info@suwar-magazine.org

عن الوطن والوطنيّة

عن الوطن والوطنيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

جاد الكريم الجباعي

 

كلمة الوطن، في العربية، لا تدلّ على المعنى المتداول اليوم في العالم، ولا على المعنى المتداول في العلوم السياسية، إلا من جهة تمهيد المكان وتهيئته للسكنى، أي من حيث الشغل البشريّ في التمهيد والتهيئة، وهذا يمكن البناء عليه، لأنه يدلّ على علاقةٍ مباشرةٍ بين الإنسان والمكان، بين الإنسان والأرض. بالشغل البشريّ لم تعد الأرض مجرّد مكانٍ أو امتدادٍ، بل مكانٍ ممهَّدٍ ومهيَّأ ومُعتنى به، مكانٍ انصبّ فيه شغلٌ بشريٌّ، عضليٌّ وذهنيٌّ وجماليٌّ. وهذه ثلاثة أبعادٍ متلازمةٌ للشغل، تمنح الوطن خصائصه المميّزة التي تدلّ على أهله، من حيث طرائق تفكيرهم وأساليب عملهم ومستوى ذوقهم، وتعقد نوعاً من الصلة الروحية بين الإنسان والمكان، بين المسكن وساكنيه، والحقل أو البستان وزارعيه أو مبستنيه، وبين المشغَل والمشتغلين فيه، وبين الشارع والمارّة، وبين المدرسة والتلاميذ والمعلمين، وبين المتحف وزوّاره، والحديقة وروّادها، وبين الملعب واللاعبين، والمسجد والمصلين.. إلخ. لذلك يندرج التوطُّن في معنى التحضُّر، ثمّ في معنى التمدُّن، في مرحلةٍ لاحقة.

 

إذاً، الوطن مفهومٌ مدنيٌّ فائق التركيب، ينطوي على قيمٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ، ماديةٍ وأخلاقيةٍ، اجتماعيةٍ – اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، تنبثق جميعها من نوع الاجتماع البشريّ، من المجتمع والمجتمع المدنيّ وتنظيماته ومؤسّساته الخاصّة والعامة، تتوِّجها الدولة ومؤسّساتها العامة، ولا سيما مؤسّستا التشريع والقضاء.

 

الوطن، بتعبيرٍ آخر، هو شكل وجود مواطناته ومواطنيه في الزمان والمكان، باعتبارهما وجهين متلازمين للوجود، وعلاقةٌ/علاقاتٌ حيَّةٌ وتفاعليةٌ أو جدليةٌ بين الناس والأرض والسلطة العامة، السيدة والمستقلة، أي الدولة، مع توكيد صفة العامّة للسلطة، بصفتها سلطة قانونٍ عامٍّ، لا سلطةً شخصيةً، كما كانت الحال عندنا، ولا تزال. لقد وُجد القانون الوضعيّ لكي لا يخضع شخصٌ لنظيره. وهو أبٌ لحذف الطابع الشخصيّ للسلطة، بما هو أحد الآثار المتبقية من عهود القنانة والرقّ. والبلدان التي لا تزال فيها السلطة شخصيةً، على الرغم من وجود دساتير ومدوّناتٍ قانونيةٍ، بلدانٌ أقرب إلى همجية العصور القديمة والوسطى منها إلى المدنية والحداثة، لأن السلطة الشخصية دوماً سلطة قهرٍ وإكراهٍ واستتباعٍ أو استعباد. ففي ظلّ السلطة الشخصية يتحوّل الوطن إلى امتدادٍ لجسد الحاكم المستبدّ ومرتعٍ لبطانته الفاسدة، ممن ينهبون ثروات الوطن وقوّة عمل المجتمع، ويذلّون الناس قياماً وقعوداً، فتنتفي المواطنة والوطنية، وتنكفئ الجماعات على نفسها، ويلوذ بها الأفراد، ويغدو "الدفاع عن الوطن" دفاعاً عن التسلط والاستبداد، وليس لأيّ عاقلٍ مصلحةٌ في أن يفعل ذلك، إلا لاتقاء شرٍّ أعظم، إذا كان ثمّة شرٌّ أعظم من التسلط والاستبداد. وللذين يلوّحون بخطر الاستعمار والإرهاب نقول: الاستبداد هو ما يستقدم الاستعمار، وينتج الإرهاب، ويطفئ جذوة الحياة الإنسانية. وثالوث الاستبداد هو الحاكم والكاهن والرعية الخانعة، ومن ثمّ، هو نظامٌ معمولٌ للحيوانات فقط.

 

والوطنيّ هو المنسوب إلى الوطن، بغضّ النظر عن جميع صفاته الشخصية ومحمولاته.. وعكسه الأجنبيّ. ولا تزال صفة الوطنيّ دارجةً في الجزيرة العربية لتمييز أهل البلد عن الوافدين، عرباً كانوا أم غير عرب. ولذلك فإن صفة الوطنيّ للشخص لا تقبل التفاضل، فالوطنيّ في سوريا هو السوريّ، كبيراً كان أم صغيراً، غنياً أم فقيراً، مالكاً أم غير مالك، حاكماً أم محكوماً، موالياً أم معارضاً، علمانياً أم تيوقراطياً، متديناً أم ملحداً، يمينياً أم يسارياً.. إلخ، وكذلك المرأة الوطنية أو السورية. من دون هذا الأساس المعرفيّ والأخلاقيّ لا تكون مواطنةٌ ولا وطنية.

 

ربما يرجع التفاضل في صفة الوطنية، في سوريا، إلى حقبة الاستعمار الفرنسيّ، لتمييز المحابين للسياسة الاستعمارية والمتعاونين مع المستعمر عن بقية أفراد الشعب. انقضى عهد الاستعمار المباشر ولكن عهد المفاضلة لم ينقض، وتحوّل التفاضل في الوطنية إلى عادةٍ ذهنيةٍ وأخلاقيةٍ رديئةٍ. لذلك يتبادل السوريون، على اختلافهم واختلاف سوياتهم التعليمية والثقافية، تُهَم العمالة والخيانة والتآمر مع أعداء الأمة. فإذا صدّقنا كلّ متّهِمٍ، من الموالين والمعارضين، ينتج أن السوريين جميعاً خونةٌ وعملاء ومتآمرون مع أعداء الأمة، وهذه كارثةٌ معرفيةٌ وأخلاقية.

 

أما على صعيد الراهن السوريّ فإن التفاضل في الوطنية يرجع، كما ندّعي، إلى فساد السياسة مفهوماً وممارسةً. إذ لا تزال السياسة تستمدّ معناها من الحقل الدلاليّ للحاكمية والولاية وعصمة أولي الأمر ووجوب طاعتهم، ولو كانوا فاسقين أو مجرمين، وتستمدّ معناها كذلك من "سياسة الدواب"، حسب معناها القاموسيّ، وطبيعة من يمارسونها. وإذ يبرِّئ كلّ متّهَمٍ نفسه، ينتج أن جميع السوريين ملائكةٌ طاهرون، وهذه كارثةٌ من النوع السابق نفسه.

 

ومن ثمّ فإن تحويل الوطنية إلى أدلوجةٍ تافهةٍ وغبيةٍ، وقيمةٍ معياريةٍ تختلف باختلاف المتكلم أو المتكلمة، بدلاً من كونها منظومة حرّياتٍ شخصيةٍ وعامةٍ، ومسؤولياتٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ وأخلاقية، وحقوقٍ مدنيةٍ وسياسيةٍ متساويةٍ والتزاماتٍ قانونية، يكفلها الدستور والقانون، وتحويلها، من ثمّ، إلى حكم قيمةٍ نسبغه على الآخر المختلف والأخرى المختلفة متى نشاء وننزعه عنه وعنها متى نشاء، هو أساس التوحش والإرهاب اللذين نشهد مظاهرهما كلّ يوم. الوطنية ليست ترنيمة مديحٍ، بل هي صفةٌ للمواطِنة والمواطن، بغضّ النظر عن أيّ اعتبارٍ إثنيٍّ أو دينيٍّ أو مذهبيٍّ أو جنسيٍّ أو طبقيٍّ أو فكريٍّ أو سياسيٍّ.. إلخ.

 

صحيحٌ أن السوريّ (= الوطنيّ) ليس من يحمل بطاقة الهوية الشخصية وجواز السفر السوريَّين، إذا كانت بطاقة الهوية وجواز السفر مجرَّدَين من أيّ قيمةٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ وأخلاقية. أما إذا كانا على خلاف ذلك، فكلّ سوريٍّ وطنيٌّ وكلّ سوريةٍ وطنيةٌ، حتى يثبت العكس بحكمٍ قضائيٍّ معللٍ يصدر عن قضاءٍ مستقلّ. حين تكون الدولة دولة جميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي، وتعبيراً عن حياتهم الأخلاقية؛ تغدو لبطاقة الهوية الشخصية وجواز السفر قيمةٌ رمزيةٌ، كقيمة العلم الوطنيّ والنشيد الوطنيّ، تدعو إلى الفخر والاعتزاز.

 

الناس، السكان، المواطنات والمواطنون مثلما هم في الواقع لا مثلما تريدهم السلطة أن يكونوا؛ هم مضمون الوطن ومن يمنحونه خصائصه الوطنية، بعملهم وإنتاجهم وإبداعهم، ويجعلونه جزءاً من نسيج حياتهم الاجتماعية والإنسانية العامة، أو النوعية، وركناً من أركان عالمهم. فإذا كان الوطن شكلاً متناقضاً مع مضمونه يكفّ عن كونه وطناً، ويتحوّل إما إلى مجرّد مكان إقامةٍ قسريةٍ، دائمةٍ أو مؤقتةٍ، وإما إلى ساحة صراعٍ وحربٍ، وهو كذلك اليوم.

 

لدى عودتي من "المؤتمر القوميّ العربيّ"، الذي عقد في مدينة الجزائر، منذ وقتٍ بعيدٍ، وقفتُ في مطار دمشق في الطابور أو الرتل الخاصّ بالسوريين. سلّمتُ جواز سفري لرجل الأمن. وضعه جانباً، وقال لي: اذهب إلى المحفوظات. للمصادفة، لم يكن أحدٌ أمام غرفة المحفوظات من غير السوريين، العرب والأجانب مرّوا بحفظ الله ورعايته. نادى عليَّ باسمي شخصٌ من نافدة غرفة المحفوظات، فتقدّمتُ إليه. ناولني وريقة مراجعةٍ لفرع الأمن العسكريّ بدمشق، هي نموذجٌ مطبوعٌ، لم يملأه الشخص المعنيّ بعد، وقال لي: وقِّع هنا. فأجبته: النموذج فارغٌ، فعلى ماذا أوقع؟ أجابني بعصبيةٍ ظاهرة: وقِّع بلا علاك. فأجبته: إذاً أبصم لك بإبهامي الأيسر أو الأيمن أيهما تريد. فبادرني قائلاً: "وقِّع بلا أكل خرا". قلت له: إذاً لن أوقّع، ولن أدخل بلدي بموافقةٍ من أحدٍ أو على شروطه كائناً من كان. ضعوني على طائرةٍ مغادرةٍ واقذفوا بي خارج الحدود حيثما تشاؤون. فعلا صوته بالشتائم والتهديد، وعلا صوتي بالرفض وأسبابه. وإذا بضابطٍ برتبة مقدّمٍ خرج من الغرفة وانتحى بي جانباً، وسألني: لم لا توقّع؟ عليك مراجعة فرع الأمن العسكريّ (فرع فلسطين). قلتُ له: خرجتُ من سوريا بموافقةٍ أمنيةٍ لمرّةٍ واحدةٍ، من الفرع نفسه، ولا أقبل أن أعود إلى بلدي بموافقةٍ من أحدٍ، أو على شروطه. أنا سوريٌّ، ومن حقّي العودة إلى بيتي وأسرتي. أجاب بلطفٍ: إنه الروتين. أنا أتفهّم موقفك، ولكن لا بدّ أن توقّع حتى تعود إلى أسرتك. قلت له خذوني موجوداً إلى الفرع المعنيّ، لأنني لن أراجعه بمحض إرادتي لهذا السبب.. وبعد حديثٍ طويلٍ وقّعتُ وانصرفت.

 

خطر لي يومها أن أراجع الفرع وأسلمه جواز سفري وهويتي الشخصية، وأستقيل من سوريتي التي اخترتها طوعاً، فأبي لبنانيٌّ، وكان بوسعي الحصول على جنسيته. أجل؛ فكّرت ملياً بالاستقالة من سوريتي التي لم تعد تعني سوى هذين: جواز السفر والبطاقة الشخصية، الفارغَين من أيّ معنىً حقوقيٍّ أو سياسيٍّ أو أخلاقيٍّ، والمجرّدَين من أيّ قيمةٍ رمزية. وشعرتُ بأسىً عميقٍ أنني أعرّف نفسي بأنني سوريٌّ لسوريٍّ مثلي، لا لأجنبيّ.

 

 

يعرّف السوريّ نفسه بأنه سوريٌّ عندما يكون خارج الحدود السورية، ولا يفعل ذلك عندما يكون داخلها. هذا يعني أن الهوية السورية تعريفٌ موجَّهٌ من السوريّ لغير السوريّ، وصفةٌ يطلقها غير السوريين على السوريين، بصرف النظر عن غيرها من الصفات. وهكذا فإن الوطنية منظوراً إليها من الخارج تعني الانتماء إلى الدولة، (الأرض والشعب والسلطة العامة). أما الوطنية منظوراً إليها من الداخل فتعني منظومة الحريات والحقوق التي يكفلها الدستور والقانون، ويتمتع بها المواطنون والمواطنات بالتساوي، فتستحق بذلك أن يحترمها هؤلاء وأن يدافعوا عنها، ويبذلوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس. من هنا بالضبط ينبع الاعتزاز الأدبيّ بالوطن والمفاخرة به، وتنشأ الروح الوطنية والحميّة الوطنية.

 

الدفاع عن الوطن هو، في واقعه العمليّ، دفاعٌ عن الحرّيات الخاصّة والعامّة وعن الحقوق المدنية والسياسية والكرامة الإنسانية، وعن حياةٍ إنسانيةٍ كريمةٍ، وإلا ما معنى الهزائم المتتالية التي منينا بها أمام إسرائيل مجتمعاً ودولةً ومؤسّسات؟ صحيحٌ أن الدفاع عن الوطن واجبٌ أخلاقيٌّ، ولكن لا واجبات من دون حقوق. الوطنية منظومة حرّياتٍ ومسؤولياتٍ ومنظومة حقوقٍ وواجباتٍ متكاملةٍ، وإلا لا تكون وطنيةً، بل مشاعر زائفةً وأدلوجةً خاويةً من أيّ معنى ومن أيّ قيمةٍ، تسقط لدى أوّل اختبار.

 

وفي جميع الأحوال، الحياة الإنسانية والكرامة الإنسانية أهمّ من الوطن والوطنية. والحرّية هي معنى الكرامة الإنسانية، وقوام إنسانية الفرد رجلاً كان أم امرأة، إذا تجرّد أو جُرِّد منها بأيّ وسيلةٍ من وسائل التجريد يتحوّل إلى مجرّد كائنٍ بيولوجيٍّ، يأكل ويشرب ويكدح وينام ويتكاثر، ويقتل ويُقتَل في سبيل ذلك، شأنه شأن الكائنات البيولوجية الأخرى. لذلك كانت المواطَنة مشروطةً بالحرية المدنية ومقترنةً بها. والحرّية المدنية نسبيةٌ دوماً، وقابلةٌ للنموّ والانبساط، ومقترنةٌ بالمسؤولية الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، وإلا لا تكون سوى حرّيةٍ طبيعيةٍ، كحرّية الحيوان في غابة. فعندما تحتكر السلطة الحرّيةَ لنفسها، وتمنعها عن المواطنات والمواطنين، يتحوّل من يمارسون السلطة إلى وحوشٍ كاسرةٍ وكائناتٍ لا أخلاقيةٍ.

 

السوريّ الطيب، في نظر السلطة، هو السوري الميِّت، موالياً كان أم معارضاً. وكلمة الميِّت في اللغة تعني المسلوب الإرادة، الذي لا قوّة له ولا حول ولا طول، بخلاف كلمة الميْت، بتسكين الياء، التي تعني من فارق الحياة. السوري الطيب هو السوري الميِّت، حتى عام 2011، إذ تغيّرت القواعد بعد هذا التاريخ، فغدا السوري الطيب هو السوري الميْت، بتسكين الياء، مثلما نسكّن آلامنا، يستوي في هذا أيضاً المعارضون ومعظم الموالين. الموت، كالبراميل المتفجرة والصواريخ الطائشة والقذائف المجنونة والغازات السامة، لا يفرّق بين معارضٍ وموالٍ. السوريون المقيمون ميِّتون وأمواتٌ بالقوّة أو بالفعل، ما دام كلّ فريقٍ من المتحاربين يراهن على "النصر" في حربٍ عبثيةٍ وعدميةٍ، لا ينتصر فيها أحد.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard