info@suwar-magazine.org

ريف دمشق: جوعٌ وحصارٌ و"مصالحات"

ريف دمشق: جوعٌ وحصارٌ و"مصالحات"
Whatsapp
Facebook Share

 

 بلداتٌ "تجاهد" كي تستمرّ بالحياة

 

رويدة اليوسف

 

تعاني منطقة ريف دمشق، أكثر من غيرها، من الحرب المستمرّة في البلاد. ففضلاً عن القصف والموت والدمار، سقطت المنطقة بين فكّي حصار النظام الذي لا يرحم، والذي منع عنها الغذاء والدواء ومختلف الخدمات. وقد تعدّدت محاولات أهالي المنطقة للتعامل مع واقعهم الصعب؛ فمن الإصرار على الصمود والمقاومة، إلى "المصالحة" مع النظام وتشكيل اللجان الشعبية، مروراً بكل أشكال العمل المدنيّ والإغاثيّ، تحاول قرى وبلدات الريف الدمشقيّ الاستمرار بالحياة رغم كل ما حلّ بها.

 

 

الغوطة الشرقية: جوعٌ مزمنٌ وعملٌ مدنيّ

 

 فقدت الغوطة الشرقية معظم أسباب الحياة بعد أن هجرها معظم سكانها نتيجة الحصار المطبق الذي فرضه النظام عليها منذ أكثر من سنة.

يقول أبو فهد، أحد الشباب الموجودين في المنطقة وممن عايشوا الحصار: "نتناول وجبةً واحدةً فقط في اليوم، لا تتجاوز نصف الرغيف، مع بضع حبّاتٍ من الزيتون. ونقيم احتفالاً عندما تسنح لنا الفرصة بتناول وجبة برغل، إذ من الممكن أن تبلغ تكلفتها 4000 ليرةٍ سورية". ويضيف أبو فهد، الذي سبق له أن عانى مرارة الاعتقال: "يا محلا أيام فرع فلسطين، كان الأكل فيه أحسن. طلع البرغل من عيونّا". ويضيف مازحاً: "رح أقلب على حمار من كتر ما أكلت خبز الشعير".

 

وتشرح لنا السيدة (م)، وهي من الناشطين في مجال الإغاثة: "منع الحصار وصول المواد الغذائية إلى المنطقة إلا عن طريق التهريب، بمعنى أن بعض التجار توصلوا إلى تسويةٍ مع بعض عناصر النظام على الحواجز لإدخال البضائع مقابل رشوةٍ كبيرة. وهكذا يكون سعر البضاعة الواصلة من دمشق إلى الغوطة شاملاً لسعرها الأصليّ، بالإضافة إلى قيمة الرشوة المقدّمة لعناصر الأمن، وفوقها ربح التاجر الذي قام بالعملية، وهو دائماً ما يكون ربحاً مضاعفاً. وبالتالي تصل البضاعة إلى المستهلك بثمنٍ يزيد ستة أضعافٍ عن ثمنها الأصليّ. ولا يستطيع أحدٌ شراءها إلا من رحم ربي".

 

 بالرغم من هذا، ما يزال الدم يجري في شرايين الغوطة المحاصرة، بفضل بعض المشاريع الصغيرة القائمة فيها. ومنها روضة "نبع الحياة"، التي تستقبل الطلاب من عمر ثلاث إلى خمس سنوات.

تقول مديرة الروضة إن داعمي المشروع ليست لهم أية توجهات، وبعيدون عن التطرّف والحرب وآلة السلاح المدمّرة. كلّ ما يتمنونه هو أن يساعدوا الأطفال على عيش طفولتهم بشكلٍ بسيطٍ وسهلٍ لمدّة ثلاث ساعاتٍ يومياً.


وتؤكد المديرة: "يُعنى المركز بالدعم النفسيّ والاجتماعيّ للأطفال. وبرنامج الروضة ترفيهيٌّ أكثر من كونه تعليمياً. ولدينا كادرٌ مؤهلٌ إلى حدٍّ ما، يستطيع التعامل مع الصعوبات التي يعاني منها الأطفال، من ارتكاساتٍ نفسيةٍ وحالات العنف والانطوائية".

 

وتختم حديثها بالقول: "يطلب الأطفال منّا أن نسمح لهم باللعب في الحديقة بالرغم من القصف، مستعملين عبارة "ايييه تعودنا". ويسمعون في المركز أغاني قنوات الأطفال العادية، مثل "طيور الجنة" أو "كراميش". فهم، برأينا، غير معنيّين بالثورة وأغانيها في طفولتهم المبكرة".

 

ومن المراكز الأخرى مركز "نساء الآن"، وهو مركزٌ يساعد النساء على تعلم المهن اليدوية، ثم يقوم بتشغيلهنّ وتسويق البضاعة الناتجة عن عملهن.

حدثتنا إحدى المتدربات في المركز: "تدرّبت في مركز "نساء الآن"، الذي مكّنني من اكتساب المهارة اللازمة للعمل. تعلمت حياكة الثياب الصوفية وتحضير المؤونة للمنازل بالاعتماد على التيبيس والتخليل. وأنا مضطرّةٌ بشدّةٍ لهذا العمل لأن زوجي معتقلٌ وعندي ثلاثة أولادٍ والمعيشة غالية. في اليوم الذي لا أعمل فيه ينام أطفالي بلا عشاء".


لا كهرباء في المنطقة منذ ما يزيد عن السنة. يوجد القليل من المولدات التي يتمّ تشغيلها فقط في الحالات الضرورية، بسبب غلاء البنزين. وتوجد مقاهي إنترنت، تعتمد على النت الفضائيّ، تمكّن القاطنين في الغوطة من التواصل مع ذويهم، في ظلّ غياب الاتصالات نهائياً.

 

وادي بردى بين القصف المستمرّ وحواجز الموت

 

حال وادي بردى مختلفٌ عن حال الغوطة، إذ لا يوجد حصارٌ صريحٌ وواضح، إلا أن القصف مستمرٌّ، منذ ما يقارب العام، على الجبال والجرود المحيطة بالمنطقة.

يتجاوز عدد النازحين في منطقة وادي بردى العشرة آلاف نسمة، نزحوا من مناطق حمص والغوطة وداريا. تستلم المنطقة شهرياً حصصاً غذائيةً توزّع على بعض العائلات، فيصل إلى العائلة الواحدة ما معدّله سلةٌ غذائيةٌ كلّ ثلاثة أشهر.

 

لا يعني الحصار عدم إدخال الطعام والشراب فقط، فالمدنيون من شباب المنطقة لا يملكون الجرأة أو القدرة للتنقل بين الوادي ودمشق، مع العلم أن العديد منهم موظفٌ أو لديه منزلٌ وعملٌ في دمشق. لكن حاجز "الرمال" المعروف بسمعته السيئة، كما أغلب الحواجز التي تفصل بين الريف والمدينة، يشكل هاجساً مرعباً لسكان المنطقة، إذ يتمّ الاعتقال فيه عشوائياً حسب مزاج العسكريّ المشرف عليه، وسجّلت فيه أكثر من حالة تصفيةٍ لأكثر شباب المنطقة كفاءة.

 

شَكّل بعض العاطلين عن العمل وسيئي الأخلاق في المنطقة، بالتعاون مع بعض عناصر النظام، عصاباتٍ أخذت من الجبال الوعرة مركزاً لها، وامتهنت السرقة والنهب والخطف باسم الجيش الحرّ، مع العلم أن الأخير عمل جاهداً على محاربتها ومحاسبتها.

 

ما زالت المدارس تعمل في أغلب قرى الوادي. لكن المدرسة، أو المنطقة الواقعة فيها، تتعرّض للقصف في كثيرٍ من الحالات، مما يؤدّي إلى إصاباتٍ بين صفوف الطلاب، إذ تفتقد هذه المدارس إلى ملاجئ آمنة.

الملفت للنظر في المنطقة هو القصف المتواصل لمنازل الناشطين، المدنيين منهم أو العسكريين. فمثلاً تعرّض بناءٌ فيه ثماني شققٍ للقصف بالقنابل الحارقة لأنه يحوي شقة أحد الناشطين! وهكذا فإن المخاطر التي يتعرّض لها الناس تجاوزت الاعتقال على حاجز الرمال إلى عمليات الاغتيال، والتي غالباً ما يتضرّر منها مدنيون لا علاقة لهم بالشخص المستهدف.

 

قامت بعض البلدات بعقد مصالحةٍ مع النظام، مثل بلدة "جديدة الوادي"، التي تسيطر عليها الآن اللجان الشعبية، وهي لجانٌ أغلب عناصرها من أهل المنطقة، ولكنها تتبع للنظام بشكلٍ أو بآخر. أما بقية البلدات فهي تفاوض الآن لأجل المصالحة، مثل "أشرفية وادي بردى" و"بسّيمة".

 

التلّ: للمصالحة تجّارها أيضاً

 

تقع مدينة التلّ في ريف دمشق. وتدعى أيضاً مفتاح القلمون. وتعدّ من المناطق الحسّاسة في الريف، إذ إنها محاصرةٌ بثكناتٍ عسكريةٍ مثل ثكنة "الدريج" وثكنة "صيدنايا" وثكنة "ضاحية البعث". وهناك عدّة حواجز على مداخل مدينة التلّ، وهي حاجز "المشفى" وحاجز "الضاحية" وحاجز "القوس". كما أن هناك حاجزاً على طريق مزارع التلّ، وهو حاجز "معرونة".

 

مدينة التلّ من المناطق المهادنة للنظام منذ أكثر من عشرة أشهر، ولكن وفق قوانين النظام وشروطه، وبما يتناسب مع مصالح رجال المصالحة في المدينة.

الجدير بالذكر أن مدينة التلّ تؤوي أكثر من مليون نازحٍ من مناطق ريف دمشق كافة، علماً أن المساعدات المقدّمة لهم تأتي من أهالي التلّ فقط، فمعظم منازل الأهالي فُتحت للنازحين. وساعد على ذلك ارتفاع عدد المغتربين من أهل المدينة في دول الخليج، وكذلك عمل الجمعيات الخيرية التي فتحت صالات الأفراح وأسكنت فيها النازحين.

 

وبالرغم من ذلك استغلّ البعض حاجة النازحين، وبدأ برفع أسعار أجرة المنازل. فوصل إيجار بعض البيوت في الآونة الأخيرة إلى 25 ألف ليرةٍ سورية، وهو أجرٌ غير مسبوقٍ لعقارات المنطقة.

الوضع المعيشيّ في مدينة التلّ خانق؛ فحصص المدينة من الخبز والتموين غير كافيةٍ لأهلها مع النازحين، بالإضافة إلى نقصٍ في الماء وانقطاعٍ متكرّرٍ للتيار الكهربائيّ.

 

تمّ الاتفاق مؤخراً على دخول الجيش النظاميّ إلى المدينة دون قيدٍ أو شرط، ودهن واجهات المحلات بألوان العلم السوريّ، واعتبار الجيش الحرّ جماعاتٍ مسلّحة، مع السماح لكلّ المطلوبين بتسوية أوضاعهم والسفر إلى خارج البلاد لمن يريد، مما يؤثر سلباً على المطلوبين الموجودين داخل المدينة، الذين لا يرغبون في تسوية أوضاعهم.

 

تختلف أشكال المعاناة بين مناطق وبلدات الريف الدمشقيّ، ولكن الحال واحد: حصارٌ وجوعٌ ونزوحٌ وتسوياتٌ مذلةٌ مفروضةٌ فرضاً على أهالي المنطقة، وتجّار حربٍ و"مصالحةٍ" يستفيدون من الوضع القائم لفرض سيطرتهم وهيمنتهم وزيادة أرباحهم.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard