info@suwar-magazine.org

(99) بالمئة من المعتقلين في سجون النظام السوريّ ليسوا ناشطين سياسيين

(99) بالمئة من المعتقلين في سجون النظام السوريّ ليسوا ناشطين سياسيين
Whatsapp
Facebook Share

  حوار: كمال شيخو

 

الدكتور جلال نوفل: من مواليد دمشق 1963. اختصاصيٌّ في الطبّ النفسيّ. كان يعمل في فرق الدعم النفسيّ في الهلال الأحمر بدمشق. معارضٌ سياسيٌّ يساريٌّ. اعتقل في ثمانينات القرن الماضي لمدّةٍ تقارب التسع سنواتٍ، على خلفية انتمائه لحزب العمل الشيوعيّ المعارض.

واعتقل في الشهر الخامس من عام 2011، مع عددٍ من الناشطين والناشطات، خلال مشاركتهم في مظاهرة عرنوس وسط دمشق. ثم أعيد اعتقاله من مقرّ عمله في مستوصف الهلال الأحمر في الميسات، لمدّة شهرين ونصف. كما تعرّض للاعتقال للمرّة الثالثة في بداية كانون الثاني 2014، ليُخلى سبيله بعد ستة أشهرٍ. إلا أنه، وبعد حوالي شهرٍ من ذلك، تعرّض للاعتقال مجدّداً، ليقضي مدّة شهرٍ ونصفٍ في أقبية المعتقلات.

 

صوَر: بعد خروج المظاهرات في سوريا، أواسط شهر آذار/مارس عام 2011، استخدم النظام العنف المفرط لقمع حركة الاحتجاجات المناهضة. وقتئذٍ تأسّست مشافٍ ميدانيةٌ في بعض المناطق المعارضة الساخنة في العاصمة السورية دمشق. لو تحدّثنا بدايةً عن هذه التجربة.

 

"العنف المفرط" كان الرصاص في مواجهة المتظاهرين السلميّين، ومنع معالجة ضحاياه في المشافي التابعة للدولة، وتسليمهم للأمن أو تصفيتهم عند وصولهم إلى هذه المشافي (عديدٌ من الحوادث نُشرت في حينها). مما استدعى هبّة الأطباء للتعامل مع الجرحى بما يفرضه عليهم واجبهم المهنيّ، فكانوا يعالجونهم في بيوتٍ أو في عياداتهم الخاصّة، بالمتاح لديهم.

لكن الأطباء والمسعفين واجهوا حالاتٍ صعبةً، إضافةً إلى عدم كفاية الأدوات. كما كان يتعذّر وصول مساندةٍ طبيةٍ للأطباء العاملين في أحيائهم بسبب حصار قوّات السلطة للمنطقة المحتجّة بعد قمع المظاهرات، لترك جرحاها لمصيرٍ أسوأ؛ مما دفع الأطباء إلى بذل محاولاتٍ لتنظيم جهودهم لحماية المتظاهرين والسكان، فشكّلوا عدّة مجموعات: "أطباء لأجل الوطن، تنسيقية أطباء دمشق، اتحاد الأطباء الأحرار، الهيئة الطبية السورية"، وغيرها.

ولتطوير العمل الميدانيّ بظروف عملٍ أفضل وأكثر سلامةً للمسعفين والأطباء والمصابين، مع توسّع رقعة الاحتجاجات وتزايد أعداد المصابين برصاص السلطة، صارت المشافي الميدانية ضرورةً؛ فتمّ تأسيس أوّل مشفىً ميدانيٍّ في حيّ برزة، ثم في القدم. وتوافرت فيهما تجهيزاتٌ طبيةٌ وفنيةٌ جيدةٌ (غرف عملياتٍ، وإجراءات تعقيمٍ، وعنايةٌ لاحقةٌ لائقةٌ بالمواطنين). وتمّ إنقاذ حياة العديد من المصابين فيهما، وكسبا ثقة الناس، وعزّزا قدرتهم على المقاومة. وهو ما أمّن حماية الأهالي لهما.

إلا أن النظام لم يقف مكتوف الأيدي، فقتل الكثير من الأطباء والمسعفين -حتى من منظمة الهلال الأحمر العربيّ السوريّ، التابعة له- سعياً إلى تدمير قدرات المجتمع على الصمود في مواجهة قمعه. كما نهب ودمّر مراكز الإسعاف والنقاط الطبية والمشافي الميدانية، ومن ضمنها المشفيين المذكورين لتنسيقية أطباء دمشق، بعد عدّة شهورٍ من إنشائهما، وأقفل بعض نقاط الهلال الأحمر القريبة من الأحياء المتمرّدة.

 

صوَر: فيما بعد، أسّستَ فريقاً تطوّعياً لتدريب الكوادر الطبّية والمتطوّعين، ومرّنتهم على الدعم النفسيّ الاجتماعيّ في الأزمات. لماذا أعطيت هذا الجانب أولويةً؟ وكيف كانت قابلية الكوادر وفعاليتها في المجتمعات المحلية المستهدفة؟

 

شهدنا هبّة عملٍ تطوعيٍّ لم تعرف له سوريا المعاصرة مثيلاً، لنجدة الناجين والنازحين من المناطق التي استهدفها النظام. وفي ظلّ غياب ثقافة وآليات العمل التطوّعيّ في مجتمعنا، شابت عملية إغاثة المتضرّرين والناجين عيوبٌ، رغم نواياها الرائعة وجهود المتطوّعين الجبارة. فقد كانت آليات عملها تنهك المتطوّعين ولا تأخذ بعين الاعتبار تمكين الناجين من التعافي واستعادة القوى، مما يضيّع الغاية الأساسية من الهبّة التطوعية للإغاثة.

ولأنني كنت أعمل في فريقٍ للدعم النفسيّ للاجئين العراقيين، ومدرِّباً للعاملين في مجال الدعم النفسيّ الاجتماعيّ في الأزمات، ناقشتُ مع المتطوّعين في منظمات المجتمع المدنيّ والهلال الأحمر مشاكل العمل التطوّعيّ، فتبيّنتْ لنا الحاجة إلى تدريبٍ منهجيٍّ لهم يمكّنهم من رفع كفاءاتهم ولصون كرامة المتضرّرين معاً؛ فأسهمتُ، مع بعض الزملاء الذين يشاركوني نفس المؤهّلات والأهداف، في تدريب المتطوّعين، متنقلين بين مناطق ومراكز إيواءٍ متعدّدةٍ في دمشق وريفها وخارجها أحياناً.

وبذلك أسهمنا بالفعل في تحسين العمل الإغاثيّ، وحماية كرامة مواطنينا، وإدارة كيفية التعامل مع الأزمة الاجتماعية لتطوير فرصة نهوض المجتمع المحليّ لتقديم الدعم للمتضرّرين منه، وتـأهيل كوادر تسرّع في تعافي البلد في كلّ مرحلة.

 

صوَر: ما هي الانعكاسات النفسية لثقافة الحرب على المجتمع السوريّ، بعد أن طال الصراع ودخل عامه الخامس؟ برأيك من هي أكثر شريحةٍ متضرّرةٍ من هذه الحرب الطاحنة في أرجاء البلاد؟

 

أفقدت الحرب السوريين جميعاً الشعور بالأمان بأبعاده الشخصية والاجتماعية، فتطوّرت اضطرابات قلقٍ وتوترٍ عند كلّ الأعمار، وخاصةً الأطفال. وهذا يتجلّى لديهم بتدهورٍ دراسيٍّ، وتغيّر الاهتمامات الطفولية، وبروز سلوكياتٍ وألعابٍ عنيفةٍ أو مرتبطةٍ بالحرب كرغبات الانتقام، واستقطابٍ فكريٍّ، وتشدّدٍ عقائديٍّ عند المراهقين، وتهدّم علاقاتٍ على أسس تغيّر القيم والمعتقدات. كما يشعر الكثير من الناس بالعجز عن القيام بما ينهي أزمة البلد المتفاقمة. والعجز جذرٌ عميقٌ لتطوّر الاكتئاب، وهو ما نلاحظه خاصّةً عند الآباء وكبار السنّ، الذين لا يملكون مصادر رزقٍ كافيةً ولا آمالاً واضحةً لإعادة بناء ما فقدوه.

وكان واضحاً تزايد العنف الأسريّ كأحد مظاهر التوتر والغيظ المكتوم، لعدم قدرة الناس على توجيه غضبهم وجهته الحقيقية. كما ازداد تعاطي المواد المخدّرة والكحول، خاصةً بين الشباب.

أما العواقب والآثار بعيدة المدى فحتّى الآن نفتقد القدرة على التنبؤ بها، ولا نعدّ العدّة اللازمة لمواجهتها. أما أشد الفئات تضرّراً برأيي فهم الأطفال، يأتي بعدهم المعتقلون وأهاليهم، ومن ثمّ الفارّون من بيوتهم أو من دُمّرت أحياؤهم ومدنهم وموارد رزقهم، والنساء المعنّفات، وأهالي الشهداء.

 

صوَر: قلتَ في مقابلةٍ لك "إن 99% من المعتقلين في السجون السورية ليسوا ناشطين سياسيين؛ إنما اعتقلوا بسبب انتماءاتهم للمناطق الساخنة". كيف كانت تؤخذ الاعترافات منهم؟

 

بدايةً، أفضّل تسميتهم "رهائن الشعب" لتخويفه وإرهابه. والواقع أن ما يجبرهم الجلادون على تقديمه ليس الاعتراف، بل التوقيع على أوراقٍ تدينهم بحمل سلاحٍ أو بأعمالٍ إرهابيةٍ، فيضطّرون -بسبب بطش وسائل التعذيب، وربما قتل معتقلٍ أمامهم- إلى التوقيع على ما يطلبه الجلاد. مثلاً: 4 أطفالٍ بعمر 13-15 سنةً من بساتين الرازي اعترفوا بحمل واستخدام البنادق، واثنان منهم لا يمتلكان قوّةً بدنيةً لفعل ذلك. وكذلك اعترف رجلٌ بعمر 74 سنة، ضعيف البنية، من ريف سلمية، بحمل السلاح. كلّ ذلك بفضل الشبح والصعق الكهربائيّ والجلد بالأنابيب البلاستيكية والعصيّ.

شاهدتُ موت 3 أشخاصٍ تحت التعذيب، و12 شخصاً في الغرفة "الجماعية" التي كنت معتقلاً فيها في الفرع 215 خلال شهر. وكانت السيارة التي ترحّل الموتى في هذا الفرع تنقل من 11 إلى 15 جثةً يومياً خلال المدّة التي قضيتها فيه. ويمكن القياس، بنسبٍ مختلفةٍ، للموت اليوميّ في كلّ فروع الأمن.

 

صور: ما هي أكثر المشاهد التي تتذكّرها من خلال عملك كطبيبٍ منذ بداية الازمة؟ لو تروي لنا بعضاً منها.

 

تخطر ببالي الآن امرأةٌ كانت تعاني غصّةً تشعر معها بالاختناق وتمنعها من مواصلة كلامها، مع بكاءٍ مخنوقٍ، عندما كانت تتحدّث عن محاولة التعرّف على جثة زوجها، بين جثثٍ احترقت عندما قام عصابات الشبّيحة وجيش السلطة بحرق بيتها في جديدة الفضل، فيما عرف بمجزرة الفضل.

ولا أنسى شاباً عمره حوالي 18 سنةً، أصيب بطلقٍ ناريٍّ في عموده الفقريّ، أثناء إطلاق جيش السلطة النار على متظاهرين في القزّاز بدمشق، أدّى إلى شلل طرفيه السفليين ومصرّاته. كان يرفض الطعام، ويحاول التخلّص من الأدوات التي تسرّب له المصل المغذّي وريدياً، ويشتم من يتعامل معه من أهله ومن الممرّضين والأطباء، ويرفض أخذ أيّ علاج. وعندما سألته ماذا يرغب أن أساعده حالياً أجاب: "أنْ أموت".

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard