info@suwar-magazine.org

برتولد بريخت .. أوهام المسرح

برتولد بريخت .. أوهام المسرح
Whatsapp
Facebook Share

جوان تتر

 

لعلّ المسرح، منذُ القِدَم، كانَ مُقَامَاً على أنقاض الإرهاصات البدائيَّة لتفسير الصراع الدائم بين قوى الخير وقوى الشرّ وتفسير الخَلقِ الغامِض للعالَم. لكن هذه الرؤية لم تتطوَّر إلّا بعد مرور سنواتٍ طويلة على مكاشفاتٍ مسرحيَّة ومقارباتٍ للواقع وممارساتٍ للأصول المسرحية، كما كان يفعل إسخيليوس وأقرانه من عظماء البدايات، تلكَ التجارب التي باتت الآن قواميسَ ومراجع للمقارنَةِ فقط بينَ ماضي المسرح وحاضره. فقد تطوَّرت الرؤية المسرحيَّة للعالم والنَّظر إليه مُمَسرَحَاً أو، مثلاً، أنَّ العالَمَ يعيشُ أوهام المسرح. استدلالاً على هذا الكلام سيمرّ الانسان بروائع غوته وشيكسبير، ولن ينتهي بالطّبع بهارولد بنتر وغيرهِم من المسرحيِّين العمالقة.

 

 

تمثِّل التجارب المسرحيَّة العالميَّة نقاطَ توقُّفٍ لا بدّ من النَّظر إليها على أنَّها محاولاتٌ عُظمى لتفعيل دور المسرح وإدماجه في الحياة اليوميَّة أو، على العكس تماماً، كتلك المحاولات التي تُدخِلُ الحياة اليوميَّة ضمن إطار الأداء المسرحيّ، كما فعل أنطون تشيخوف في العديد من مسرحياته. ويبقى السؤال الأهمّ: ما هيَ الفائدة المرجوَّة من رهطٍ من الخلق واقفين على خشبةٍ مع إضاءَةٍ خافتةٍ وموسيقى وهم يتكلّمون ويتألّمونَ ويصارحونَ الجمهورَ المندهش لمثل هكذا حالاتٍ؟ يُجيبُ المسرحيُّ الألمانيّ العريق برتولد بريخت عن هذا السؤال بقوله: المسرح فنّ اليوميّ. هكذا، بكلّ بساطةٍ، يجيب بريخت عن أعمَق الأسئلة التي تتمُّ صياغتها مسرحيَّاً ولكن بلغة اليوميّ المُعتادَة.

 

 

كتب بريخت مسرحيَّاتٍ عدَّةً وفقَ تصوِّرٍ فكريٍّ خاصٍّ به، وأدَّى هذا التصوُّر في نهاية المطاف إلى تأسيسِ حركَةٍ مسرحيَّة تخصُّه تمّ تعميمها على العالَم كنمطٍ مسرحيٍّ بريختيٍّ إن صحَّ التعبير، هذا النمط لا يقلُّ براعَةً عمّا فعله آرثور رامبو في الشعر وتمارينهِ وأسلوبيَّاته. كتبَ بريخت على خلفيَّةِ زخمٍ معرفيٍّ كان مخزوناً ثقافيّاً استقاه من مطالعاته وقراءاته العميقة للأمور.

 

