مأزق الحركة النسوية
لمناسبة اليوم العالميّ للمرأة
جاد الكريم الجباعي
لا يفيد المهتمات والمهتمين بقضية المرأة أن يتحوّلن ويتحوّلوا إلى عالمات وعلماء آثار، لاستحضار نماذج من الماضي البعيد أو القريب، من أجل البرهنة على قدرة المرأة وفاعليتها، بما في ذلك إمكانية حضورها في الفضاء العامّ، وقدرتها على القيادة والحكم. النزعة الماضوية مرض ما يسمّى "النسوية العربية" و"النسوية الإسلامية" الملوّثتين بالأيديولوجية القومية والإسلامية، ما جعل نقدهما للبنى الذكورية، الاجتماعية منها والسياسية والثقافية، نقداً خجولاً ومتردّداً، بل لا يخلو أن تدافع كلٌّ منهما عما يسمّى هوية "الأمة" وخصائصها، وتتغنى بتاريخها وأمجادها، وما منحته للمرأة من هبات، وهذا لدى النساء والرجال تعبيرٌ عن عدم تقبل الذات وعدم تقبل العالم.
هذا المرض الذي تتشارك فيه بعض النساء وبعض الرجال هو مرض "التأصيل"، لإقامة جسورٍ وهميةٍ بين الماضي والحاضر، وملء فراغ الذات "العربية" و"الإسلامية"، وتبرير مطالب لا تحتاج إلى تبرير. فالتبرير هنا نوعٌ من تهريب المطالب أو تمريرها خلسةً من وراء ظهر السلطة المركزية والثقافة المركزية، بحجّة البناء على أساسٍ متين، انطلاقاً من تلك السلطة نفسها. لذلك كان صوت المرأة صدىً لصوت المناضلين القوميين والإسلاميين والاشتراكيين، وصارت بعض النساء مناضلاتٍ في أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة، العابرة للحدود الوطنية، تناضلن، إلى جانب الرجال، في سبيل أهدافٍ (بعيدة المدى) تتخطّى هذه الحدود، بغضّ النظر عن قابليتها أو عدم قابليتها للتحقق، مما يتناقض على طول الخطّ مع الروح الأنثوية، التي تُعنى بشؤون الحياة الواقعية، لأنها منتجةٌ للحياة، تقرن التفكير بالتدبير، والغاية بالجدوى واختيار الأفضل، وتُعنى بأدقّ التقاصيل، مثل الحياة نفسها. ما يسوِّغ القول: إن المرأة في هذه الأحزاب كانت ذكراً واهماً وأنثى خائبة، أسهم حضورها الجسديّ "المنظور" (لأن جسدها معدٌّ اجتماعياً لكي يُنظر إليه)، أسهم في منح هذه الأحزاب بعضاً من حداثةٍ وتقدميةٍ شكليتين تضاعفان غربة المرأة عن ذاتها.
فقد احتبست الحركة النسوية السورية في تنظيماتٍ حكوميةٍ أو شبه حكومية، كأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، التي توصف بأنها مقبرة الأحزاب، وفي الاتحاد النسائيّ العام، "مقبرة النساء"، وفي أحزابٍ معارضةٍ ليست أحسن حالاً. إلا أن مطلع الألفية الثالثة شهد نموّاً ملحوظاً في التنظيمات المستقلة حفزه الاهتمام بدور المجتمع المدنيّ، فأُدرجت قضية المرأة في التصوّر الإستراتيجيّ للتحوّل الديمقراطيّ، وبدأت قضية الحرية والاستقلال تشقّ طريقها بصعوبةٍ وبطءٍ، بحكم تراكمات العقود السابقة وآثارها.
ولكن لا يجوز إغفال حقيقة أن كثيراتٍ من النساء جعلن كثيرين من الرجال أفضل، من خلال التعبير عن إعجابهنّ بالصفات الحسنة والقيم الفكرية والأخلاقية والفنية والجمالية، مما يدفع الرجال إلى التحلي بهذه الصفات والتعلق بهذه القيم حقيقةً أو ادعاءً. الأنوثة مدرَّبةٌ على صناعة الذكورة وتحسينها.
من ميزات النسوية النقدية الأحدث أنها ليست نسوانية؛ أولاً، وتقوم على مبدأ القطيعة النقدية: المعرفية والأخلاقية، لا مع الماضي البعيد فقط، بل مع الحداثة والتنوير، بغية إعادة إنتاجهما وفق رؤيةٍ متوازنةٍ تتعادل فيها الأنوثة والذكورة؛ ثانياً، وأنها تذهب بخطٍّ مستقيمٍ إلى إعادة بناء قواعد السلطة، وفق جدلية المعرفة والسلطة، وجدلية الذات والموضوع، التي أشرنا إليها.
لعل جوهرية المعيار وهشاشة المثال، والتماهي به ومحاكاته في القوّة والمقدرة تقبع مجتمعةً في أساس مأزق الحركة النسوية في بلادنا واضطراب رؤيتها، وفي أساس ارتباك محاولات استقلال المرأة عن البنى والعلاقات التقليدية وسهولة نكوصها على أعقابها، كسهولة نكوص الرجل "التقدميّ" إلى وحل الطائفية المذهبية، الإثنية أو الدينية، وتبنّي موقفها من المرأة.
يحاول بعضهم حصر المشكلة في التناقض بين نموذج الأم الولّادة والمربية ومكانها ومكانتها ودورها ووظيفتها المحدودة كلها بما تمليه عليها "طبيعتها وخصوصية جسدها"، (مدبّرة منزل)[1] وبين نموذج المرأة المستقلة، التي تملك زمام نفسها، وتمارس أنوثتها الأصيلة في الفضاء العامّ، مثلما تمارسها في الفضاءات الخاصّة. هذه المقاربة تتجنّب القضايا الرئيسة، ومن أهمها مؤسسة الزواج التقليدية، وبنية الأسرة، بل العائلة، وواجبات الدولة وأرباب العمل ودور مؤسّسات المجتمع المدنيّ في حلّ ما يبدو أنه تناقضٌ بين نموذجين: أموميٌّ وعموميّ، لا سبيل إلى حله. وقد حذّرنا من تمثل المرأة السورية أو غيرها، نموذجاً عالمياً أو معولماً وطريقةً نمطيّةً في الحياة، تضيّع الفعل الحرّ والتّلقائي للذّات، ومن الانجراف القسريّ في شبكةٍ من العلاقات المؤسّساتيّة التي تتعالى عليها وتجعلها مثل ذرّةٍ تائهةٍ مجبرةٍ على الكفاح من أجل العثور على مكانٍ لها داخل هذه الشبكة.
فإذ خرجت المرأة إلى الفضاء العموميّ، مثقلةً بأعباء الأمومة وتدبير المنزل، وجدت نفسها أمام فضاءٍ جديدٍ لم تعهده من قبل، فضاءٍ يهيمن عليه الرّجل أساساً، فاندمجت فيه ببنيته الذّكوريّة، وتمثلت معاييره العامّة، دون أن تُحدث تغييراً في بنيته، أو تحتجّ عليها، على الأقلّ، "لأنّ عملاً من هذا القبيل يفترض أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ طرح سؤال الهويّة: من أنا وكيف ينبغي أن أكون، غير أنّ هذا السّؤال تحوّل إلى رهانٍ على القدرة والمقدرة: أنا أستطيع أن أفعل هذا أيضاً. أنا قادرةٌ أن أكون هكذا[2]. إن القدرة أو الاستطاعة على القيام بهذا الأمر أو ذاك لا تعدو كونها تمثلاً لنموذج الرجل. لكن العمل على تغيير بنية الفضاء العامّ يفترض القدرة على "إبداع الذات" أو تحقيقها أو إعادة تشكيلها في الفضاءين الخاصّ والعام، ولا سيّما في الفضاء الخاصّ، لأن إبداع الذات الأنثوية في الفضاء الخاصّ رائز القدرة على إبداعها في الفضاء العامّ، وتغيير بنية هذا الأخير. لذلك اعتبرنا أن تساوي المرأة والرجل في الفضاء العامّ (في الحقوق والواجبات) وعدم تكافؤهما في الفضاء الخاصّ والفضاءات الخاصّة فخٌّ يجرّد المساواة القانونية من قيمتها العملية والأخلاقية.
لا يقتصر الانشقاق الجنسيّ[3] وتجلياته على تخارج الذكور والإناث فقط، بل يتعدّى ذلك إلى انشطار الفرد الإنسانيّ ذاته، كما يتجلى في "الإنسان المقهور" و"الإنسان المهدور"، وهما مظهران للإنسان المبتور. فالطبيعة الذكورية للمجتمع وثقافته وأخلاقه، وموقفه من الأنوثة بوجهٍ عامٍّ ومن الحبّ الجنسيّ (EROS) بوجهٍ خاصٍّ، تدلّ كلها على وجودٍ اجتماعيٍّ مبتور، وحياةٍ إنسانيةٍ ناقصة، يبقى معها الاندماج الاجتماعيّ ناقصاً ومبتوراً أيضاً، وحاملاً جرثومة التسلط والاستبداد. وهذه إحدى إشكاليات المواطنة وإحدى إشكاليات الهوية، وأحد وجوه تناقضها الداخليّ. فإذ ترتبط المواطنة بالهوية، فإن الهوية بمعناها السائد هي هوية التشابه لا هوية الاختلاف، وهي، من ثمّ، تلجم حرية الأفراد المختلفين وتتنكر لإنسانيتهم، بقدر ما تتنكر للاختلاف أو تنكره. وهذا مطَّردٌ في سائر الهويات ما قبل الوطنية، والهوية الوطنية ليست بعيدةً عن ذلك، ما لم تكن هوية الاختلاف، وما لم تتأسّس على الاعتراف المبدئيّ والنهائيّ بإنسانية الفرد وجدارته واستحقاقه، وما لم تضع الأنوثة في منزلة الذكورة، دون أن تغضَّ من قيمة الأخيرة.
فما تحقق عندنا، حتى اليوم، من مساواةٍ قانونيةٍ بين النساء والرجال، ليس ناقصاً ومثلوماً فحسب، بحكم ما يسمّى "قوانين الأحوال الشخصية" والقوانين الجزائية الجائرة ذات الصلة، بل لا يعدو أن يكون نوعاً من تذكير النساء، أي اعتبارهنّ ذكوراً، والتنكُّر لإنسانيتهنّ وأنوثتهنّ. يجب علينا، هنا، أن نتساءل مع الحركة النسوية النقدية الأحدث: أليس ما أُنتج حتى اليوم من علومٍ وتقنياتٍ وبحوثٍ ودراساتٍ، في سائر فروع المعرفة والعمل، ولا سيّما العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنما أُنتج من وجهة نظر الذكور، لا من وجهة نظرٍ إنسانيةٍ متوازنة؟ يبدو أن المسألة النسوية تقع في صلب مسألة الاندماج الاجتماعيّ أو التشارك الحرّ، ويجب أن تتصدّر جدول أعمال أيّ مجتمعٍ يريد أن يبرأ من أمراضه المزمنة.
ولما كان الانشقاق الجنسيّ عميق الغور في حياة الجماعة البشرية ندّعي أن التنكُّر لإنسانية الأنثى هو أساس جميع أشكال التنكُّر والإنكار، وأساس التسلط والاستبداد، فهو ضربٌ من تنكُّر الذكور أنفسهم لإنسانيتهم، أو تعبيرٌ عن إنسانيتهم المبتورة. فليس بوسع أحدٍ أن يتسلط على الآخر ويضطهده إلا إذا جرَّده من إنسانيته جزئياً أو كلياً، (بحسب درجة التسلط). وهو، إذ يفعل ذلك، لا يدرك ولا يعي أنه يتجرّد هو نفسه من إنسانيته. فإن مسألة نقص الاندماج الاجتماعيّ، من هذا الوجه، هي مسألة نقص الحياة الإنسانية أو مسألة الإنسان المبتور. هذه الوضعية تنتج مواطَنةً مبتورةً أيضاً تجعل من الرجل نموذجاً ومعياراً ومثلاً أعلى لما ينبغي أن تكون عليه المرأة لتنال حقوقاً مساويةً لحقوقه، لا مكانةً معادلةً لمكانته وقيمةً مكافئةً لقيمته.
الرؤية النسوية، النقدية، ترمي إلى الكشف عن الجزئيّ والحصريّ في وجهة النظر الأخرى (الرجالية)، وتُظهر الخطابات الأبوية على حقيقتها، أي على أنها ليست موضوعيةً، وليست شاملةً كما تدّعي، ولا تشكل نماذج نهائيةً، بل هي أثرٌ أو نتيجةٌ للمواقع السياسية التي يحتلها الرجال[4].
ولعل أهم ما يقدّمه الخطاب النسويّ هو القدرة على كشف العلاقة بين المعرفة والسلطة، ووحدة عملية السيطرة والقمع التي تمارسها السلطة، من خلال المفاهيم الطبقية والعرقية والجنسية، وتوظيف المقدَّس، ومن خلال البنى التي تفعل فيها هذه المفاهيم، ولا سيما في النظام الأبويّ أو البطركيّ. إن إعادة الاعتبار للفرد الإنسانيّ، بصفتها وصفته أنثى وذكراً، في علاقةٍ جدليةٍ، وإعادة الاعتبار للذاتية وموقع الذات العارفة والفاعلة وأثرها في موضوع المعرفة والفعل، ولا سيما حين يكون موضوع المعرفة هو التاريخ والمجتمع؛ تكشفان هشاشة "الموضوعية" التي يدعيها الفكر الغربيّ أو العربيّ أو أيّ فكرٍ متمركزٍ على تفوُّقه الذاتيّ، بصفته فكراً رجالياً أو ذكورياً قديماً وعريقاً وأصيلاً.
القدامة (من القِدم) والعراقة (من العرق) والأصالة (من الأصل)، هذه جميعاً ليست حججاً عقليةً ولا مزايا فكرية، وليس فيها أيّ قدرٍ من الحكمة، بل هي ادعاءاتٌ أيديولوجيةٌ ومثالب أخلاقية.
تتجلى هشاشة الموضوعية الذكورية في عدم التفريق بين مفهوم المساواة أمام القانون وبين مفهوم الاستقلال الذاتيّ وتكافؤ النساء والرجال، وفي اعتراف بعض الرجال بالأوّل وتنكُّرهم جميعاً للثاني. فالمساواة الحقوقية علاقةٌ بين طرفين، بحسب مقاييس يقرّرها الرجال، ويكون فيها أحدهما هو النموذج أو المقياس للآخر. المرأة في هذه المعادلة هي الطرف الذي يسعى إلى الوصول إلى مستوى الرجل، لكي تتمّ المساواة، وتكون لها حقوقٌ مساويةٌ لحقوقه، والعكس ليس صحيحاً. "أما مفهوم الاستقلال الذاتيّ فينبع من حقّ كلٍّ من الطرفين في تقرير المقاييس أو النماذج التي تتناسب مع طبيعته ونظرته الخاصّة[5]. إن اندراج النقد النسويّ في مشروعٍ نقديٍّ تشارك فيه النساء والرجال من شأنه أن يفسح في المجال لانبثاق فكرٍ حرٍّ وخطاباتٍ مستقلة، ترفض أشكال الهيمنة، وتحتفي بالاختلاف.
[1] - يتجاهل نقاد العولمة الاقتصادية واقع أن دكتاتورية السوق، التي يراد لها أن تحلّ محلّ المجتمع المدنيّ، تحوّل الدولة إلى مجرّد مدبّرة منزل، كالمرأة تماماً.
[2] - راجع/ي: الفاهم محمد، الهويّة المزدوجة للنّسويّة المعاصرة، على الرابطhttp://www.alawan.org/article11921.html . بتصرّف، لأننا نخالف الكاتب في مفهوم الاختلاف الجذريّ.
[3] - يقصد بالانشقاق الجنسيّ تقسيم المجتمع جنسين: جنسٌ سائدٌ وجنسٌ مَسود، واعتبار الإناث في مرتبة العبيد والحيوانات، ومجبولاتٍ من طينةٍ غير طينة الذكور أو معدنٍ غير معدنهم، وقد أدّى ذلك إلى انشطار الفرد ذاته شطرين: شطرٌ سائدٌ وشطرٌ مَسودٌ ومُستعبَدٌ وعديم الأهلية، وهو ما عبّرنا عنه بالإنسان المبتور، أي الفرد الذي يحتقر بعضُه بعضَه الآخر ويزدريه. فإذ تتماهى المرأة بالرجل، وتعترف له بمكانةٍ أعلى من مكانتها (العين لا تعلو على الحاجب)، فإنما تهين أنوثتها مثلما يهينها الرجل.
[4] - راجع/ي: هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص 77.