info@suwar-magazine.org

وجوهٌ مختلفةٌ لسوريا واحدة

وجوهٌ مختلفةٌ لسوريا واحدة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

قراءةٌ في رواية "نزوح مريم" للدكتور محمود الجاسم

 

*أنجيل الشاعر

 

"يا سارة نحن نأكل المأكولات السورية نفسها، ونغني الأغاني الفيروزية والشعبية نفسها، نؤمن بالخرافات والحكايات نفسها، ونحلم ذات الأحلام، فلمَ تقف الانتماءات الدينية بوجه الزواج؟ لماذا، فهي انتماءات لم نخترها؟ سوريا استوعبت كل الأديان ومزجتها بطريقتها السورية. أراهن لو أي سوري بحث في شجرة نسبه لوجد الأديان كلها تجري بدمائه. إنها سوريا" (ص 100)

 

للأزمة السورية حكايةٌ طويلة، أكبر من أن تجمع بين دفتي كتاب. وأحلام السوريين، التي ضاعت بين اللحى الطويلة وبراميل النظام، أكثر جمالاً من اللغة المكتوبة أو المحكية. بينما اللغة السهلة والسريعة والتلقائية، التي توحي بمشاهد تعبيريةٍ وتسهم في استنطاق الجماد والحيوان، لغة الدكتور محمود الجاسم، من مواليد الرقة والأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية بجامعة قطر؛ أضفت على روايته "نزوح مريم" جماليةً أنيقةً تشد القارئ العارف بالأزمة السورية إلى معرفة المزيد بشغفٍ ومتعةٍ بالرغم من قسوة الحدث.

 

قد تبدو أحداث الرواية سرداً لمجريات "الأزمة" وتسلط قوى الأمر الواقع في محافظة الرقة، لكن همّ الكاتب في مكانٍ آخر، تكشفه لنا شخصيات الرواية التي تختزن كلٌّ منها حكايةً سوريةً يتصادى فيها الواقع والتاريخ، وتشفّ كلٌّ منها عن وجهٍ من وجوه سوريا البلد والشعب، حيث يتناغم الإنسان والطبيعة والمجتمع في فعلٍ واحدٍ خلاقٍ هو الحب، الذي من دونه لا شفاء للوطن ولا خلاص للإنسان.

 

تجري أحداث الرواية في الرقة. "سارة" المسيحية، ابنة "محردة" بريف حماة، تتزوج "هاشم" ابن الرقة، البدويّ المؤمن بالتعددية الدينية والفكرية وبالمساواة. يتعارفان أثناء عملهما في مكانٍ واحدٍ "مزرعة النجاة"، هي مدرّسة اللغة الإنكليزية وهو المهندس مدير المزرعة. تتقبّل "خديجة" أم هاشم زواجهما بكثيرٍ من الرضى والمحبة، وهي أيضاً من أمٍّ أرمنيةٍ مسيحية. "بشير" أخو هاشم، أمين شعبة حزب البعث في الرقة، مختلفٌ عنه فكرياً، وحاز عصاً كهربائيةً لشلّ حركة المتظاهرين منذ أول يومٍ وصلت فيه أصوات الاحتجاجات إلى الرقة، لا يتطلع إلا إلى منصبٍ يرتقيه. زواج المسيحية والمسلم يثمر طفلةً اسمها "مريم"، ستكون بطلة الرواية العميقة، المستمعة إلى سرد الحكاية من أمها "سارة" البطلة الثانية والشاهدة على كل ما يجري من آلامٍ وقهرٍ وتعذيب، واغتصابٍ للأرض والنساء، من غليانٍ أصاب الدم جرّاء هدر الإنسان وانتهاك الكرامة وضياع الإنسانية فوق أرضٍ اختنق فيها الهواء وتسمّم تحت الرايات الرسمية والألوية الدينية المتناحرة. ما صوّره الكاتب من طوفانٍ ليس خيالاً، بل واقعٌ مريرٌ جرف وما زال يجرف سوريا شعباً وأرضاً وحجارةً نحو هاوية المجهول.

 

تقوم الرواية على أربعة فصول، منسجمةٍ ومتناسقةٍ ومتماسكة، مرتبطةٍ بإتقانٍ بالجغرافيا والتاريخ، والتسلسل المنطقيّ للأزمة السورية. "عود الخيزران"؛ "أيام المولية"؛ "على كتف العاصي"؛ "سمك القرش" تتوالى فيها أحداثٌ معروفةٌ ومألوفة، ساخنةٌ وسريعة، تزيد من تشويق القارئ وإثارته وإن كان معايشاً لتلك الأحداث ومعاصرها. يصوّر الكاتب أحداث الرقة بكل تفاصيل الحياة الإنسانية، النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كما أدخل على تلك المنطقة منظومةً فكريةً تدعو إلى التعايش السلميّ والتسامح وقبول الآخر بكلّ ما يحمله من خصائص مختلفة، كالدين والسياسة والعرق. تبدأ الرواية مع بداية الأحداث في الرقة، ترويها "سارة" لابنتها "مريم"، ثم تتصاعد بدخول "داعش" إلى المدينة. تصوّر لها مشاهد القتل والدمار من جهة، ومشاهد المظاهرات السلمية التي تُقابَل بالرصاص والاعتقال من جهةٍ أخرى. وبين المشهدين تنتقل "سارة" إلى الماضي الجميل التي عاشته مع "هاشم" فتسرد قصة حبهما وزواجهما رغم معارضة أهلها. وفي كلتا الحالتين على القارئ أن يكون حاضراً للانتقال المفاجئ والسلس بين ماضٍ جميلٍ مليءٍ بالحب والاحترام وسط أسرةٍ تعترف بالإنسان وتحترم اختلافه، وحاضرٍ أليمٍ فُتحت عليه أبواب الجحيم، من سلطة الدولة التي مارست كل أنواع الظلم والاستبداد، وسلطة "داعش" التي مارست كل أنواع التطرف الدينيّ، والبطش والقتل والتعذيب، وفرض السيطرة على ممتلكات الشعب الذي حُصر بين فكّي كماشة الحرب.

 

بحلول عام 2011، وانطلاق شرارة الثورة من دمشق والعديد من المحافظات السورية، ظنّ "سارة" و"هاشم" أن "الرقة" ستنأى بالنفس، وتبقى تنعم على ضفاف الفرات بنومٍ هنيء. لذلك ظلت "سارة" تتغنى بذكرياتها الجميلة في مزرعة النجاة وحبها "لهاشم" كلما خنقتها فجائع الحاضر، إلى أن دخل عليها زوجها في ربيع عام 2012 منقبض الوجه والروح ليخبرها أن البلاء وصل إلى الرقة، وفي الحقيقة وصل البلاء إلى بيت "هاشم" إذ اعتقله تنظيم "داعش" لظنهم أنه أخوه "بشير" الشبّيح حسب تعبيرهم، وموت الأم "خديجة" حسرةً على المصير المجهول لابنها واختفاء "بشير" وتعرّض "سارة" للغطٍ اجتماعيٍّ فظيعٍ ونبذها من قِبَل المجتمع الإسلاميّ الجديد على أنها النصرانية الكافرة. حتى أجبرها هذا الوضع المأساويّ على العودة إلى "محردة" مسقط رأسها، بطلبٍ من أهلها وبمساعدة جارهم "سالم" ووالدته، اللذين يمتلكان من الطيبة الريفية والشهامة ما يكفي لإغاثة الملهوف.

 

تصل سارة إلى "مسكنة"، ومنها، وبمساعدة أصدقاء قدماء، تصل إلى "محردة". تصاب "مريم" بصدمةٍ نفسيةٍ جرّاء ما جرى أمام عينيها من تعذيب والدها من قِبَل "داعش" وما رأته من أهوالٍ في الطريق الطويلة أثناء سفرها برفقة والدتها. يموت والد "سارة" فتقرر الهجرة إلى "فرنسا" حيث صديقتها "رنا". تخوض "سارة" مغامرة الهجرة بكافة أنواعها من تعرّضٍ للاغتصاب والضرب والإهانة إلى التخبط في مياه بحر "إيجة" حيث تتعرّض للنصب والاحتيال من المهرّبين تجّار البشر والدم، ملوك الحرب، فينتهي بها المطاف وابنتها في أحد مخيمات اللجوء على الحدود التركية السورية. تموت "سارة" إثر نزيفٍ حادٍّ في المعدة، ويعود "هاشم" هارباً من سجون "داعش" ليلتقي ابنته "مريم" آملين بغدٍ جديد.

 

من خلال أحداث الرواية، ومع شخصياتها التي تبدو لك حقيقية، وهي بالطبع حقيقية مهما اختلفت الأسماء والأديان والألوان؛ نرى ما يخفيه الكاتب خلف سطوره بدلالةٍ لغويةٍ تفسر الظواهر الاجتماعية والسياسية في المجتمع السوريّ. ينقلها بصورةٍ مصغّرةٍ وشخصياتٍ مختلفة، يرصد أفعالها وردّات أفعالها، يصوّر آلامها وآمالها: الأم "خديجة" بإسلامها الذي لم يكن حائلاً بينها وبين مسيحية "سارة" المحتفظة أيضاً بدينها ومعتقدها؛ "هاشم" الشريحة المعارضة لكل ما يجري من أحداث، صامتٌ، رافضٌ للعنف، يحاول الحفاظ على السلم الأهليّ وحقن الدماء؛ "بشير" المؤيد، المتسلق على جثث الشعب للوصول إلى غايته (كرسي في مكانٍ ما) وإرضاء رؤسائه؛ "سارة" سوريا الحاضر، الوحيدة، المهاجرة، النازحة، المتدفقة ألماً وقهراً وظلماً، حاضر يموت يوماً ليولد مستقبلاً يشرق في عيني "مريم" سوريا جديدةً واعدة، تعود لتحتضن الاختلاف وتعترف به، وتوحد الأديان، تؤمن بالتعددية والمساواة. وهروب هاشم من سجون داعش يعني انتصار الشعب السوريّ بقوة إرادته وتصميمه على تشكيل ذاته من جديد.

 

"نزوح مريم" زلزالٌ في الرواية السورية كما أطلق عليها الكاتب السوري "نبيل سليمان"، كما أنها ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية.

 

.

.

 

اقرأ المزيد للكاتبة..

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard