا استثناء، أي مع الروح الإنساني، الذي يسري في الدين. على أساس هذه النظرة يقوم التسامح الديني، الذي يتعدّى الاعتراف بالآخر والقبول به، كما هو، إلى الاعتراف بمشروعية ما لم تكن الذات تستسيغه في الآخر فكراً وعملاً، والاعتراف بتساوي جميع الأديان والمذاهب في القيمة الروحية وفي المشروعية. التسامح قرين الاعتدال، وهما عاملان ذاتيان يتضافران مع العوامل الموضوعية لبلوغ الانعتاق السياسي.
الانعتاق السياسي تقدّم كبير في حياة البشرية، وتطوّر نوعي في تاريخها، ومقدّمة ضرورية للانعتاق الإنساني. "صحيح أنه ليس الشكل الأخير للانعتاق الإنساني، ولكنه الشكل الأخير للانعتاق الإنساني في نظام العالم الراهن. لنتفاهم جيداً، يقول ماركسً: "نحن نتحدّث هنا عن الانعتاق الواقعي، عن الانعتاق الفعلي"[2]. الإنسان يتحرّر سياسياً من الدين بإخراج الدين من الحقّ العام إلى الحقّ الخاص، الحقّ العام هو حقّ الإنسان وحقّ المواطن؛ الدين لا يعود هو روح الدولة، (على افتراض أنه كان كذلك)، الدولة فضاء سياسي وأخلاقي عام لا يقبل أي تحديدات خاصة؛ الإنسان يتصرّف بصفته كائناً نوعياً عاماً، في اشتراك مع بشر آخرين، وإن في دوائر مخصوصة هي دول وطنية مختلفة. "
"الدولة المسمّاة مسيحية هي النفي المسيحي للدولة؛ وهي دولة ناقصة والدين المسيحي هو إكمال نقصها وتقديسه، فهو إذاً وسيلة بالضرورة"[3]. بالمعنى نفسه يمكننا القول إن "الدولة الإسلامية" نفي إسلامي للدولة؛ وإن دولة لا تزال تتّخذ من دين خاص أساساً لها لا تزال عاجزة عن إعلان نفسها دولة سياسية لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي. وليس من قبيل المصادفة أن الجماعات الإسلامية وجماعات ما يسمّى المقاومة الإسلامية جميعها مناهضة للدولة في بلدانها، لا للسلطات السياسية في هذه البلدان فقط، ما يجعل من هذه الجماعات إمّا بطانة للاستبداد وإمّا مشاريع أنظمة استبدادية وإمّا مشاريع حروب أهلية، ولا فرق، كما هي الحال في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال والجزائر وغيرها.
انعتاق الدولة من الدين لا يعني نفي الدين، بل يعني نفي امتياز أي دين بأن يكون ديناً للدولة، ونفي جميع الامتيازات الأخرى، ونفي انحياز الدولة إلى أي دين، ونفي أي نوع من أنواع انحياز الدولة؛ فالدولة لا يمكن أن تنحاز إلى دين أو مذهب أو جماعة إثنية أو نظرية سياسية أو إلى حزب سياسي .. وتظل مع ذلك دولة وطنية (الانعتاق السياسي هو انعتاق من نظام الامتيازات والولاءات الشخصية والولاءات ما قبل الوطنية). بعبارة أخرى لا يمكن أن تكون الدولة دولة وطنية إلا حين تعبّر عن كلية المجتمع المدني العينية، أي حين تكون دولة جميع مواطناتها ومواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، (نظام الامتيازات نظام سابق على ظهور الدولة الوطنية الحديثة ومتناقض معها على طول الخط).
لا تميل هذه المناقشة إلى مثلنة الدولة الوطنية، أو إلى تجاهل نواقصها وتناقضاتها الداخلية، ما دامت مجرّد دولة سياسية لم ترقَ إلى دولة ديمقراطية. ولكنها، أي المناقشة، تحرص على بسط المفاهيم والمبادئ التأسيسية، وبلورة الإطار النظري لمادية المجتمع المدني ومثالية الدولة السياسية، الإطار الذي من خلاله يمكن نقد الدولة السياسية والمجتمع المدني والكشف عن نواقص كل منهما، بدلالة التعارض المقيم بين الشكل والمضمون، بين المثالية والمادية.
إن مفاهيم: الإنسانية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية ومبادئها تبدو لنا مفاهيم ضرورية بالتساوي، سواء للتأسيس أو للنقد. ذلك أن أي جماعة تتطلّع إلى الحرية لا بدّ أن تشرع في إزالة جميع الحواجز والعقبات التي تحول دون تحوّلها إلى جماعة سياسية، إلى أمة حديثة. وأكثر تلك الحواجز والعقبات كُؤْداً هي التي تتعلّق بالوعي عامة، ووعي الذات خاصة. إن كلمة السر لعملية التحوّل إلى جماعة سياسية هي وعي الفرد الطبيعي (الأناني) ذاته كائناً كلياً عاقلاً وأخلاقياً، متساوياً في ذلك مع جميع نظرائه ونظرائها، ووعي التعارض المقيم أيضاً بين حياة الفرد الخاصة وحياته العامة، وبين الحياة الخاصة والحياة العامة، بين الفرد الطبيعي، عضو المجتمع المدني وبين المواطن، عضو المجتمع السياسي. هذا التعارض، هذا الانقسام أو الانشطار، هو أساس الوحدة وعامل النمو والتقدّم، هو ما يجعل الحياة الخاصة تثرى وتغتني بثروة الحياة العامة وترقى بارتقائها، وما سيؤدّي إلى تصالح الفرد مع ذاته ومع عالمه، وإلى أنسنة الحياة الاجتماعية.