info@suwar-magazine.org

ليتني كنت تيساً.. ليتني كذلك

ليتني كنت تيساً.. ليتني كذلك
Whatsapp
Facebook Share

 

لا تُشغلني الحرب وأنا على حدودها، حتماً هذا لا يعني أنّ حياتي لا تُشغلني، ولأنّها كذلك فلن أنخرط في حرب يتنازعها وعدان:

ـ وعد من أجل "المهدي المنتظر"، والثاني من اجل "المسيح المخلّص".

لا هذا سآتيه، ولا ذاك سيأتي، وبما تبقّى من حياتي هربت من "الزحمة" متخفيّاً في ظلال "العزلة".

لن أكون من بين الجماهير التي تزحف بانتظار الوعد.

 

ـ أنا كائن العزلة.

 

ـ أيّة عزلة تتمكن من ذاكرة رجل طالما سعى إلى واحد من طريقين:

ـ إما انتهاك الذاكرة حتى لو تطلّب الأمر لاستئصال جراحي.

وإمّا رعايتها وصولاً لتذكّر ما دون التفاصيل.

تفاصيل اجتياح بغداد، وتفاصيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وكذلك تفاصيل حرب المخيمات لحظة يُطلِق المحارب وبرفق طلقته مرفوقة بصرخة:

ـ سأقتلك يا أخي.

 

تلك تفاصيل، وليست وحدها تفاصيل، ما من معزوفة سوى تفاصيل آلات وآلاتية، لكلٍّ نوتته، وكلّ ما يفعله المايسترو هو التقاط هذا البازل لإعادة تركيبه فيما نسميه لاحقاً بـ "المعزوفة".

 

العزلة تعني "التذكّر"، كلّ الوقائع تنعدم لحساب آلة واحدة مزروعة في الدماغ واسمها :

ـ الذاكرة.

وحدها الآلة التي تعمل، ووحدها الآلة التي توجع من الضحك كما توجع من الألم.

مع الذاكرة يتاح لك قراءة الكثير من النصوص، لا أعني تلك النصوص المصفوفة على هيئة أحرف من رصاص المطبعة.. لا، قراءة البشر باعتبارهم: "نصوص".

 

هؤلاء في الذاكرة "نصّ مبعثر"، فليس من آلة في تاريخ النوع قادرة على فوضى الزمان / المكان / الدوافع / وفوضى الطرد أو الاحتضان سواها.. هذه الآلة على وجه التحديد هي :

ـ الذاكرة.

فيها اختلاطات.

بالنسبة لي، قد تأتيني على هيئة "يوسف عودة":

ـ كندرجي لقرية من الحفاة.. نقل كلّ خبرة صنّاع الأحذية بدءاً من صنادل الألياف النباتية التي كان يرتديها رجل الجليد، حتّى آخر ما يمكن أن تتوصّل إليه "أديداز".. كان رجلاً يملأ فمه بالمسامير كي لا ينطق، فالنطق احتجاجاً أو موافقة يبقى في علاقة المطرقة بالسندان.. إيقاع فريد من نوعه في العلاقة بينهما: "المطرقة والسندان".

 

من الغباء الظنّ أنّ "المطرقة تضرب السندان"، لا، المطرقة تحفّزه على خلق الإيقاع.. هو حوار لا يخلو من العنف، محصّلته لا غالب ولا مغلوب، كلّ يأكل من الآخر.

 

هي علاقة فريدة لإنتاج التسويات.

ولكن يوسف عودة لم يكن رجلاً تسووياً كما مطرقته / سندانه، كان ستالينياً يبجّل ستالين ويحتقر البعث بدءاً من أمين شعبة الحزب التي يديرها من حمل لقب "أبو مخطة خضراء" وصولاً إلى ميشيل عفلق مؤسس ووحل الخيال على هيئة حزب.

الذاكرة مزدحمة بالكثيرين، ربما بـ فتاة خطيرة، عصفورة مع لدغة، سوف تحبها فأنت من الفصيل الذي يستهوية اللعب، وينسحب من التحدّي.. إنّها لابدّ وتستوطن الكثير من ذاكرتك.

ـ إنها عنكبوت وقد خبّأتك أسرارك وراء خيوطها.

وذاكرتك كذلك.

 

اقرأ أيضاً:

 

     ما بعد اللفافة الأولى.. لحظة تداهمك "الحكمة"، يعني "سلامات".. هنا نهايتك

 

 

مع التذكّر أنت لا تتذكّر فقط، أنت تنتج "ذاكرة"، فذكريات الأمس ستدخل الآلة الهائلة المسماة ذاكرة، وفي جزء من وظائف هذه الآلة :

ـ إعادة تدوير الذاكرات.

 

ما يعني أنّك في التذكّر تُنتج ذاكرة جديدة، لا تتطابق مع وقائع حدوثها، بل حدوثها في هذه اللحظة.. هذه على وجه التحديد، هي ليست ما قبلها، وقد لا يأتي ما بعدها.

ـ يا إلهي أيّ عبث في لعبة التذكّر هذه.

 

بل أيّة دموية فيها:

ـ تقتل كائنات الماضي، تُعيد صناعتهم في اللحظة، ثم تعيد قتلهم إذا ما استبعدوا للتذكّر ثانية.

 

الذاكرة هي المستبدّ الذي ليس بوسعك تنحيته عن عرشه، لا بالإغتيال السياسي، ولا بالإنقلابات العسكرية، ولا بلعبة الأمم.

 

آلة "لعنة" كلما أصيب حاملها بالشيخوخة، أصيبت بـ "الصبا".

ـ لَمِ لا؟

ألا تلاحظون أنّ من هم على أبواب الشيخوخة أو في فمها، أنّهم أكثر استحضاراً للتذكّر؟

هو الأمر كذلك فالمُنتَج الوحيد القادرون على صناعته هو "التذكّر"، أمّا الشباب فمُنتَجهِم محقّق بقوّة أقدامهم:

 

ـ الشباب يلعبون الكرة، والشيوخ يتذكّرون "بيليه" ذاك الأسود الفاتن الذي كان يرتدي قميصاً من أكياس القمح، ثم نام ملكاً متوّجاً على الكرة السحرية التي لم ينلها أحد سواه.

 

"لَم ينلها أحد سواه" .. لولا الخوف من مصادرة المستقبل لقلت "ولن".

 

 

التذكّر يستلزم شارع خال من المارّة، الشوارع المزدحمة تُربك التذكّر، أعرف ذلك جيّداً فقد امتهنت استطلاع الشوارع والأرصفة، حدث ذلك في العواصم الكبرى، كما حدث في أزقة العشوائيات والمخدرات والتقيؤ من فرط الجوع وسخاء الكحول.. في التذكّر ما بعد الوقائع، تذكّر لا يخلو من المواخير كما الصومعة.

 

 

لتتذكّر جيداً انسحب من القطيع، أقول انسحب قبل أن يطردك القطيع، فإذا ما غادرت القطيع براحتك وبإرادتك، فستغادر مُسالماً، مُتصالحاً، وإن غادرته مطروداً فلابدّ ستستذئب.

 

تلك خاصية الذئب فإذا، ما غادر القطيع مطروداً لابدّ ويُمسي بالغ الخطورة على كلّ ما له صلة بالحياة.

ـ يتحوّل إلى كائن انتحاري.. بحزام ناسف إن شئت، وقد يحدث الأمر نفسه مع البشر الذين يرتدون اليوم الحزام الناسف.. هؤلاء البشر الذين طردهم عالم "وول ستريت"، نبذهم:

ـ نبذ أشكالهم / أزياءهم / لغتهم / صلواتهم، ونبذ الخبز عنهم.

ما عساهم يكونون؟

لا تجرح الذئب، ذاك ما علّمني إياه "عمّي حسين"، وعلّمني كذلك القاعدة التالية:

ـ عار أن تطلق على طريدة دون أن تنبهها.

 

كان يعرف قيمة الذئاب، وخطورة الذئاب، غير أنّه كان على علم غريزي بكيفية الحوار معهم، فإذا ما اصطاد لا يُطلَق نار بندقيته على غفلة من طريدته.

 

هو نظام قيمي مضى، ولست مرغماً على تذكّره، غير أنّه وأعني "الذاكرة" إناء بالغ السعة والمحتويات، تعزيلها قد يتطلّب بلدية ثرية، بعمّالها وماكيناتها لتفريغ هذا الإناء العجيب، فإذا كان الله موجوداً، فلابد من منحه جائزة:

ـ أعظم وأبدع وأوجع وأوسخ هو "الذاكرة".

ثم سأطلب منه إعارتي معدّاتها مع شيء من علمه لأعيد ترتيب الأولويات فلا تحتلّ الذاكرة فيها مرتبة فيلق استطلاع الماضي.

 

قد أمنح الأولوية للقَدَم، وفي المقام الثاني للـ "المثانة"، نعم المثانة التي هي:

ـ ذاكرة السوائل.

 

من بعدهما أروّض الذاكرة تقليلاً من وحشيتها، هي فرس وحشي، تدجينه جريمة والإبقاء عليه انتحاراً، ولمن يلعن الانتحار:

ـ ألم يتكئ المتنبي على سيفه في عملية هي الأشبه بالانتحار؟  لو لم يكن مسكوناً بخيار الموت لما قال أعظم ما قيل شعراً:

ـ الخيل والليل والبيداء تعرفني.

 

أيّ انتصار للإرادة الحرّة في مثل هذا الشعر، وكيف لك أن تمتلك الإرادة الحرّة وأنت مسلوب الإرادة؟

ـ مسلوب بمنظومة القيم، بالاتكال على الله يأخذ ما أعطى، ومتكئ على مبررات لا تلفت انتباه الذئب المطرود.

مطلوب منك أن تكون:

ـ مواطناً صالحاً.

 

المواطن الصالح، هو ذاك الذي يؤجّل الخلق، خلق الذاكرة حتى بلوغه الشيخوخة ليبدأ بتفعيل الآلة.. تهزمه الحيلة فيحتال بالآلة الإله:

ـ  بـ "الذاكرة".

 

لهذا منع في معظم الدول المحكومة بالاستبداد والطغيان العمل السياسي في الجامعات، وحوصرت الجامعات بما هو أشد قسوة من العنف المتخيّل أو المُعاش.. كل ذلك لأنّ وقت هؤلاء الطلبة لا يتسع للتذكّر والفعل معاً، فحين يشوط "بيليه" الكرة في آخر أهدافه لن يتذكّر هدفه العبقري في سانتوس وجوفنتوس.

ـ في الشيخوخة سيتذكّره.

 

جمهور الملعب لن يتذكّر أثناء انغماس فريقه في المباراة، هو حرّ بذاكرته على عكس السجناء، السياسيون منهم والجنائيون، فالسجون هي أعظم  تربة لإنتاج الذاكرة، يتذكّرون كلّ التفاصيل، ويزيدون عليها، ذاكرة السجّان، ذاكرة السجين المقتول تحت التعذيب، ذاكرة الرفاق "البوّاقين"، ذاكرة لبنت الخيال، وحدها سيعاد انتاجها بكلّ لحظة من لحظات السجن..  كلّ ما تتمناه أن لا تعير ذاكرتك لسواها.

 

في السجن ما من فتى، ومراهق، وكهل، وشيخ، في السجن يتحوّل الجميع إلى شيوخ يتذكّرون مع اختلاف ألوان وروائح الذاكرة.

ـ من قال أنّ ليس ثمة رائحة للذاكرة؟

 

لا، ثمّة رائحة للذاكرة، وهذا أمر مشترك ما بيننا وبين فصائل من الكلاب نسيت اسمها.. كلاب مُبهِرة في التقاط الرائحة.

ـ الرائحة تلك الموازية للذاكرة.. دينمو الذاكرة.

من قال أنّ ليس للصورة ذاكرة، وكان جلادو العراق قد شنقوا الجلاّد برزان التكريتي حتى انفصل رأسه عن جسده.

يبدو أنهم مثّلوا بجثته، وكان قد سبقهم بالتمثيل بالجثث، حتى بات "مثّال" يُمعِن في "مثّال".

مع المشهد ستغادر ذاكرة

 

لاحظوا أننا نحكي عن توليد الذاكرة، الاستثمار فيها والهروب اليها، لم نحك أبداً عن "الهروب منها".

 

يحكون عن الزهايمر، لم أختبره بعد، وليس لي معرفة بتاريخه، أعراضه، تطوره على حامله.. كلّ ما أعرفه، أنّه كان لي صديق يستحقّ وصفه بالفتى العسكري، أصيب فبات يعضّ الأبواب باعتبارها جحافل جنود أعداء.

 

هذا جُلّ ما أعرفه عن "الزهايمر"، غير أنّني لا أشكّ أبداً أنّ "الزهايمر" يُصيب ذاكرة الرائحة. الماضي نحو ذاكرة المستقبل.. المستقبل الذي يحلّ فيه جلاّد مطرح جلّاد.

كان عليك الاكتفاء بـ "ذاكرة الرائحة".

 

بالرائحة تُميز العنزة ما بين العُشب الملوث والعشب النقي،. وللإنسان ما للعنزة.

 

مشتركات كثيرة بيننا، وخدمات تاريخية ما بيننا، كنّا فيها الأقوى وكانت العنزة أكثر تصالحاً مع جوهر الحياة.

 

ـ هل تتذكّر العنزة مثلنا؟

ـ لا، لا لن تتذكر ما يزيد عن مربطها، تيسها، أوّلادها ورطوبة التبن ما بعد مواسم الحصاد.

 

لها ذاكرة مرشّدة على عكسنا نحن البشر الذين يستطيبون العبث بكل ممتلكاتهم.

بالدماغ، بالعامود الفقري، بالمثانة، بالقلب والرئة، وبالذاكرة أيضاً.

 

ليتني كنت تيساً.. ليت ذاك يدخل في نظرية تطوّر الأنواع.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard