مقابلة مع الكاتب والأكاديميّ يوسف سليم سلامة
على المعارضة التفكير في حلولٍ واقعيةٍ لجملة المشكلات السورية، حتى وإن كان الأمر يفضي إلى نوعٍ من الفيدرالية
كمال شيخو
د. يوسف سليم سلامة أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في جامعة دمشق، وباحثٌ مشاركٌ في المعهد الفرنسيّ للدراسات العربية بدمشق. نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية في عمّان، ونائب رئيس الاتحاد الفلسفيّ العربيّ في لبنان.
حصل على وسام السعفة الأكاديمية من مرتبة فارس، من الحكومة الفرنسية، عام 2007. كما حصل على جائزة الشارقة للمعاقين المبدعين، ليحقق المركز الأوّل في العام 1998.
له العديد من المؤلفات، منها: «الإصلاح السياسيّ في سورية: معناه وحدوده، دمشق، 2001» و«الاعتراف المتبادل: مدخل إلى مدنية الدولة وعلمانية الحياة، مجلة فكر، بيروت، 2012». كما كتب عدداً من الأبحاث والدراسات: "العلمانية العربية، مشترك، دار الينابيع، دمشق، 2009"، و"مشكلة الديمقراطية، مجلة المشكاة، 2008".
مضى من عمر الثورة السورية ثلاثة أعوامٍ ونصف. وكانت كلفتها مقتل قرابة 200 ألف ضحية، ولجوء حوالي 3,5 مليون مشرّدٍ إلى بقاع الأرض، ونزوح 6,5 مليونٍ داخل الوطن، وغياب آلاف المعتقلين في سجون النظام والتنظيمات المتطرّفة؛ من المسؤول عن انتكاسة الثورة؟
النظام السوريّ الذي ألغى كلّ الشروط الموضوعية التي تسمح بقيام معارضةٍ سياسيةٍ منظّمةٍ أولاً، كما فرض على الثورة، في وقتٍ مبكرٍ، حلاً أمنياً انتهى بعسكرة الثورة ثانياً. ولكن، بعد ذلك، أصبح من واجب الساسة الذين يشتغلون في صفوف الثورة ويحملون لواءها الارتقاء إلى مصافّ السياسيين الحقيقيين. والإنسان يكون سياسياً عندما يجيد تحليل الوقائع التي يتعامل معها، وعندما يستطيع أن يسخّر منظومةً من العلاقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في سبيل تغيير الوقائع في الاتجاه الذي تتطلع إليه الثورة. وهذا معناه ببساطةٍ ممارسة نوعٍ من الانفكاك النسبيّ عن التأثيرات الإقليمية والدولية، والشروع في بناء قاعدةٍ تزداد قوةً يوماً بعد يوم، تكون قادرةً على الدخول في حوارٍ مع جميع الأطراف أو اللاعبين الذين يفترض أنهم مؤثرون في مجرى الأحداث في الإقليم السوريّ.
"موقع سورية يسمح لها دوماً بأن تمارس لعبة شطرنج الحدود"؛ الكلمة التي تلقفها المخرج فيليب ليمور، فأطلق على فيلمه عنوان "شطرنج الحدود"، التعبير الذي ورد في مقابلتك في الفيلم؛ هل لا يزال النظام السوري يمتلك ذلك الموقع؟
قلتُ سوريا ولم أقل النظام. ولم تكن الانتفاضة في عام 2011 سوى تعبيراً أكثر وضوحاً وبروزاً عن رغبة السوريين في التحوّل إلى أسلوبٍ جديدٍ في الحياة، وطريقةٍ جديدةٍ في الحكم يشاركون من خلالها في صياغة حاضر سورية ومستقبلها. ولكن النظام أبى إلا أن يحكم سوريا بنفس الطريقة التي حكم بها حافظ الأسد من قبل. ولم يمض سوى زمنٌ قصيرٌ حتى تداعت رقعة الشطرنج، التي كان النظام يظن أنها راسخةٌ، من تحت أقدامه، وأصبحت كلّ الحدود تمارس التأثير في مقدّرات النظام دون أن يكون قادراً على الإتيان بردّ فعلٍ إيجابيٍّ واحد.
تصف في كتاباتك الحراك الشعبيّ المناهض لنظام الحكم بأنه "ثورة حرّية وكرامة"، وكنت أحد الشخصيات الفاعلة في ربيع دمشق، ولم تنقطع صلاتك مع المعارضة السورية؛ كيف تقيّم أداء هذه المعارضة؟
لا زلت مصرّاً على أن الثورة السورية هي "ثورة حرّية وكرامة". ولا زلت مصرّاً على أن الولاء للمصالح السورية هو وحده الذي يميّز شخصاً عن آخر، ويُحدث الفرق بين سياسيٍّ وآخر. ولو افترضنا أن جميع الساسة السوريين في صفوف الثورة قد اكتشفوا المصالح المذكورة ودانوا بالولاء لها؛ فعندئذ ستقلّ الضغوط الإقليمية على الثورة، وستضعف التأثيرات الدولية بصورةٍ أو بأخرى، لأننا سنكون بإزاء كتلةٍ سياسية يحسب حسابها. فالولاء لهذه المصالح لا يعني أبداً غياب الفروق والاختلاف في التكتيك، ولكن ما دام كلّ شيءٍ محكوماً بالولاء لهذه المصالح فستكون المخاطر محدودة، وفي هذه الحالة يمكن للمعارضة السورية أن تتحدّث مع كلّ الأطراف.
في مقالتك "بدع أيديولوجية: الإرهاب- الأقلية" أشرت إلى أنّ "الأقلية لعبةٌ حقيرةٌ يمارسها النظام كي يعزل المواطنين السوريين في جزرٍ منفصلةٍ فيسهل عليه بذلك فرض هيمنته واستبداده على الجميع"؛ كيف تفسّر هاجس الأقليات وخوفها من وصول قوىً إسلاميةٍ متطرّفةٍ إلى سدّة الحكم؟
الأقلية مفهومٌ زائفٌ حاول النظام السوريّ إدخاله إلى الترسانة الفكرية للمواطنين، ليشوّه البنية السورية النقية التي لا تعرف التمييز على أساس العرق أو الدين. وعلى كلّ حال، فالأقلية في نظري هي أقليةٌ سياسيةٌ والأكثرية هي أيضاً أكثرية سياسية، وبالتالي فلا معنى لهذين المفهومين الأخيرين إلا في ظلّ نظامٍ ديمقراطيٍّ حقيقيّ.
أما الإحساس العميق للنظام بأنه ينتمي إلى أقليةٍ سياسيةٍ حولها أقليةٌ طائفية، فهو ما جعله يلحّ على فكرة تحالف الأقليات. وأخطأ كلّ من ساير النظام في طريقة التفكير هذه، فالسوريون متساوون بوصفهم مواطنين.
أصبحت الدولة السورية مجزأةً حسب تموضع كلّ قوةٍ عسكرية؛ مناطق يسيطر عليها النظام، وأخرى تسيطر عليها جهاتٌ إسلامية، أما مناطق شرق سورية فيسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وفي المناطق الكردية أنشأ الأكراد إدارةً ذاتية؛ كيف تتراءى لك الصورة؟
هذه هي النتيجة الطبيعية لسلوك النظام وموقفه من الثورة، عندما ظنّ أن الحلّ الأمنيّ وعسكرة الثورة سيجنّبانه دفع الأثمان الضرورية للتحوّل إلى الديمقراطية. ولكنه، بدلاً من ذلك، جعل الشعب السوريّ كله يدفع الأثمان. هذه صورةٌ مشوّهةٌ لسورية وليست حقيقة. ولكن، في عالم السياسية كثيراً ما تصبح الأوهام حقائق. فدول سايكس بيكو كانت مجرّد وهمٍ في نظر الشباب السوريّ قبيل عام 1917. ونحن اليوم نبكي على هذه الحدود الجغرافية وليس على ما فوقها من نظمٍ سياسيةٍ حاكمة. والخشية اليوم أن تتحوّل الخريطة المذكورة في السؤال من وهمٍ في الأفكار إلى حقائق واقعيةٍ قد تعمّر طويلاً أو قصيراً. وعلى المعارضة التفكير في هذه الخريطة جدّياً. وأن توضع الحلول الواقعية لجملة المشكلات السورية، حتى وإن كان الأمر يفضي إلى التفكير في نوعٍ من الفيدرالية أو اللامركزية في تصوّر الإدارة المستقبلية. فالسويد، مثلاً، تطبق صوراً خلاقةً من اللامركزية من غير أن تتعرّض وحدة البلاد لأيّ خطر. أعلم أن المعترضين سيقولون إن الظروف مختلفة، وأردّ عليهم: لا تكون السياسة سياسةً إلا إذا وضعت في اعتبارها الممكن أولاً.
مع إطالة أمد الصراع الدائر في سورية ظهرت تنظيماتٌ إسلاميةٌ متطرّفةٌ، كـالدولة الإسلامية وجبهة النصرة. هل يعود هذا التطرّف إلى جذر النظام، أم إلى أجندات القوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، أم إلى الجهتين معاً؟
نعم، للجهتين معاً. ولكن، قبل هذا وذاك، يرجع إلى المشاعر المكبوتة وغياب التعبير السياسيّ الحرّ، الأمر الذي عاشه السوريون طيلة خمسين عاماً. يظن الدكتاتور عادةً أن الناس إذا صمتوا فهذا يعني أنهم راضون، ولكن صمت الناس يعمّق إحساسهم بالقهر. والراديكالية هي، بمعنىً من المعاني، الصورة القصوى للقهر. وهناك علاقةٌ طرديةٌ بين القهر والراديكالية، فكثيرٌ من أولئك المنضوين في الحركات الراديكالية الإسلامية قد عاشوا صوراً من القهر والمعاناة حوّلتهم، عندما حملوا السلاح، إلى أن يتصوّروا أنفسهم مخلّصين للبشرية. وعليه، لا بدّ من فهمٍ أعمق لهذه الحركات، وعدم الاكتفاء بإدانتها السريعة. يجب النظر إليها بوصفها أعراضاً مرَضيةً ينبغي البحث عن علاجٍ لها لا مجرّد إدانتها.
إلى أين تتجه سوريا؟
يبدو لي أن مصير سوريا، في معظمه، لم يعد في أيدي السوريين، نظاماً ومعارضة. وأعظم مهمةٍ على المعارضة التفكير فيها هي الصراع من أجل استعادة أيّ جزءٍ من المصير السوريّ ليكون في أيدي السوريين أنفسهم. ربما يكون الدور الإقليميّ والعامل الدوليّ اليوم أكثر قوةً وبروزاً في تحديد المصير السوريّ. ولكن، إن أمكنَ للمعارضة أن تصوغ قاعدةً من المصالح السورية العليا المتفق عليها، وأن يكون الولاء موجهاً نحوها، عندئذ قد نستعيد جزءاً لا بأس به من المصير السوريّ ليكون في أيدي السوريين. وما سيميّزها عن النظام أنها منشغلةٌ بالمصير السوريّ.