تتبدَّى معرفة بريخت بالماركسيَّة وتعمّقه في قراءة الفكر الماركسيّ في أكثر من مسرحيَّةٍ كتبها، وعلى الأخصّ في مسرحيته المعنوَنَة بـ( جان دارك، قدّيسة المسالخ). هذه المسرحيّة التي كُتِبَت بطريقةٍ مختلفةٍ عن باقي مسرحيَّاته، إذ تمّ اختلاق شخصيَّاتٍ جديدةٍ من الطبقة البروليتاريَّة ليكشف كمّ الاستغلال الحاصل ووصول الأزمة الاقتصادية إلى ألمانيا. يقول نبيل الحفَّار، مترجم المسرحيَّة إلى اللغة العربية، في مقدّمتها:"كثيراً ما اتُّهمتْ هذه المسرحيَّة بأنَّها أسيرة فترة نشوئها ولذا فقدت أهميتها ومعاصرتها، لكننا بنظرةٍ سريعة إلى أزمات العالم الرأسماليّ الإمبرياليّ من حولنا، وبنظرةٍ أخرى إلى موجات الردّة الدينية في الغرب بحثاً عن الخلاص من عالمٍ لم يعد معقولاً أو قابلاً للعيش، ندرك أهميَّة هذه المسرحيَّة طالما بقيَ الصراع بين المستغِلين والمستغَلين". هذا ما قاله المترجم عن المسرحيَّة عام 1980، ولا يزال هذا الحديث ساريَاً في مجتمعنا الحاليّ. وإن دلّ هذا على شيءٍ فهو بالتأكيد يدلّ على نبوءة المسرح عبر الأزمان وتعبيره عن رؤىً اجتماعيَّةٍ وسياسيّةٍ وحتى أخلاقيَّةٍ ضمن المجتمعات والحضارات المتعاقبة مهما تبدّلت أو، من المفترَض، تطوَّرت.

 

تأتي مسرحية (جان دارك،قديسة المسالخ) كتعبيرٍ "بريختيٍّ" عن الأزمات الحاصلَة في الفكر، والتي تدفع الإنسان إلى الاستغلال. ربمّا ما يميّز مسرح بريخت، بالإضافة إلى محاكاته الواقع، هو تلك الروح الشاعريَّة الكامنة في الحوارات بين الشخصيَّات، ما يتبدّى واضحاً من خلال بعض القطع الحواريَّة بين (ماولر)، ملك اللحوم في شيكاغو، وبينَ (كرايدل) الذي هو من أصحاب مصانع اللحوم، مع الإشارة إلى أنّ الحوار يدور في أحد مسالخ شيكاغو:

 

"كرايدل: أيها العزيز لماذا تبدو كئيباً؟

 

ماولر: هل تذكر يا كرايدل تلك الجولة التي قمنا بها ذات يومٍ عبر المسالخ؟ كان الوقت مساءً، وأمام آلة التعليب الجديدة، لو تذكر يا كرايدل، رأينا ثوراً نبيلاً أشقر، يرفع نحو السماء عينيه الواسعتين البريئتين، كنا ننظر إليه عندما هوت عليه مقصلة الآلة فذبحته!!".

 

تدور المسرحية في الإجمال حول أحداث ثورات العمَّال الذين هم من الطبقة المُستغَلَّة، سواءً من ناحية الأجور الخفيضة أو التعامل القاسي المُمارَس من لَدُنِ الرأسماليين الذين يضحكون لمجرّد أن يطالب العمّال بحقوقهم وأجورهِم، كما في المشهد الثاني من المسرحيَّة الذي عنونَه بريخت بـ(إفلاس كبرى مصانع تعليب اللحوم أمام مصانع لنوكس لتعليب اللحوم)، إنّها عناوين افتراضيَّةٌ يستعين بها بريخت ليعبِّر عن سَخَط العمال وإحساسهم بالظلم الدَّائِمْ.

 

 

المشاهد الأوليَّة تمهيدٌ لظهور (جان دارك)، هذا الاسم الرنَّان الذي اختارهُ بريخت كنوعٍ من الإسقاط، والذي يقوم بدور ملازمٍ في منظمة القبعات السود أو ما يسمّى بـ"جيش الخلاص". جان دارك هي من ستدافع عن الحقوق المهضومة. فها هي تُقبِل، مع أفرادٍ من منظمة القبعات السود، لينشروا رسالتهم، وليستنتجوا بعدها أن نتيجة عملهم في آخر النهار صفر!! بينما، على الطَّرَف الآخر، يمارس (لنوكس) صفقاته واستغلاله المستمرّين. وأيضاً يستمرّ أفراد جيش الخلاص في الغناء وهم يضعون لافتاتٍ بأجور العمَّال الحقيقيَّة دون استغلال، هذا الغناء الذي يكون بمفرداتٍ تمكن تسميتها في هذا العصر بالشعارات:

 

"أنتم أيَّها الفقراء

جيشٌ جرَّارٌ في هذا العالم

أنتم الذين تُصغون إلينا، لا تنظروا إلى الغد،

منذ الغد بادروا إلى معونة القريب

إلى الأمام، اهجموا، احملوا بنادقكم..".

 

تنبري (جان دارك) من بين الحضور لتخطبَ في الجمع بعدَ أن وُزِّعَ عليهم المنشور المسمّى (نداء المعركة). حالةٌ خطابيَّةٌ مترافقةٌ مع صحن الحساء المُقدَّم للعمَّال المساكين كنوعٍ من الرشوة. الكلّ مصغٍ لترَّهات المخلِّص. ثمّ، بمجرَّد الفراغ من تناول الحساء، يهرب العمال جميعَاً وسط نداءاتٍ عن طلب أحد المصانع لعمَّالٍ جُدُد. إذاً، الجوع وليس شيءٌ آخر يُجبِر العمال على الإنصات إلى شعاراتٍ وكلماتٍ طنَّانةٍ معسولَة. ذلك أمرٌ يمكن تطبيقهُ على المجتمعات المؤمنة بالسَّاسَة، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة الرشاوى المقدَّمة في سبيل الاستماع. في المسرحيَّة يطلب عناصر جيش الخلاص أنفسهم من جان: "والآن هيَّا بنا، تجمّدنا من البرد والبلل ويجب أن نأكل.". إن مسبِّبَ البؤس بالنسبة إلى العمَّال هما (ماولر ولينوكس) صاحبَي مصانع تعليب اللحوم، يتصارعان لجني أرباحٍ طائلة. ولكن، في النهاية، المتضرِّرون الأُوَل هم طبقة العمَّال.

 

يُعرِّج بريخت في المسرحية على تجّار الجُملَة ومربّي المواشي، ليشير إلى عيَّنةٍ من النَّاس يشكِّلون نموذج استغلال الفوضى. يعتمد بريخت على آليَّة إسقاط ما يريد قوله بلسان الشخصيَّات على الواقع الذي نعيشه، وكأنّه بهذه الطريقَة يُمسرِحُ الواقعَ بأسلوبه الخاصّ. وما عناصر القبعات السّود أو جيش الخلاص في المسرحيَّة إلا دلالةٌ واضحةٌ على الشعارات المستهلَكَة التي نراها في حياتنا اليوميَّة المُعاشَة وبكلّ وضوح.

 

في كلّ مشاهد المسرحيَّة (وفقَ الترجمة) نرى قالباً ملحميَّاً ولكن ليس بذات الطريقة التي تعامل بها أسخيليوس وغيره، إنَّما بطريقةٍ ملحميَّةٍ معاصرَة. ربمّا ما يودّ بريخت أن يقوله هو أنَّ المسرح وهمٌ، أو، بطريقةٍ أوضَح: كلّ ما هو موجودٌ في الواقع لا يمكن إيجاده في المسرح، وإن تمّ العثور عليه فسيكونُ مثل من يقبض على الماء ليسيلَ بسهولةٍ ويُسر!!

 

اعتمدَ بريخت في كلّ كتاباته المسرحيَّة، وحتَّى في تلكَ الكتابات النثريَّة التي نشرها في مجلَّاتٍ عديدةٍ إلى أن تمّت طباعتها، على الواقع وتفصيلاته، ثمّ على إعادة صياغة تلك التفصيلات الدقيقة. في كلّ ما يكتب بريخت نوعٌ من الاستناد إلى حقائق واضحةٍ، ثمّ إعادة تركيب هذه الحقائق في قالبٍ مسرحيٍّ يمكن تجسيده على الخشبة في كلّ الأزمانِ والتواريخ.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard