info@suwar-magazine.org

دمشق .. طيران فوق عشّ المجانين

دمشق .. طيران فوق عشّ المجانين
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 

*سناء إبراهيم

 

 

لم تنعكس المشاكل النفسيّة التي سبّبتها الحرب السورية زيادة في عدد المراجعين إلى عيادات الطبّ النفسي، فالأمراض التي أنتجتها الحرب من اكتئاب وفصام وقلق لم تدفع المرضى من المتسكّعين في الطرقات وبائعي الأرصفة وأصحاب المحالّ التجارية كما شباب وشابّات الجامعات إلى المشافي النفسيّة، على العكس من ذلك ، بقيت العيادة خالية إلا من الطبيب الذي أخبرنا بأن تردّد المراجعين إلى عيادته قد انخفض بنسبة 50 % بعد الحرب.

 

في العام 2008، زرنا مشفى ابن سينا للأمراض العقلية في دوما، استقبلتنا يومها أصابع إيمان الممدودة من تحت الباب المقفل وهي تنادي: "اعطوني 25 ليرة". لم أعطها يومها 25 ليرة لكني التقطت صورة لأصابعها الخمسة الممدودة، بعدها بـ سنة أضعتُ أصابع إيمان وبعدها أضاعتْ الحرب إيمان.

 

لا نعلم اليوم ما الذي حلّ بإيمان كما لا نعلم ما الذي حلّ بمجانين ابن سينا، كل ما تبقّى في الذاكرة هو سؤال رشقتنا به إيمان لدى دخولنا القسم المخصّص للنساء: "أنتو من وين جايين .. من عند عبد الرؤوف الكسم"؟. همس لي صديقي يومها أن من أخذ عقل إيمان سيأخذ عقول من تبقّى قريباً وقريباً جدّاً . في 2011 وقع الانفجار وأصبح هناك مئات من إيمان بفارق بسيط، أن إيمان كانت حبيسة المشفى، أمّا مجانين اليوم فتعثر عليهم بين الخطوة والخطوة وتتعثّر بهم في الطرقات وعلى الأرصفة وفي جوار المقابر.

 

 

"راسي قدّ البطيخة عم يوجعني كتير، شو مشتهي أنو ينفجر". ينهي أبو الشوارب كلامه ويبدأ بعدها بصراخ لا ينتهي وهو يعصر رأسه بين يديه كما يعصر ليمونة . لديه رغبة كبيرة أن يبوح ، لكنه لا يستطيع إلا أن يصرخ بصوت مرتفع . ثلاث سنوات مرّت عليه دون أن يحلق شعره وأظافره ، كيس النايلون بما فيه من ملابس متّسخة هو الشيء الوحيد المهمّ بالنسبة له ، فهو يدافع عنه بشراسة إذا ما حاولت الاقتراب منه أو أخذه. "أبو الشوارب" دائم الدوران ، يقيس الشارع بالسنتيمتر عشرات المرّات يومياً، لا يستطيع أن يتوقّف كما أخبرنا عنه مجاوروه في جوار مشفى المجتهد ، لأنه يخاف التوقّف . التوقّف يعني الشرود والشرود بالنسبة له يعني العودة إلى الماضي قبل ثلاث سنوات من الآن ، هناك ، حيث فقد اثنين من أولاده ، أحدهما في اشتباكات مع مقاتلي المعارضة في جوبر وآخر في حلب.

 

 

"سمر" أيضاً تدور ، لكنها تدور في ساحة الأمويين ، تقف دائماً أمام الباب الرئيسيّ للهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون. أخبرنا أحد عناصر الجيش المتواجدين هناك أن سمر تقدّم لهم السكاكر في كل مرّة تأتي فيها، تتحدّث معهم، تنتقل بعدها إلى عناصر الشرطة الواقفين على إشارة المرور في الطرف المقابل للهيئة، تقف معهم، تضحك، ترقص، غير آبهة بمن يتّخذها فرجة له، فالجنون لا يستحقّ الفرجة كما يُحكى عن جنون سمر، الجنون يستحقّ انحناءة رأس وخجل وقليل من الألم . "فقدت سمر (33 عام ) وَلَدِيهَا وعقلها ولم تفقد عمرها، أيّة عدالة هذه "؟ يقول شرطيّ المرور قبل أن ينفخ في صفارته.

 

فصام الناس والأمكنة:

 

أينما ذهبت ستتعثّر قدمك كما رأسك بفصام الناس والأمكنة. في الطريق إلى مقبرة السريان الأرثوذكس في باب شرقي يقود حيّان السيارة التي تنقل جثمان أحد المقاتلين . عند الوصول إلى المقبرة يترجّل حيّان ليشارك المشيّعين هزّ أكتاف النعش قبل الدفن ويقوم بواجب العزاء، في طريق العودة إلى البيت ، يدخل حيّان إحدى صالات الأفراح ليشارك في هزّ الخصر وإطلاق الزغاريد احتفالاً بزفاف صديقه العريس الشاب. حيّان لا يعاني الفصام كما يقول، "هو يمثّل حال السوريّين، كيف يخرجون من دائرة الموت ليدخلوا دائرة الخلق التي تنتهي بالموت مجدّداً"، ليكون حال السوريّين: ما حدث لن يكون له من أثر يتجاوز لحظات من الصدمة ثم العودة مجدّداً إلى الحياة التي تجرّ قدميها بثقل خيبتها، فيما أقدام السوريين تعبت من الرقص على إيقاعات الحزن.

 

 

تقع صالة الأنوار المُخصّصة لإقامة حفلات الزفاف إلى جانب مستشفى الراضي في جرمانا (بريف دمشق)، سيارة الإسعاف التي تأتي حاملة جرحى المعارك والتفجيرات من المناطق المجاورة ومعها إعلان موت تجاور سيارة الزفّة التي تأتي حاملة العروس ومعها مشروع حياة، الفاتحة تصل إلى مسامع الناس في ذات الوقت التي تصل فيه الزغاريد .

 

ليس غريباً أن يعاني الناس الفصام كما ليس غريباً أن تُصاب الأمكنة بالعدوى، الغريب ألّا ينعكس هذا الفصام زيادة في عدد المراجعين إلى عيادات الطبّ النفسيّ والسؤال: إلى من لجأ كل هؤلاء المتجوّلون على حافة الجنون للعلاج؟

 

هجر القسم الأكبر من السوريّين وعد الحياة ، ارتدّوا إلى الدين في مواجهة العجز والحرب، هناك، في بيوت الله، أودع الناس أسرارهم، دعواتهم، دموعهم وبعض ما يتمنّون ورحلوا. الاستشاري في الطبّ النفسيّ الدكتور حسان المالح فسّر لنا ارتداد الناس إلى الدين وتأثيره في حالات الحروب والكوارث قائلاً : الحرب تشعرك بالعجز بالدرجة الأولى، هي تهديد متكرّر بأنك قد تموت وتفنى، حالة التهديد هذه مرعبة، صادمة وثقيلة تدفع الإنسان للبحث عن سند. الأديان هي أحد الأسباب التي تجعل الإنسان يتماسك قليلاً في حالات التهديد الوجوديّ، فيصبح الإنسان أكثر تديّناً، قلق الموت هذا يولّد لدى الشخص الحاجة لأن يكون أقوى ولكي يكون أقوى فهو بحاجة إلى مدد دينيّ، وهذا ليس حكراً على الإسلام إنما ينطبق على كل الديانات، قد تكون هناك بعض الفروقات بين الأديان، لكن الأزمات والحروب والكوارث بشكل عام تزود المشاعر الدينية ولو لفترة مؤقّتة، المشاعر الدينية والاتّصال بالغيب والوعد يساعد على التماسك في مواجهة الكارثة . يشكل الدين جزءاً من علاج الناس المصدومين والمعرّضين للكوارث، ويطلق على هذا العلاج اسم (الدعم النفسيّ الاجتماعيّ)، لا مانع في الطبّ النفسيّ كما يقول المالح من أن يكون الدين جزءاً من هذا الدعم أو العلاج "فالطبّ علم عمليّ ونحن كأطبّاء يهمّنا أن تبقى الناس متماسكة أيّاً تكن الوسيلة، وبدلاً من أن يتحوّل الإنسان إلى كائن غير فعّال فليبقَ كائناً متماسكاً ويمارس حياته الطبيعية".        

 

لم يبقَ في دمشق مشافٍ للأمراض النفسيّة سوى مشفى ابن سينا في حرستا بريف دمشق ، ومشفى ابن رشد وهو مشفى حديث نسبيّاً تحوّل إلى مشفى للأمراض النفسية بعد أن كان خاصّاً بالمخدّرات . في حلب، أُغلق المشفى الوحيد وهو مستشفى ابن خلدون نتيجة للقصف. كما لا يوجد في سوريا فرق عمل للدراسات النفسية. أخبرنا الدكتور حسان المالح أنه كطبيب فرد عَمِلَ دورة تدريبية جمع خلالها بعض المعلومات من المراجع ودرس حالات عدّة أشخاص لمدّة شهر كي يخرج بطريقة حول كيفية التعامل مع الحروب والأزمات.

 

هي البلد وقد تحوّلت إلى مشفى مجانين متنقّل، المجنون الأكبر فيها من يدّعي أنه بقي لديه بقيّة من عقل .

 

 .

اقرأ المزيد للكاتبة

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard