info@suwar-magazine.org

جهاديّون وحكومات والحضارة الغارقة

جهاديّون وحكومات والحضارة الغارقة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

*هوازن خداج

 

أسباب متعدّدة أكّدت صعوبة التعامل مع الجهاديّين الإسلاميّين وعلى رأسها أن الأديان شكّلت عنصراً تكوينيّاً للمجتمعات المشرقيّة التي لم تكن يوماً متحرّرة كلّياً من أيّ دين أو معتقد أو فكر غيبيّ، وقد شكّل الدين الإسلامي بالنسبة للمسلمين العرب أساساً بنيويّاً ولّدته الحضارة الإسلامية وثورة الإسلام الفكرية والاجتماعية التي أنتجت فكرة الأمّة العربية الإسلامية ودخول الإسلام النسيج الاجتماعي للمنطقة العربية، والذي أدّى لاعتبار الإيمان أحد الشروط الأساسية للمواطنة في هذه الأمّة الإسلامية والخروج عنه له عواقب، هذا الخلط البنيويّ بين دور الدين ودور الحضارة واكب معظم تيارات الإسلام السياسي في توجّهها نحو إغراء النجاح التاريخي للحضارة الإسلامية.

 

 

الحضارة ظاهرة إنسانية تعبّر عن خاصّيّة الإنسان في بحثه الدؤوب لتجاوز الواقع بهدف الوصول إلى الأفضل، وتستند إلى مجموعة قيم متناسقة من الخصائص يكون فيها الإنسان قادراً على تخطّي علاقته مع ذاته ومع الواقع، ويعيد صياغة نفسه بما يتلاءم مع حاجاته المتجدّدة والمتطوّرة، وإن كان للدين علاقة وثيقة بالحضارة على مستوى البناء والتوجيه، فإن هذه العلاقة تتجسّد بشكل فعليّ من خلال علاقته بالإنسان بوصفه أبرز عناصر الحضارة، وإن محاولة حركات الإسلام السياسيّ الاستعاضة عن الإنسان الفاعل بقوّة إرادته إلى الإنسان الفاعل بقوّة الدين، ما هو إلا نتيجة لخلط المفاهيم الدينية والتراثية والاجتماعية التي أفرزتها عهود الانحطاط والتخلّف المديدة، حيث للإله أدوار يقوم بها عبر التدخّل اللحظيّ لإدارة العالم، ومنها قدرته على حلّ مشكلات المسلمين في حال عودتهم وثباتهم في الزمن المنصرم، وهذا ما ينتجه التحوير الذي تتعرّض له الأحداث الماضية لدى استرجاعها، فالتاريخ يبدو أكثر وضوحاً وانتظاماً في كتب التاريخ ممّا هو في الحقيقة التجريبية الواقعية، فحركات الإسلام السياسي شكّلتها نكسة المجتمعات الإسلامية، والتي نسبتها لغياب تطبيق الشريعة بدل ردّها إلى الانعطافات الحادّة والمتغيّرات الكبيرة في بناء الحضارة والإنسان والتغيّرات في فهم دور الأديان في المجتمعات البشريّة وهو ما تفرضه حقائق العصر والوجود الإنساني فيه ومتجاهلة أن النظريات مسبقة الصنع والحضارات الفائتة مهما بلغت من تطوّر لن تناسب عصر التطوّر المعرفي والعلمي هذا، مثلما لا يناسبه الاستمرار في التخلّف والتهاوي مع التغنّي والكلام عمّا كان، فوجود الأمم في هذا العالم يتلخّص بما تقدّمه من جديد  للحضارة البشرية.

 

سوء استخدام الدين كمحرّض لبناء إنسان فاعل وقادر على السموّ بدينه واتّخاذه وسيلة للانغلاق على الذات تركت آثارها في رفض العيش بالواقع والعمل لتحسينه، وهذا ينطبق على كافّة أبناء هذه المنطقة، فقد حكم عليهم الرضوخ لسلطتين، سلطة سياسية تسيطر عليهم بقوّة القمع مستخدمة الدين ليكرّس سلطتها "عدم الخروج على الحاكم" " أعطِ مال قيصر لقيصر"..، وسلطة دينية تسيطر على تقييمهم لأمور دنياههم من خلال المنظار الديني، وتحرمهم كينونتهم، وما نموّ الفكر العنفيّ لدى التنظيمات الجهادية إلا نتيجة الاصطدام مع الأنظمة السياسية وقمعها الشديد ونفي الإسلاميين من المعادلة السياسية في بعض الدول، الذي أعطاها مبرّرات الوجود والانتشار، وأكسبها على اختلاف رؤيتها وفهمها الخاص للنصّ الدينيّ المزيد من الدمويّة.

 

فالمحدّدات التي تعتمدها الحركات الجهادية في توحيد الأفعال ورفض الفروع أفرزت الشخصية المتعصّبة العنفية المبالغة في تقييم المعلومات الواقعية واعتبار كل ما يعيشه الأفراد هو خطأ يجب تصحيحه، فهي تنظر إلى الدين من منظار قبليّ يتمّ فيه إلغاء الخبرة الإنسانية في صياغة التوجه لله، وفي استخدامها لمجموعة صفات لوصف العنصر البشري بالكامل ( كافر، مؤمن، مرتدّ) مع تجاوز الفروقات الفردية بين الجماعة البشرية الواحدة، ورفض العلاقات مع الآخر في المجتمع وما قد يجمع بين أبنائه من روابط مؤسّسية وتحويل الجميع إلى أعداء يجب محاربتهم والتي تظهر ضيق النظر الفكري والسياسي الذي لم يضع في حسبانه أن الأخطاء في تجاوز الحاضر والركون إلى الماضي قد تقود إلى عواقب قاسية على المجتمعات وعلى الدين الذي جرى استخدامه.

 

التنظيمات الجهادية على اختلافها وما قدّمته من أفعال أو تصوّرات لحياة البشر، أو فيما يدّعون بأنهم "الإسلام الحقيقيّ" لم تقدّم أي نصرة للدين الإسلامي ولم تُعْلِ من شأنه في حياة البشر، إنما تنمو كأشواك غذّتها عصور الانحطاط لتعتلي جسد حضارة سابقة وتعمل على تشويه قِيَمها بفكرها السياسي العقيم، وبالمقابل أظهر ردّ فعل الحكومات قصور الرؤية في آلية التعامل معهم والتي اتّخذت الإبادة نهجاً بدل فتح آفاق العدالة على المستوى المحلّي والعالمي والبحث عن حلول اجتماعية وسياسية لوجودهم كظاهرة عنفيّة سياسية تقوّيها الأزمات مادامت منابعها حيّة فاستعادة الحضارة يتطلّب معالجة القضية بفكر ووعي من قبل مجتمعات أرهقتها حال التخلّف المديد، وتؤلمها حالة الغرق الحالي.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard