info@suwar-magazine.org

نزلاء فندق كوكوشاغي

نزلاء فندق كوكوشاغي
Whatsapp
Facebook Share

 

حسين زيدو

 

تجلس مجموعاتٌ صغيرةٌ من نزلاء فندق كوكوشاغي حول طاولاتٍ مستديرة، على كراسيٍّ بحجمٍ ولونٍ واحدٍ موضوعةٍ في صالته المطلّة على بحر إيجة، حيثُ أطراف بلدة ديدم التركية. بينهم نساءٌ وأطفالٌ وشبابٌ وفتياتٌ بأعمارٍ متفاوتة. تصبّ جلُّ مشاوراتهم حول إيجاد السبيل الآمن للوصول إلى أوربا، وتتركّز نقاشاتهم حول صعوبات الطريق ومخاطرها، وتستمرُّ حتى ما بعد منتصف الليل دون أن يتّفقوا على طريقٍ آمنةٍ وخاليةٍ من المخاطر.

 

أغلب نزلاء الفندق أتوا من مناطق النزاع. يبحثون عن الأمان أولاً، ثمّ يحلمون بحياةٍ أفضل. تُنهكُهم النقاشات والاقتراحات بشأن طريقة الإبحار إلى الجزر اليونانية، ثمّ ينامون على أمل الوصول إلى أرض أحلامهم الصغيرة.

 

 

من بين تلك المجموعات واحدةٌ يحملُ أعضاؤها شهاداتٍ جامعيةً، يتناقشون في وضع النزلاء والبحر والمهرّب. يقول مهندس البترول: (أمست مشاعرنا وخواطرنا كأمواج البحر، بل جزءاً منه. فعندما تتعالى الأمواج يزداد معها رويداً رويداً توتر الأعصاب والقلق لديّ، وتتملّكني رغبةٌ جامحةٌ في الإبحار سريعاً قبل مجيء الشتاء، فأتصل مع المهرّب الذي يردّ عليّ ببرودة أعصابٍ، وكأنّه لا شيء يدعو إلى القلق، فيزيد من وعوده المعسولة بالإبحار هذه الليلة، ويردف ذلك بقوله: "إنّ اسمك على رأس قائمة من سيبحرون الليلة"، فتهدأ أعصابي، ويتراخى جسدي استعداداً للانتظار لفترةٍ أطول). أما المحامي فعلّق على كلام المهندس قائلاً: (كلّ الذي يقوله المهرّب كلامٌ منثورٌ في عرض البحر، إنّه غيضٌ من فيض الكلمات التي لا معنى لها أمام الحقيقة). توقّف المحامي عن الكلام وأشعل سيجارته، فيما يبدي معلم المدرسة رأيه في الموضوع بقوله: (كلّ الخيارات التي أمامنا تحمل في خفاياها مخاطر كبيرة، وربّما خيارنا الذي اخترناه بملء إرادتنا هو الأخطر بينها جميعاً. لكنّنا الآن تحديداً أمام خيارين مخيفين لا ثالث لهما؛ فالبحر من أمامنا، وأعينٌ مِلؤها الشرّ تحدّق بنا من الخلف، ويبقى الاختيار الصائب صعباً للغاية). توقف الثلاثة عن النقاش، إلا أنّ أصوات المجموعة المجاورة لطاولتهم مسموعة، والنقاش هناك أكثر احتداماً من نقاش المجموعة المثقفة هذه. تلك المجموعة آتيةٌ من محافظاتٍ سوريةٍ، ومجتمعةٌ في صالة الفندق، يتشاورون للوصول إلى رأيٍ سديدٍ حول اختيار اليخت أم البلم (قاربٌ من البلاستيك المليء بالهواء وكأنه بالون) للإبحار والوصول إلى الجزر اليونانية. يقول أحدهم: سنذهب بالبلم كي نصل بسرعة. فيردّ زميله: إنّه خطِر! فيقول آخر: لنذهب باليخت السياحيّ، فهو آمنٌ أكثر. فيردّ زميلٌ: أسعار اليخت مرتفعة، ولا نملك النقود الكافية.

 

تستمرّ المشاورات بين المجموعة دون نتيجة. وفجأةً يدخل المهرّب من الباب الرئيسيّ للفندق، فيلتفّ الجميع حوله للاستفسار عن موعد الرحلة والطريقة والسعر والأمان، فيجيب: سنخبركم فيما بعد. ثمّ يغادر الفندق، ليبقى مصير الإبحار مجهولاً هذه الليلة أيضاً، ويعمّ المكان سكونٌ رهيب.

 

 

أمام الفندق، وبعيداً عن النقاشات الدائرة في الصالة، هناك أطفال المهاجرين -بمعنى أدقّ، الذين يهمّون بالهجرة- يلعبون لعبة الغميضة، (لكم تشبه هذه اللعبة مصير أوليائهم من نزلاء الفندق!).

 

تحدّث مهندس البترول مرّةً أخرى: (أربع سنينٍ ونيّفٍ من العتمة والخوف تختصر هنا في كلماتٍ بسيطةٍ نسمعها في هذه الصالة مئات المرّات في الليلة الواحدة: "خلص مصروفنا"، "كانت الحرب قريبةً من منزلنا"، "فقدنا الدواء"، "أنقذنا أولادنا من الموت". وهكذا بجملٍ لا نهاية لها حتى بعد منتصف الليل. وما إن يغلبهم النعاس حتى يذهب كلٌّ إلى غرفته، ليكملوا الحديث في اليوم التالي، وتزداد الجمل التي تختصر كلٌّ منها مأساةً ما).

 

ردّ المحامي على كلام المهندس: (لا تنتهي المأساة ولا الخطر بالابتعاد عن الوطن، فالأطفال هنا يلعبون دون معرفة الحال الذي يقول لهم: "إنكم أصبحتم أحلاماً صغيرةً لجدّاتكم اللاتي ودّعنكم بقلوبٍ يملؤها الحزن، ولعنةٍ كبيرةٍ للقدر. ودّعتكم الجدات وهنّ يعلمن علم اليقين بأنّ أعينهنَّ لن تبصر أحفادهنّ بعد اليوم". أصبح هؤلاء الأطفال، منذ اليوم، عبئاً ثقيلاً في ذاكرات وقلوب تلك الجدّات اللاتي حلمن كثيراً برؤية أحفادهنّ. وفوق هذا كلّه يلاحق أطفالُ هذا البلد هؤلاء الأطفال في الشارع، وينادونهم بكلماتٍ غير مفهومة؛ سوري.. سوري.. هي... هي...).

 

صمتَ الجميع إثر صراخ المهرّب وهو واقفٌ في باب الفندق، يتكلّم بهاتفه مع أناسٍ تاهوا في عرَض البحر، قائلاً لهم: (خلّصوا أنفسكم من الغرق، فأنا مسؤوليتي انتهت عند الشاطئ). أما من الطابق العلويّ فيسمع الجميع بكاء طفلٍ في المهد، ينتظر السفر هو الآخر، وكأنّ بكاءه في هذه الليلة يوثّق مأساتهم بتفاصيلها الدقيقة، وينسخها في ذاكرتهم الخصبة إلى حيث الغد البعيد، أما داخلهم الحزين فقد أودعوه في مسقط رأسهم كجزءٍ من الماضي المنسيّ.

 

في معمعة تلك النقاشات أقبل ولدٌ ذو تسعة أعوامٍ مسرعاً إلى داخل الفندق، فاصطدم بالباب البلوريّ الوسيع، وكأن قذيفةً عشوائيةً من تلك التي هجّرت كثيراً من هؤلاء النزلاء قد أُسقِطت داخل الفندق، فوقف الجميع مرتعباً. تحطم البلّور وتناثرت أجزاؤه داخل صالة الاستقبال حيث يجلس النزلاء. هرع الجميع متفحّصين الولد الذي أدميَ وجهه نتيجة إصاباتٍ عديدة، وسألوه ذات السؤال: ما الذي دفعك إلى الدخول هكذا مسرعاً؟! أجاب الولد: سمعت أحدهم في الخارج يقول إننا سنبحر غداً، فأحببت أن أخبر أمي بذلك.

 

طلب مهندس البترول من شيف المطعم العائد بملكيته للفندق سندويشاً لعلّه يغيّر الحديث، فنظر إليه الشيف وقال: أنتم السوريين كظلّ الشجرة، توجدون هنا وهناك، تدورون مع دوران الشمس في كلّ مكان. ناوله السندويش وأضاف: هل أقدّم لك الشاي أيضاً؟ فهو عندنا دون مقابل. أجابه المهندس: كلا. علّقت زوجة الشيف التي تساعده: ليس وقت الشاي الآن، إنّهم مساكين جائعون، لم يأتوا إلى هنا لشرب الشاي والتمتع بمناظر بلدتنا/ ديدم. أتوا للإبحار إلى الجزر اليونانية، ومن هناك إلى ألمانيا. إنّهم هاربون من الموت. لم يعلّق المهندس على حديث زوجة الشيف بكلمة، بالرغم من ثقله على مسمعه، وهي تكرّر جملها وتزيد: إنّهم هاربون، جائعون، مساكين، مات الكثيرون منهم.

 

 ظهر المهرّب كشبحٍ بين النزلاء، فاجتمع حوله المهاجرون، وكلٌّ في فمه السؤال ذاته: متى سنبحر؟! نظر إلى الجميع: فيما بعد. ردّ على هاتفه الخليويّ، ثمّ ابتعد خطوة فخطوة عن الجمع حتى اقترب من سيارته ذات البلور الأسود الغامق، وذهب.

 

بقي هؤلاء المساكين يلتفتون إلى بعضهم، وكلٌّ يفسّر صمتَ المهرّب بحدسه الخاصّ الذي بات بوصلته الوحيدة وسط عمالقة تجار البشر وأمواج البحر التي تنذر بالهيجان في مثل هذه الأيام الأخيرة من فصل الخريف!

 

 

إنّها الليلة الأخيرة في الفندق، بحسب خطاب زعيم المهرّبين هذا المساء. إنّه الآمر الناهي في هذا الشاطئ، وكأنه مملكته الخاصة. أمر الجميع بالدخول إلى غرفهم هذه الليلة. رفض ولدٌ في الثانية عشرة من عمره أوامر زعيم شاطئ بحر إيجة، وأصرّ على الجلوس في صالة الفندق، فصفعه رئيس المهرّبين قوياً على وجهه الناعم أمام أنظار والديه وجميع نزلاء الفندق. طأطأ الأب رأسه، فتكلّمت إحدى النساء: لماذا ضربت الولد بقوّة؟! أجابها الزعيم: أنتِ حقاً جاهلة. فردّ زوجها بلهجةٍ ملؤها الغضب: زوجتي معلمة مدرسة، وهي أكثر فهماً وثقافة منك. هل سمعت؟! نادى زعيم المهرّبين أحد أعوانه وأمره: لا تضف اسم معلمة المدرسة المثقّفة وزوجها إلى قائمة الركّاب الذين سيبحرون الليلة، هل سمعت يا... قالها بغضبٍ وخرج من الفندق الذي جلس نزلاؤه جميعاً في صالته طوال الليل بانتظار أوامر الإبحار صوب أحلامهم.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard