info@suwar-magazine.org

إمحاء ثقافي… في محاولة تدمير الذاكرة البعيدة لعفرين

إمحاء ثقافي… في محاولة تدمير الذاكرة البعيدة لعفرين
Whatsapp
Facebook Share

 

إنّ أكثر ما كان يحزّ في النفس من صور ومشاهدات احتلال عفرين من قِبل تركيا وفصائل "الجيش الوطني السوري" وفي المرتبة الثانية بعد الحالة الإنسانية للنزوح الجماعي العظيم للسكان ومشاهد السلب والنهب التي كانت تُظهر من التشفّي ما يوازيها من رغبة الجشع لدى أولئك الذين وثّقتهم الفيديوهات والصور، هي مشاهدة تدمير تمثال كاوا حدّاد، ومع أنّ التمثال من الناحية الفنية والجمالية لم يكن ذا قيمة كُبرى، ولا من حيث تاريخ نصبه، إلّا أنّ مشهد تدميره كان يحزّ في النفس كثيرا، لأنّه كان يرمز إلى هويّة المدينة الكُردية، وربط رغبة التحرّر (آزادي) بشعلة نوروز وشخصية كاوا الثائر ضد الطغيان.

 

لكن لمَ نتذكّر هذا التمثال الذي لم يتمّ عقدا من الزمن إن كان لدينا ما نتحدّث عنه ويعكس عراقة وتاريخا وحضارة أعمق، ترتبط بالأرض والجغرافيا، إنّ مشهد مجسّم كاوا حداد أثر في الناس عموما، لكنّ مشهد الآثار في عفرين ومحاولات إمحائها حينا ونهبها حينا يحزّ أكثر في النفس بالنسبة للنخبة.

 

 

ثنائية الإمحاء

 

إنّ التدمير والنهب للآثار في عفرين هي ثنائية للإمحاء الثقافي، فثمة مواقع أثرية تعرّضت للقصف أثناء العملية العسكرية التركية رفقة فصائل "الجيش الوطني السوري" التي أطلق عليها اسم "غصن الزيتون"، ومنها مواقع تعرّضت للنهب بقصد اللصوصية، ومنها ما تم إهمالها أو سرقتها بقصد إمحاء الهوية للمدينة التي تنتمي تاريخيا بجغرافيتها إلى أزمنة بعيدة، ترمز لحضارات بعيدة.

 

وقد صرّح الآثاريّ صلاح سينو لوسائل إعلام عدّة، وهو أيضا رئيس مُشترك لمديرية الآثار في عفرين والتي تتبع الإدارة الذاتية، أنّه ومنذ بداية احتلال عفرين في العام 2018 قد وثّق مع فريقه في المديرية تعرّض 69 موقعا أثريا للتخريب، وكذلك تعرّض 31 مزارا لمختلف المذاهب والأديان، ومنها لشيعة وإيزيدية.

 

وقد تم توثيق حفريات تخريبية وعشوائية، من قبل المرصد السوري لحقوق الإنسان ومنظمات أخرى، هذا التخريب تم تنفيذه بآليات ثقيلة وجرّافات، وسمّى المرصد فصيل صقور الشمال بالذات، وذلك بتاريخ 10 آب/أغسطس 2018 و6 تشرين الأول/أكتوبر 2018 و3 تشرين الثاني/نوفمبر.

 

عمليات التخريب نتج عنها تخريب الآثار الحسّاسة والهشة كالخزف والفسيفساء في المنطقة التي تُعرف محليا باسم (النبي هوري)، حيث تعود إلى عدة حضارات أقدمها من الفترة الهلنستية عام 280 ق.م، كما يُعدّ هذا الموقع من أهم المواقع الأثرية في عفرين، ويقع في أقصى الزاوية الشمالية الشرقية من مركز مدينة عفرين على مسافة 45 كم، ويُعدّ مسرحها الروماني أبرز أجزائها، ومن أهم المسارح الرومانية القديمة في سوريا كما تم تصنيفه على لائحة اليونيسكو.

 

 

وطال التخريب والنهب مواقع عديدة في عفرين، وقد ذكر سينو أنّ التلال الواقعة على الحدود السورية - التركية مثل تل كشور وتل حبشكو وعلبيسكي، فإنّ التخريب في موقع علبيسكي بلغ حتى 25750 متر مربع، ومساحة 24000 متر مربع في موقع تل حبشكو.

 

اقرأ أيضاً:

 

            كل شي بقوة السلاح في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا

 

 

انتهاك بالفعل والإهمال

 

يُشكّل الانتهاك بحقّ الآثار وتدميرها المُمنهج أو حتى عبر الإهمال أو النهب انتهاكا للحقوق الثقافية، بناء على مُقاربة "نهج قائم على الحقوق الثقافية إزاء التراث" واعتبار التدمير المتعمّد للتراث الثقافي باعتباره انتهاكًا لحقوق الإنسان (2016) بحسب المقرّر الخاص في مجال الحقوق الثقافية.

 

تُعدّ اتفاقية هيغ-لاهاي عام 1954 أول اتفاقية دولية تُسبغ طابع الحماية الخاصة على الممتلكات الثقافية والتي تُشكّل جزءا من التراث الثقافي العالمي في حالات النزاع المسلّح، كما أنّ المُجتمع الدولي اعتمد في نفس الوقت بروتوكولا لحماية التراث الثقافي في حالات الاحتلال عام 1954، وثُم أُلحق البرتوكول الأول ببروتوكول ثانٍ في عام 1999، وتضم البروتوكولات والاتفاقية أحكاما تحمي الممتلكات الثقافية.

 

وتُعرّف اتفاقية هيغ - لاهاي لعام 1954 الممتلكات الثقافية بما يلي: (تلك المُمتلكات المنقولة أو الثابتة التي تتمتع بحدّ ذاتها بقيمة فنية أو تاريخية أو بطابع أثري، وكذلك المباني والممتلكات المخصصة بصفة رئيسية وفعلية لحماية وعرض الممتلكات الثقافية، والمراكز التي تحتوي على مجموعة كبيرة من الممتلكات الثقافية وكذلك الآثار التاريخية والأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب إضافةً إلى الممتلكات الثقافية المرتبطة بالمواقع الطبيعة)، ومن خلال واقع الحال في عفرين يُمكن تلمّس كلّ هذه الحالات، حيث تم رصدها من قبل منظمات حقوقية ووسائل إعلامية وشهادات الشهود، حتى أنّ بعضها موثّق من قبل الجناة أنفسهم، كما في التدريبات العسكرية لأحد الفصائل في "الجيش الوطني السوري" بموقع عين دارا.

 

وقد صادقت وانضمّت تركيا إلى اتفاقية هيك - لاهاي 1954 وبروتوكولها، في 15 كانون الأول/ديسمبر 1965، وتتضمن الاتفاقية احترام الدول الموقّعة والمصادقة على الاتفاقية احترام الممتلكات الثقافية، وفق عدد من الأمور هي:

  1. الامتناع عن استعمال الممتلكات الثقافية لأي غرض من شأنه أن يعرضها للتدمير أو التلف في حالة النزاعات المسلحة.
  2. الامتناع عن الإتيان بأي عمل عدائي نحو تلك الممتلكات.
  3. حظر ومنع أي شكل من أشكال السرقة أو النهب أو التبديد للممتلكات الثقافية ووقف تلك الأعمال إذا لزم الأمر وكذلك حظر أي عمل تخريبي موجه ضد هذه الممتلكات.
  4. عدم الاستيلاء على ممتلكات ثقافية كائنة في أراض دولة أخرى.

 

وبحسب المُعطيات فإنّ تركيا انتهكت كلّ ذلك بطرق مختلفة، وكلّ ذلك جرى توثيقه ورصده، ولكن الواقع السياسي والاتفاقيات الدولية بين تركيا وروسيا كان له أثر على إطلاق يد تركيا في عفرين مقابل تخلّي الأخيرة عن الغوطة الشرقية، وهو الأمر الذي شجّع فصائل "الجيش الوطني السوري" على النهب، والتجارة في السوق السوداء بقطع الآثار، بقصد النهب والاستفادة، أو التدمير بغرض الإمحاء، أو في أضعف الأحوال عبر إهمالها وعدم الاكتراث لحالها.

 

على لائحة اليونسكو

 

عشرات القُرى في منطقة عفرين، تم إدراجها على لائحة اليونسكو في العام 2011، وبحسب موقع اليونسكو، فإنّ: القرى القديمة في شمال سوريا هي نحو أربعين قرية موزعة على ثمانية مجمعات في شمال غرب سوريا وهي شهادة مميزة على الحياة الريفية في أواخر العصور القديمة وخلال الحقبة البيزنطية. وتتميز هذه القرى التي بُنيت بين القرن الأول والقرن السابع والتي هجرها أهلها في الفترة الممتدة من القرن الثامن إلى القرن العاشر بمناظر حافظت على الكثير من خصائصها على مدى السنين، وتشمل معالم أثرية لعدد من المساكن والمعابد الوثنية والكنائس والأحواض والحمامات العمومية، وما إلى ذلك.

 

كما وصفت اليونسكو في تعليقها على هذه القُرى بأنّ البقايا الأثرية التي تدلّ على التقنيات الهيدرولية والجدران الوقائية والمخطوطات الزراعية في الحقبة الرومانية، تشهد على مدى إتقان سكان هذه القرى لأساليب الإنتاج الزراعي.

 

النبي هوري مُهجّرًا

 

النبي هوري في عفرين شوهد بين قوافل المُهجّرين قسريا من عفرين، في ربيع ذلك العام 2018، غادرها، وهو ينزف دمعا، ولكنّه أقام لنفسه ظلّا في مدينة القامشلي، حيث نصبوا هذا الظلّ في أحد الساحات في المدينة، وكلّما ألمّت ذكرى احتلال المدينة أو أصابها مكروه ما، تجمّع العفرينيون ومن هُم على قلبهم أمام ذلك الظلّ لكي يُذكّروا العالم بمآسيهم التي لم يُدافع عنها أحد.

 

 صورة لدوار نبي هوري وسط مدينة القامشلي - من تصوير الصحفي هوشنك حسن نشرها عبر حسابه على فيسبوك

 

 

جلس القادة السياسيون والعسكريون الأتراك والروس افتراضيا، وغازلوا بعضهم البعض ببعض الكلام، وقبل أن يبرد الشاي الافتراضي، كانوا قد اتفقوا على أن يبيعوا عفرين مقابل الغوطة الشرقية، وتم البيع بنجاح، واشتروا في المقابل صمت العالم.

 

تتزامنُ ذكرى احتلال المدينة مع حالة اليأس العامة المخيّمة على المدينة، مع الجزء المتمسّك بالبقاء من أهل عفرين بمدينتهم، حيث شدت مدينة جنديرس جريمة مروّعة بحق قاصر على يد أحد أولئك الذين قدموا المدينة بعد احتلالها، تم قتله بكل دم بارد، وكذلك الذكرى السنوية لمقتل أربع شباب من عائلة واحدة على خلفية إشعال نيران نوروز، حيث يتم التذكير بها مقرونة بـ كاوا حداد الذي تم تدمير نصبه التذكاري في أول فعلٍ بعد دخول المدينة من قبل الفصائل.

 

تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلة صور في برنامج تعاون ضمن مشروع "المرآة"، حول "حقوق الإنسان والحريات العامة".

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard