info@suwar-magazine.org

السريان الآشوريون: القدر التاريخيّ وثورات الحاضر

السريان الآشوريون: القدر التاريخيّ وثورات الحاضر
Whatsapp
Facebook Share

لعب المسيحيون دوراً مهماً وريادياً في صناعة تاريخ المنطقة على مرّ القرون. وقد كان هذا الدور استمراراً لما قدّمه آباؤهم وأجدادهم من السريان (الآشوريين؛ الكلدانيين؛ الآراميين) في العهود الوثنية كورثةٍ نجباء لحضارة ما بين النهرين والممالك الصغيرة شبه المستقلة التي تأسّست بعد سقوط نينوى 612 ق.م، وبابل 539 ق.م، مثل مملكة الرها 132 ق.م – 243 م، ومملكة أديابين (أو حدياب بالعربية) 15 م -116م، ومملكة الحضر في القرن الثالث الميلاديّ. وما قامت به هذه الممالك من دورٍ في مجالات العلم والفكر والثقافة، فطالت إشعاعاتها المنطقة بأسرها. وعندما انتشرت المسيحية في هذه البلاد، لم يكن من الممكن تجاهل التأثير الثقافيّ والعلميّ المتفاعل مع الثقافة اليونانية، الذي تجلى في المدارس الفلسفية واللاهوتية المسيحية التي انتشرت في القرون التالية، من أنطاكية في شمال سوريا وحتى الإسكندرية في مصر، مروراً ببيروت والقدس.

ومع مجيء الإسلام وتحوّل مركز ثقل الدولة الجديدة من مكة والمدينة إلى دمشق، لم يكن من بدٍّ لوالي بلاد الشام، ومن ثمّ الخليفة ورجل الدولة المحنّك معاوية بن أبي سفيان، من الاعتماد على المسيحيين في إدارة شؤون الدولة، فبرز منهم في عهده خازن بيت المال منصور ومن بعده ابنه سركون الذي استمرّ في خلافة يزيد بن معاوية أيضاً. وعندما انتقلت عاصمة الخلافة الإسلامية إلى بغداد استمرّ هذا الدور بصورةٍ أكثر وأعمق برعاية خلفاء عرفوا قيمة العلم والمعرفة وأولوهما اهتماماً جدياً، فكان حنين بن إسحق ورفاقه أبرز مثالٍ وأكثر الشخصيات التي قدّمت الكثير في هذا المجال. وكان لهؤلاء جميعاً دورٌ هامٌّ تعدّى الشأن الماليّ والمعرفيّ إلى النفوذ السياسيّ المؤثر، رغم كونهم من أتباع الديانة المسيحية.

ظلت اللغة والثقافة السريانية تمارسان دوراً حيوياً في الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق حتى سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو عام 1258 م. بعد هذا التاريخ عانى المسيحيون كثيراً، وتراجع دورهم بسبب عدم الاستقرار الذي شهدته المنطقة، وبخاصّةٍ في مناطق السهول والأرياف. فهجروا مناطق سكناهم التاريخية باتجاه الشمال حيث الجبال الوعرة الجرداء بحيث لا تشكل مطمعاً لأحدٍ من جهة، ومن جهةٍ أخرى يسهل الدفاع عن أنفسهم فيها. واستمرّ هذا الحال طوال فترة السيطرة العثمانية. لكن هذا الدور عاد للانبعاث مجدّداً بعد الحرب العالمية الأولى، والمذابح التي جرت للمسيحيين في تركيا، وبعد عودة الأمن والاستقرار إلى المنطقة في ظلّ حكم الانتداب الفرنسيّ في سوريا، والإنكليزيّ في العراق. مما حدا بالكثير من الناجين من تلك المذابح إلى النزوح إلى سوريا والعراق، والانضمام إلى إخوانهم الذين كانوا ما يزالون موجودين في المدن الكبيرة، والمساهمة معاً وبقوّةٍ في بناء وتطوير الدول الجديدة الناشئة. مستفيدين من الدور الذي لعبته الأديرة والكنائس في المحافظة على التواصل المعرفيّ مع الماضي، وتكريس ذلك لخدمة المجتمعات الجديدة التي نشأت في ظل الانتداب، وتبدّل هوية السلطة السياسية من هويةٍ إسلاميةٍ متزمتةٍ إلى شكلٍ من أشكال الهوية المدنية في عهد الانتداب، ومن ثمّ العربية القومية في عهد الاستقلال. 

لم تكن هذه الرحلة عبر الزمن سهلةً وميسّرةً دائماً، بل رافقتها بعض المآسي والكوارث ذات الطابع الدينيّ حيناً والسياسيّ في معظم الأحيان. بدأت بمذابح الأمير الكرديّ بدرخان بك في مناطق حكاري سنوات 1840-1845. تلتها مشاريع السلطان عبد الحميد بتأسيس الفرق الحميدية وإطلاق يدها في ممارسة كلّ ما يحلو لها بحقّ المسيحيين عموماً عام 1895، من قتلٍ ونهبٍ وتهجير، وبخاصّةٍ في المناطق الشرقية والجنوبية حيث يتواجد العنصر السريانيّ الآشوريّ. تلت كلَّ ذلك المذابحُ الكبرى التي جرت عام 1915 بحقّ الأرمن أولاً، لكنها، بعد أن بدأت، لم تفرّق بين مسيحيٍّ وآخر، فقضت على أكثر من نصف مليون سريانيٍّ آشوريٍّ في مناطق حكاري ووان وطور عبدين وديار بكر وأضنة وغيرها. فأُفرغت مناطق شاسعةٌ من سكانها الأصليين من المسيحيين، وهُجِّر من بقي منهم على قيد الحياة إلى سوريا والعراق بشكلٍ أساسيٍّ، وإلى لبنان وفلسطين وأوربا وأمريكا لمن أمكنه ذلك.

 وإن كان من استقرّوا في سوريا قد وجدوا الأمان والظروف الملائمة ليتابعوا دورهم الحضاريّ، فقد كان مصيرٌ آخر ينتظرهم في العراق، فكانت مذبحة سيميل في 7 آب 1933 بانتظارهم، ليجري تهجيرهم من جديدٍ إلى منطقة الخابور في سوريا. واليوم جاء تنظيم داعش ليكمل عملية اجتثاث هذا العنصر الأصيل في تاريخ المنطقة وحضارتها، مرتكزاً إلى تفسيرٍ خاصٍّ مغالٍ في التطرّف للعقيدة والتراث الإسلاميين، ومستفيداً من حالة الصراع (الطائفيّ-السياسيّ) الذي وجد له مناخاً ينمو ويتوسّع فيه جرّاء الأزمات والتناقضات التي تعيشها دول المنطقة ومجتمعاتها، كنتيجةٍ حتميةٍ للممارسات القمعية للأنظمة الاستبدادية ولسياسات بعض القوى الإقليمية والدولية، عبر استخدام هذا التطرّف أداةً للوصول إلى أهدافٍ أخرى أو لتحقيق مصالح معينةٍ خاصّةٍ بكلٍّ منها.

إزاء هذا الواقع المتأزّم الذي تعيشه دول المنطقة ومجتمعاتها، من تصاعدٍ حادٍّ للاصطفافات الطائفية والصراعات المسلحة والاقتتال المدمّر للعلاقات الإنسانية والبنى الحضارية التي لا يمكن لأيّ مجتمع أن ينهض إلا بها؛ تبرز الأهمية الفائقة لدور المسيحيين الذين لم يكونوا طرفاً في هذا الصراع الهدّام، في تجسير مساحات الفرقة وإعادة وصل العلاقات المتحطّمة بين شرائح هامّةٍ في المجتمعات التي يشكّلون جزءاً هاماً منها.

وفي غياب هذا الدور ستكون عملية إعادة اللحمة إلى هذه المجتمعات من أصعب التحديات المستقبلية. وسيزيد التهجير الحاصل للسريان الآشوريين في منطقة الجزيرة السورية، على غرار ما حصل في الموصل وسهل نينوى في العراق، من هذه الصعوبة، بتغييب العنصر الفاعل في هذه العملية والقادر على إتمامها دون أن يثير أية حساسيةٍ لدى المكوّنات الأخرى، لأن له مصلحةً حقيقيةً في تلاقيهم وتفاهمهم عوضاً عن تقاتلهم.

لقد أمل الناس فيما سمّي بـ"بلدان الربيع العربيّ"، على اختلاف أديانهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسية، بالانتقال عبر تلك الثورات إلى مجتمعٍ ونظامٍ سياسيّين لا يلغيان تلك التمايزات في الخصوصيات الهوياتية، وإنما يقوننانها ضمن إطارٍ وطنيٍّ جامعٍ يعزّز اللحمة بين شرائح المجتمع عوضاً عن تحطيمها والتمترس خلف حدود كلّ مكوّنٍ وفئةٍ من تلك الشرائح. لكن ما حصل من تطوّراتٍ وتدخلاتٍ إقليميةٍ لاحقةٍ جعل من هذا الأمر، في الوقت الحاضر، أقرب إلى المستحيل. كما ضمنت تلك التدخلات استمرارية الصراع، مما جعل الجراح أكثر عمقاً والنتائج أكثر مأساويةً. وبات التفكير في المستقبل مرهوناً بالانتصار على الطرف الآخر الذي أصبح خصماً بعدما كان شريكاً.

لذلك لا بدّ من الالتفات مجدّداً إلى عوامل البناء والتطوير؛ بناء جسور الأخوّة والمحبة وتطوير علاقاتٍ وطنيةٍ ما فوق طائفيةٍ بين المكوّنات لتخليص المجتمع من انحداره السريع إلى هاوية العدمية، ورفع سوية التفكير بالآخر إلى مستوى الشريك الضامن الذي لا غنى عنه لتحقيق إنجازاتٍ على المستويين الوطنيّ والإنسانيّ. وأحد أهمّ هذه العوامل هو استمرارية الوجود المسيحيّ عامةً، والسريانيّ الآشوريّ خاصةً، لأننا تعايشنا وعرفنا أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا العنصر في الصعود بهذه المجتمعات إلى مصافّ راقية، شرط أن تتوافر له المناخات المساعدة من حريةٍ وديمقراطيةٍ وعدالةٍ اجتماعيةٍ وقوانين تضمن المساواة التامة بين المواطنين، على أن يتمّ احترامها من قبل الجميع.

نأمل أن لا تكون أعمال داعش تجاه الأقليات المغايرة، وحتى تجاه المسلمين المختلفين معه في النظرة إلى الحياة والدين، حلقةً أولى من مسلسل رعبٍ هوليووديٍّ لم نصل إلى الحبكة فيه بعد.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard