info@suwar-magazine.org

بين منفَيَين.. قراءةٌ في كتاب بوّابات أرض العدم للروائية السورية سمر يزبك

بين منفَيَين.. قراءةٌ في كتاب بوّابات أرض العدم للروائية السورية سمر يزبك
Whatsapp
Facebook Share

 

أنجيل الشاعر

 

لم نتنسّم هذه المرّة رائحة القرفة من كلمات الكاتبة السورية سمر يزبك[1]، ولم تلمس بكفيها شتلة الحبق، كلّ ما لامسته يداها وقدماها هو صلصالٌ[2] سوريٌّ مجبولٌ بدماءٍ بشريةٍ وأشلاءٍ بشرية. لم تروِ هذه المرّة حكايةً من بنات أفكارها وخصوبة خيالها، بل روت لنا حكايةً عاشتها مع أبطالها الحقيقيين في الشمال السوريّ. لامست آلام حكايتها، وتصوّرت آمالها، ودخلت بواباتها بوابةً بوابةً في أرض انتُهكت حرمتها وضاع على متنها الإنسان وأُبيدت الإنسانية على يد سلاطينها، حتى وصلت إلى أرض العدم.

 

تقول الكاتبة:

 

"لا بطل سوى الموت. لا قصص يرويها الناس سوى عنه. كلّ شيءٍ قابلٌ للنسبية والاحتمال، إلا بطولة الموت المطلقة. أو لحظة خارجة عن السياق الزمنيّ، هي تلك اللحظة التي كنّا نجتاز فيها الأسلاك الشائكة ليلاً. نعبر التيه إلى التيه، حيث حفر الشباب بوابةً لمرورنا. كنا نركض حيناً، ونسير على مهلٍ حيناً آخر. تلك اللحظة المتأرجحة في سؤال المنفى والوطن. هناك على طرفي السياج، كانت الأجساد تخرج فجأة من الظلام، ونسير كالعميان. تحتكّ كتفٌ بأخرى. نسمع صوتاً يقول: "مساء الخير". صوت يروح، وصوت يأتي، وكأننا قطط سود، لكنّ عيوننا لا تلمع. المسافة الحدودية التي صار السوريّون يختفون في الليل تحتها، ليست كبيرة. يدخل ناس ويخرج ناس، يتقاطعون عند مسافة سلام الليل." (ص14)

وحده السوريّ من يجتاز الطريق إلى سوريته خلسةً، تحت ظلام الليل، متنكّراً لوجوده، خشيةً على هذا الوجود من أن يستقلّ قافلة الموت المدرجة في جدول الحياة اليومية.

 

من بنّش تبدأ الحكاية، وتمتدّ إلى الأتارب وتفتناز وكفرنبل، إلى الحدود التركية وبالعكس، إلى حكاية أطفالٍ شُرّدوا وأطفالٍ قتلوا، إلى المعتقلات والموت تحت التعذيب، إلى جوع السوريين وعطشهم.

 

هنا لا مجال للتأويل أو للسرد أو للغةٍ مجازيةٍ تجمّل التعابير وتتلاعب بالمسمّيات، هنا حقيقةٌ ثابتةٌ لكنها مرّةٌ تدفعنا إلى الغيظ والألم تارةً، وإلى التساؤل تارةً أخرى: لمَ كلّ هذه الممارسات الوحشية من سوريٍّ ضدّ الإنسان السوريّ؟

 

"التظاهرة في "بنش" خاليةٌ من النساء، وفيها راياتٌ كُتب عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله". كنت وحدي وسط الرجال، وكانوا يحدّقون إليّ بغرابة. تعرّفت إلى بعض الشباب، كانوا غايةً في التهذيب، غنّوا وصفّقوا ثم جاء شيخٌ وخطب فيهم (...). سألت إحدى النساء اللواتي يراقبن التظاهرة من أمام البيوت: كنا نشارك في التظاهرات أما الآن لم يعد ذلك ممكناً، رجالنا يخافون علينا من القصف والقنص. (...) يأتون ليلاً وفي أوّل الفجر يقصفون ويهربون، يموت الأطفال والشيوخ والنساء غالباً، ولا يملّ الأهالي والكتائب من مواصلة القتال "هذا هو قدرنا" يقول الشباب في "بنش". (ص17)

لم ألمح امرأةً سافرة. هذا جزءٌ من تقاليد المكان، فهم يمارسون شعائر الإسلام. وقفت في تظاهرة "بنش" سافرةً بينهم. وعندما تنقلنا بين القرى والبلدات وضعت الحجاب كي لا ألفت الانتباه.

هنا ذهبت الكاتبة بالحجاب إلى أبعد من كونه خرقةً تغطّي الرأس وحسب، إنما هو حجاب العقل والمعرفة، حجابٌ أيديولوجيٌّ وضعته الشريعة وغذّته الأعراف والتقاليد. مما أطاح بالمرأة السورية جانباً وعزلها عن الاشتراك في التظاهر بحجّة الخوف عليها.

 

"هنا لا أحد يتحدّث عن قيام خلافة إسلامية بل عن دولةٍ مدنية" (ص18)

في هذا القول بدايةٌ ملتبسةٌ لنهايةٍ غامضة، فالدولة المدنية، حسب تعريف ويكيبيديا الموسوعة الحرة، هي "دولةٌ تكفل وتحمي جميع أفرادها بغضّ النظر عن انتماءاتهم الفكرية والدينية والسياسية والعرقية، وجميع أفرادها متساوون أمام الدساتير القانونية وفي الحقوق المدنية". أما في رأي "سيد قطب" فهي دولةٌ مدنيةٌ ذات مرجعيةٍ إسلامية، فقد جاء في خطابٍ له وجّهه إلى وزير الخارجية المصريّ في عددٍ من أعداد "منبر الشرق" في فصل الدين عن الدولة:

"وأحبّ أن أتحدث قليلاً إلى معاليكم عن هذه المسألة: إن هذا التعبير "فصل الدين عن الدولة" ذو مدلولٍ في الحياة الأوربية المسيحية، ولكن لا مدلول له على الإطلاق في البلدان الإسلامية، وأظن أنه تسرّب إليكم –كما تسرّب إلى الكثير من رجالنا المثقفين والمتعلمين– خلال قراءاتهم للتاريخ الأوربيّ، ثم صار يتردد على الألسنة دون تفكيرٍ في مدلوله ودون نظرٍ إلى أنه يحوي معنى أو لا يحوي بالنسبة للبلاد الإسلامية".

ثم أردف قائلاً: الإسلام عقيدة وقانون، وكلاهما متصلٌ بالآخر وقائمٌ عليه، ولا يمكن أن توجد العقيدة ثم يهمل القانون، والنصوص صريحةٌ في هذا ولا تحتمل التأويل، فإما أن نكون مسلمين فيجب تنفيذ هذا القانون، والدولة هي التي تنفذه، وإما أننا لسنا مسلمين، فنهمل إذاً القانون الإسلاميّ.[3]

 

هنا يحصل الالتباس في مفهوم الدولة المدنية الذي تحدّثت عنه الكاتبة على لسان ثوّار "بنش"؛ هم يعتنقون الإسلام ويتّبعون قواعده، ونصوصه واضحةٌ وصريحة، كما أن الكتائب الجهادية المتطرّفة، كتنظيم "الدولة الإسلامية"، وجبهة النصرة التي تحظى بنسبةٍ كبيرةٍ من المؤيدين في الشمال، تستمدّ قوانينها من تلك النصوص الواضحة والصريحة. فبأيّ دولةٍ مدنيةٍ ستحظى سوريا؟

 

يرى بعضهم أن مفهوم الدولة المدنية يدلّ على تلفيقٍ فكريٍّ وتلبيسٍ سياسيٍّ: "فليس في لغتنا وثقافتنا التقليدية وتراثنا لا مفهوم الدولة ولا نظرية الدولة، ولم نعش تجربة الدولة، كما يقول عبد الله العروي. بل لدينا "سياسة سلطانية" و"أحكام سلطانية" و"آداب سلطانية"، هي كلّ عدتنا الثقافية والأخلاقية يسمّيها التلفيق سياسةً مدنيةً وآداباً مدنيةً ودولةً مدنيةً وحكومةً مدنيةً. صفة المدنية في هذا السياق ترادف صفة الشرعية، نسبة إلى الشرع الإسلاميّ"[4].

 

تشكل هذه النصوص والأحكام جبهةً مضادّةً للقوانين الوضعية، التي توضع بإرادة الشعب لصون حرّيته وكرامته وحقوقه المدنية، والاعتراف بالآخر وكرامته الإنسانية، بغضّ النظر عن محمولاته الدينية والسياسية والعرقية والجنسية... إلخ. كما تشكل سبباً مشروعاً لقيام حركاتٍ دينيةٍ متطرّفةٍ تسعى إلى إلغاء نشأة الحياة الديمقراطية، وهدم حجر الأساس في الدولة الوطنية التي تتنافى مع مفهوم الدولة المدنية على نحو ما أطلقته جماعة الإخوان المسلمين على لسان "سيد قطب" وأخذ يتمدّد وينمو في أذهان السواد الأعظم من الشعب السوريّ، ما أفسح المجال للشعارات الدينية أن تنبثق وتطغى على الشعارات الديمقراطية في الثورة السورية.

 

ومن خلال التطوّرات التي طرأت على الثورة السورية، ودخول جنسياتٍ مختلفةٍ إليها تحت مسمّى الجهاد الإسلاميّ، انصرفت بعض الجهات إلى ابتزاز الشعب مستخدمةً دغدغة العاطفة والمشاعر، مستغلةً قهره وجوعه وحرمانه، وتهميشه منذ عدّة عقودٍ من الزمن.

 

تقول الكاتبة: "سمعت حديث مقاتلَيْن. وإذ رحت أحاول فهم ما يحدث في معركة "وادي الضيف" وأثناء البحث بين الأنقاض، يقول أحدهما وهو الأصغر سناً: معركة وادي الضيف كان يمكنها أن تنتهي منذ زمن طويل، لكن الكتائب التي تتلقى الدعم الماليّ تطيل عمر المعركة للاستفادة منها (...) ويشرح ما جرى في مطار "أبو الضهور" بين ماهر النعيمي وكتائب شهداء سوريا، ثم يقول: تفووووو. أمِنْ أجل هذا خرجنا للثورة؟" (ص 88)

 

في الحروب دوماً الفقراء هم من يدفعون الثمن، لصوص الحرب أصحاب ممالك متوّجون، ملوكٌ مستبدّون، يتفوّقون بقوّة السلاح من جهةٍ، وبقوّة الدين من جهةٍ أخرى.

مرّةً أخرى يبحث الكتّاب العرب عموماً، والسوريون بشكلٍ خاصٍّ، عن انتمائهم، عن هويتهم المبتورة، وعن ذاتهم المستلبة والمشتتة بين الوطن والاغتراب، كبقية أفراد الشعب لأنهم جزء من هذا الشعب. تقول الكاتبة:

 

".... حين نظرت في تلك اللحظة، عرفت معنى المنفى والوطن. رغم أنني أتسلل هاربةً وبطريقةٍ غير قانونيةٍ عبر حدود بلدي. فالوطن هو أن أحدّق الآن في طائرة ستلقي قذائفها علينا، وأحدّق إليها بثباتٍ ودقةٍ ومن دون خوف، وأتابع أين سترمي الموت. والمنفى هو أن أكون جالسةً في ساحة "الباستيل" وسط باريس أرتشف قهوتي تحت شمس لطيفة، وعلى يساري عاشقان يتبادلان القُبل، ويحطّ عصفورٌ على ركبتي، فأقفز من الفزع والخوف". (ص 37)

 

تحدّثت الكاتبة مطولاً عن كلّ ما يجري في الشمال السوريّ من انتهاكاتٍ إنسانيةٍ من جميع الأطراف، ومن ملابساتٍ بين الكتائب الجهادية ودخول جنسياتٍ مختلفةٍ بينها، لا يهمّها إلاّ تنفيذ المعتقدات الثابتة من جهة، والارتزاق من جهةٍ أخرى. وعن الممارسات الوحشية التي يتبعها النظام بحقّ الأهالي بحجة احتضانهم للإرهاب.

 

كان ما نقلته الكاتبة حيّاً، حسبما أشارت في الكتاب. وهو موضوعٌ طويلٌ وعميقٌ يتطلب الكثير من الصفحات لدراسته. ولكي يكون القارئ على بيّنةٍ واطلاعٍ على ما يحويه هذا الكتاب يجب على كاتب الدراسة نقل مقاطع مطوّلةٍ منه وتقسيم الدراسة إلى أكثر من جزء.

 

لذلك فإن هذه الدراسة هي الأولى لبوّابتين من أصل ثلاثٍ من بوّابات أرض العدم، وتبقى البوابة الأخيرة والأهمّ، وهي موسم هجرة السوريين إلى المجهول.

 


[1] - رواية رائحة القرفة لسمر يزبك.

[2] - رواية صلصال للكاتبة نفسها.

[3] - سيد قطب، منبر الشرق، "فصل الدين عن الدولة".

[4] - جاد الكريم الجباعي، الدولة المدنية تلفيق فكري وتلبيس سياسي، على الرابط: http://www.assuaal.net/node/298

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard