info@suwar-magazine.org

سوريا: "علمانيةٌ" زائفةٌ وخطرٌ أصوليّ

سوريا: "علمانيةٌ" زائفةٌ وخطرٌ أصوليّ
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 *طارق عزيزة

 

 

مقدمة

 

على مدى عقودٍ من الاستبداد، كان ادّعاء "العلمانية" وما يزال أحد الأدوات الهامّة التي استخدمها النظام السوريّ واستثمر فيها لتسويق حكمه. كما سعى عبر ذلك إلى الظهور بمظهر "حامي الأقلّيات" في مواجهة التطرّف الإسلاميّ، لاسيّما في الدوائر الغربية، وإلى حدٍّ بعيدٍ في أوساط "الأقليات" في المجتمع السوريّ، ثم الترويج لخدماته في مرحلةٍ لاحقةٍ كشريكٍ يُعتمد على "خبراته" المتراكمة في محاربة الإرهاب، و"أنّه يعمل ضد انتشار الأصولية الإسلامية في المنطقة، مستمدّاً شرعيته جزئيّاً من الصراع ضدّ هذه القوى الراديكالية"[1].

 

واظبت آلة النظام الدعائية و"علاقاته العامة" المتينة على دعم هذا الادّعاء بشتى الوسائل، ومنها استحضار صراعه الدمويّ مع الإسلاميين، والقيام من وقتٍ لآخر باستذكار شعاراتٍ قوميةٍ بما فيها من علمنةٍ مفترضة، رفعها "حزب البعث"، الغطاء الأيديولوجيّ المزمن للنظام.

 

 

نجحت دعاية النظام إلى حدٍّ بعيدٍ كما يبدو. ذلك أنّه إلى جانب مرتزقةٍ ومأجورين كثر يقفون في صفّه، ليس من الصعب أن تجد اليوم ساسةً وكتّاباً وصحفيين غربيين وعرباً، مقتنعين فعلاً بمزاعمه العلمانية، وعلى الرغم من جرائمه المستمرّة بحقّ الشعب والحالة الكارثية التي أوصل البلاد إليها، يروّجون له ويدافعون عن بقائه استناداً إلى تلك المزاعم، بحجّة رفضهم أن يحلّ المتطرّفون محلّ "النظام العلمانيّ الوحيد في المنطقة"!

 

ولكن، هل هذا النظام علمانيٌّ حقّاً؟

 

تمهيدٌ لا بدّ منه

 

ليس هذا مجال الخوض النظريّ والتاريخيّ في موضوع العلمانية، فالعودة إلى المراجع فيه متاحةٌ لمن يرغب. ما يهم في سياق المقال هو التأكيد، بإيجازٍ شديد، على مسألتين جوهريتين يقود إليهما تتبّع التطوّر الدلاليّ، الاصطلاحيّ والمفهوميّ، للعلمانية، وما استقرّ عليه استخدام اللفظ ومعناه، في الفكر السياسيّ وفي التجارب العملية الأكثر نجاحاً، ومعاينة "علمانية" النظام في ضوئهما وقياسها عليهما، فإنّهما تشكّلان تكثيفاً لجوهر العلمانية، ويمكن اعتمادهما معيارين أساسيين، قياسيين، تسقط الصفة "العلمانية" عن أيّ نظام حكمٍ أو دستورٍ لا يلتزم بهما.

 

المسألة الأولى تكثّفها العبارة الشهيرة "فصل الدين عن الدولة"، بما تعنيه من إلغاء دور الدين في السياسة، والفصل بين المجالين الدينيّ والدنيويّ، والحدّ من تدخّل الدين في شؤون البشر وحياتهم الدنيوية. ويمكن تلخيص المسألة الثانية في مقولة "دولة المواطنة المتساوية"، بوصفها مجالاً عامّاً، ودولةً لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي ودون تمييز بينهم، بما تنطوي عليه من خصائص العمومية والحيادية، ودون مفاضلةٍ بين الأفراد والجماعات، فهي حياديّةٌ حيال انتماءات الأفراد ومعتقداتهم الدينية والدنيوية.

 

"علمانية" النظام الزائفة

 

منذ استيلائهم على السلطة "يتكئ البعثيون على العشائر والصلات الدينية لتدعيم حكمهم، لا وحدها بل بما هي ركيزة أساسية"[2]، في سلوكٍ ينافي مبادئ العلمنة، ودون مراعاةٍ للقشرة الأيديولوجية القومية التي غلّفت نظامهم العسكريّ الشموليّ، أو لـ"التقدّمية" التي نسبوها لأنفسهم. لم تدم مرحلة "ديكتاتورية الحزب" طويلاً، إذ انتهت الخلافات والتصفيات داخل النظام العسكريّ/البعثيّ الناشئ إلى "ديكتاتورية الفرد"، بسيطرة حافظ الأسد على الحكم (تشرين الثاني 1970)، وانفراده بالسلطة على رأس الجيش والحزب والدولة، حتى وفاته (حزيران 2000) وتوريث الحكم لابنه بشّار.

 

أسّس الأسد الأب نظاماً رئاسياً يمنح "رئيس الجمهورية" صلاحياتٍ مطلقة، وفق "الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية"، الذي نصّت مادّته الثامنة على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع[3]. هكذا، اختُزلت الجمهوريةُ إلى "دولة البعث"، وهو ما وصفه المفكّر جاد الكريم جباعي بـ"هدر الدولة في سورية"، الذي أدى إلى هدر المواطنة، وهدر الوطن والمواطن وهدر الإنسان، "دولة الحزب، ثم دولة طغمة فاسدة ومجردة من أي قيمة وطنية وإنسانية وأخلاقية وعارية من أي مشروعية"[4].

 

قياساً على معياري العلمانية السابقين، فإنّ دستور الأسد تضمّن نصوصاً تتناقض في ما بينها، وتدحض بشكلٍ قاطعٍ مزاعم القائلين بأنّ سوريا يحكمها "نظامٌ علمانيٌّ". فالفقرة الأولى من المادّة الثالثة نصّت أنّ "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، أي أن الانتماء إلى دينٍ محدّدٍ عاملٌ حاسمٌ في اختيار من يشغل أهمّ منصبٍ في نظام حكمٍ رئاسيّ. وتتعارض هذه الفقرة مع المادة الخامسة والعشرين، لاسيّما فقرتها الثالثة: "المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات"، والفقرة الرابعة: "تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين". فكيف تتساوى الحقوق والواجبات في بلدٍ لا يجيز دستوره لغير المسلم تولّي منصب الرئاسة، مع وجود مواطنين من أديانٍ مختلفة؟ إلى ذلك، أعطت المادة الثالثة مكانةً تفضيليةً للدين الإسلامي بأن عدّت الفقه الإسلاميّ مصدراً رئيسياً للتشريع، في حين يفترض بالعلمانية في أبسط صورها الفصل بين شؤون الدين والدنيا.

 

 

وحصرت المادة الثامنة قيادة البلاد بحزب البعث: "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية"، فتتناقض مع عموميّة الدولة وحياديتها وتلغيهما، بتخصيص الدولة لحزبٍ بعينه، وجعل أيديولوجيته أيديولوجيا للدولة التي تفترض العلمانية حياديتها حيال العقائد كافة.

 

ما سبق لا مجال معه للحديث عن نظامٍ علمانيٍّ مطلقاً، فلا يجوز في العلمانية اشتراط الانتماء إلى دينٍ ما لشغل منصبٍ عامٍّ أيّا كان، ومهما تكن "النسب المئوية" لتوزّع مواطني الدولة على الديانات والمذاهب. إنهم مواطنون متساوون، بهذا يُعرّفون وليس بانتماءاتهم ما قبل الوطنية/المواطنية. كذلك الحال مع تمييز حزبٍ وأتباعه عن سواهم من المواطنين، أيّاً كان هذا الحزب، فهذا يناقض مبدأي المساواة بين المواطنين، وحيادية الدولة وعموميتها.[5]

 

 

أما "الدستور الجديد"، الذي جاء ضمن "الإصلاحات السياسية" الشكلية، كإحدى محاولات النظام لاحتواء الثورة، فرغم خلوّه من "المادة الثامنة" السابقة وإلغاء "الحقّ الحصريّ" لحزب البعث في قيادة الدولة، غير أن التمييز بين المواطنين استمرّ على أساسٍ دينيّ، وأيضاً إعطاء دورٍ تشريعيٍّ للدين. تنصّ المادة الثالثة من الدستور الحالي: "دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسيٌّ للتشريع". وزاد في الطنبور نغماً إضافة فقرةٍ خلا منها الدستور السابق، تنصّ أنّ "الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونةٌ ومرعية"، علماً أنّ قوانين "الأحوال الشخصية" في سوريا تقوم بالكامل على المرجعيات الدينية للطوائف حتى قبل هذه الدستور، وهو مما يطعن أيضاً في علمانية النظام المزعومة، غير أنّ إدراج ذلك في الدستور يعني تأكيداً دستوريّاً على الهويات ما قبل الوطنية/ المواطنية للأفراد، والنظر إليهم لا كمواطنين مستقلين وإنما كأعضاء في طوائف دينيةٍ مختلفة، والإقرار بسلطةٍ دينيةٍ تدير أحوالهم الشخصيّة، في تناقضٍ مع المواطنة المتساوية وسيادة القانون الوضعيّ، بما هما خاصّيتان أساسيّتان للعلمانية.

 

مقاولةٌ دينيةٌ/ سياسية

 

 

لا تقتصر المطاعن في علمانية النظام المزعومة على الشق الدستوريّ والقانونيّ وإنما يتكشّف زيفها أكثر فأكثر في الممارسة العملية. ففي الوقت الذي واجه المعارضة الإسلامية بالحديد والنار وألقى بمعارضيه من الأحزاب اليسارية في المعتقلات، أبدى الأسد تساهلاً ومراعاةً كبيرين لمظاهر الأسلمة في المجتمع، وإنّ العدد الهائل من المساجد التي بنيت بأموال الحكومة في عهد الأسدين، ومواظبتهما على الصلاة في المسجد بمواكبةٍ إعلاميةٍ في المناسبات الدينية، و"معاهد الأسد لتحفيظ القرآن" هي جزءٌ من ذلك. بل إنّ الأسد الأب نجح في ثني السعودية عن دعم الإخوان المسلمين خلال مواجهات الثمانينات، وسمح لها بالمقابل بتأسيس مدارس للقرآن، ومنظماتٍ خيرية، ومساجد في سورية[6]. وتكمن المفارقة في أنّ معارضي النظام الإسلاميين قد عارضوا في البداية علمانيته المزعومة لا استبداده. وخاض الإخوان المسلمون مواجهتهم المسلّحة الأولى ضدّ نظام البعث لهذا السبب، حين شهدت سوريا في ربيع عام 1964 موجة اضطراباتٍ وقع أعنفها في مدينة حماة، تحوّلت إلى جهادٍ دينيٍّ مسلّح، وأعلن الإخوان أنّ حكم "البعث الكافر" إهانةٌ للذات الإلهية، وأن القضاء عليه هو تكليفٌ شرعيٌّ للمسلمين[7]. كل ذلك قبل أن تبلغ ألاعيب النظام على الوتر الطائفيّ شأواً فجّر التناقض الطائفيّ، ليغدو المحرّك الأساسيّ لصراع الإسلاميين ضدّ الأسد والنظام "النصيري"، كما دأبت أدبياتهم على وصفه خلال مواجهات الثمانينات[8]، وكذلك على نحو ما هو رائجٌ لدى جهاديي هذه الأيام.

 

ولا يقلّ أسلمةً وتطييفاً للمجتمع أنّ تحالف الأسد مع إيران الإسلامية أتاح لنظام "الولي الفقيه" إرسال بعثاته التبشيرية وتمويل حملات التشيّع في سوريا، وصولاً إلى ما يجري اليوم من تقاطر الميليشيات الشيعية من أجل "الجهاد" في سوريا ضد "المجاهدين" السنة!

 

خاتمة

 

إن الملامح العلمانية في سوريا لها تاريخها، ثقافياً واجتماعياً، ولم تكن يوماً "إنجازاً" للنظام بل على العكس تراجعت بشكلٍ ملحوظٍ بفعله، وقدّم ادعاؤه العلمانية نموذجاً سيئاً يستخدمه خصوم العلمانية دوماً لمحاربتها. لقد كانت مظاهر العلمنة في المجتمع والابتعاد عن التشدد (في المأكل والمشرب والملبس والزيجات المختلطة..) سمةً رافقت التسامح الدينيّ والاجتماعيّ النسبيّ في سوريا مقارنةً مع دول الجوار، وهي اليوم مهدّدةٌ بشكلٍ كبيرٍ نتيجة ازدهار مشاريع الجهاديين والتكفيريين، سنّةً وشيعة، على "أرض الشام".

 

سيكمل هؤلاء المجانين ما بدأه النظام في القضاء على ما تبقّى من إمكانيات التسامح والعيش المشترك، ومن حلم شبّان الثورة الأوائل بتأسيس دولة مواطنةٍ حديثةٍ لجميع مواطناتها ومواطنيها.

 

 


 [1] كارستين ويلاند، سورية الاقتراع أم الرصاص، ترجمة د. حازم نهار. رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى أيار 2011. ص 39.

 

[2] المصدر نفسه، ص92. ومن المراجع الشهيرة حول هذا الجانب من حكم البعث كتاب "الصراع على السلطة في سوريا"، لمؤلفه نيكولاس فان دام.

 

[3] أُقرّ باستفتاءٍ في 12 آذار 1973، واستمر العمل به حتى شباط 2012 وإقرار الدستور الحالي، الأقرب إلى كونه تعديلاً على الدستور السابق منه إلى أن يكون دستوراً جديداً، إذ حافظ على معظم الموادّ ولا سيّما تلك المتعلقة بصلاحيات الرئيس.

 

[4] جاد الكريم جباعي، من الرعوية إلى المواطنة. أطلس، بيروت، الطبعة الأولى 2014، ص 25.

 

[5] ينطبق هذا الكلام على الدول الشيوعية وحكم الحزب الواحد أيضاً. وهي، بالمناسبة، لم تكن دولاً علمانية، خلافاً لما يشيعه خصوم العلمانية في تعمّدهم الخلط بين العلمانية والإلحاد. فالدول الشيوعية لم تقم بـ"فصل الدين عن الدولة"، ولم تكن دولة لجميع مواطنيها، بل على العكس من ذلك، حصرت الحكم بـ"حزب الطبقة العاملة" فألغت عمومية الدولة، وتبنّت عقيدة "إلحادية" ناصبت الأديانَ العداء ودخلت في معركة ضدها فلم تكن محايدة حيال الأديان والعقائد، وهي، بالتالي، "لم تكن دولاً علمانية حقيقية، بل متأدلجة علمانيًّا، وقد حاربت الدين. الدولة العلمانية الحقيقية لا تحارب الدين، بل تتيح حرية الدين للجميع"، وفق تعبير الراحل جورج طرابيشي.

 

 

[6] سورية الاقتراع أم الرصاص، ص 176. في المصدر نفسه يذكر الكاتب "وفقاً لتقديرات إسلامية" أن السعودية ضخت 1,5 مليار دولار لنشر الوهابية في سوريا والأردن ولبنان. ومعلومٌ أن شيئاً كهذا لن يمرّ في بلدٍ محكومٍ بقبضةٍ أمنيةٍ فولاذيةٍ كسوريا من دون علم النظام وموافقته.

 

[7] كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، دار النهار، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، ص 542.

 

[8] كثيراً ما استعملوا هذا الوصف في نشرتهم "النذير".

.

.

اقرأ المزيد للكاتب ..

 

 

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard