جدليّة الصورة الإعلاميّة العنيفة.. تجلّيات يفرضها الواقع
على مدى ستّ سنوات لم يبخلِ الإعلام ولا سيّما وسائله البديلة بنشر ما بجعبته من صُور ومشاهد بصرية "صُور متحرّكة"؛ تحكي للعالم أوجاع السوريين، وما تعرّضوا له من بشاعة الدكتاتورية بكافة أشكالها.
وكثيراً ما تأمّلت فحوى الصور وسألت نفسي مراراً عن سرّ امتلاك بعضها لمفاتيح التأثير في نفوس، خصوصاً تلك التي جعلت العالم يقف محتاراً، ومصدوماً أمام محتواها الذي أثار جدلاً واسعاً، كصورة مركب للاجئين يمخر البحر، ويحمل مئات من الأجساد البشرية المكدّسة الهاربة من جحيم الموت إلى أوروبا، وصور عدّة تسرّبت لتحكي للعالم عن مأساة حلب، واليوم ما يُنشر عن الغوطة الشرقية، عدا عن صورة الطفلين آيلان وعمران، وغيرهما العديد من الصور التي وثّقت مجازر ارتكبها النظام السوري بحقّ المدنيين. وما يميّز هذه الصور أن لكل واحدة منها عمقاً وبعداً إنسانياً وحالة تعكس ما يعانيه الشعب السوري.
وكما يقول أرسطو "لا تفكّر الروح أبداً من دون الصور" حيث تلعب الصور دوراً هامّاً وربما الأهمّ في إخبار العالم ما يجري في سورية، وتدفع بالرأي العام لتصديق ما يحدث هناك.
وكثيراً ما دار الجدال والنقاش ضمن الاجتماعات وورشات العمل، أو حتى عبر وسائل الإعلام عن جدوى نشر الصور التي وُصفت على أنها مروّعة أو تنطوي على كثير من العنف، وأُثير الجدل حول المبرّرات التي تجيز للصحفي أو الإعلامي أو المؤسّسة الإعلامية نشرها.
اختلفت الآراء والاجتهادات الإعلامية حول هذه المبرّرات، ونتيجة لكثرة الصور التي انتشرت عن المأساة السوريّة وأثارت ضجّة إعلامية، بات من الصعب قياس مدى تأثيرها على الرأي العام، مالم تتولّى معاهد ومؤسّسات بحثيّة متخصّصة دورها في رصد وتحليل وتقييم آلية تأثيرها، ليبقى الحكم على جدوى نشر الصور المروّعة في الأحداث السوريّة نوع من الاجتهاد، وذلك بالاستناد إلى شواهد وأمثلة لصور نُشرت وأثارت ضجّةً إعلاميةً، ولتبقى قابلة للنقد، ريثما تبرز صُور جديدة تستحقّ الوقوف عندها.
وفي خضَمّ تعدّد الآراء والاجتهادات حول مبرّرات نشر الصور التي تُوصف على أنها "مرعبة"، أحاول الوقوف عندها ليس بغرض الحكم عليها، وتقرير أيّهما الأصحّ، بقدر ما هي مجرّد محاولة للتفكير بصوت عالٍ علّي أتلمّس طرف الخيط حول مشروعيّة نشر الصور المروّعة أو الامتناع عن نشرها.
مبرّرات تمنع نشر الصُّور العنيفة:
عندما انطلقت الثورة السوريّة انتشرت الكثير من الصور التي حملت معانٍ عنيفة، ولكنها في الوقت نفسه دُقّت كمسمار بنعش النظام السوري، رغم محاولاته منع حرّية العمل الإعلامي في سورية.
وقد شكّل العديد منها صدمة للرأي العام ولو على الصعيد المحلّي، كالصور التي روت ما جرى في بانياس بداية انطلاق الثورة عام 2011، وربما لليوم مازلنا نتذكّر تلك الصورة لمدنيين منبطحين أرضاً والعصيّ تتلقّفهم، ومن ثم توالت الصور سواء الثابتة أو المتحرّكة "الفيديو" كصور مجزرة الخالدية، وداريا والحولة، ومجزرة الكيماوي، وصُوَر لجثث عثر عليها في نهر قويق بحيّ بستان القصر في حلب لقرابة ثمانين شاباً، معظمهم قُيّدت أيديهم خلف ظهورهم، والعديد من الصور التي لا مجال لحصرها هنا.
وعلى الرغم من أهمّية هذه الصور وما حملته من معانٍ إنسانية جسّدت ما يمرّ به السوريون، إلا أنها سرعان ما خفّ وهجها وظهر غيرها من الصور المواكبة لسرعة توالي الأحداث، وبالتالي أدّت كثرتها لإغراق الرأي العام، ولا سيّما الغربي بصور عديدة يومية عمّا يحدث في سورية.
وعلى الرغم من أن زحمة الصور تعطي مدلولاً على الاستخدام المكثّف للإعلام وتقنيّاته الحديثة، في إخبار العالم ما يحدث في سورية، إلا أن التدفّق الكبير للصور بما في ذلك الصور المروّعة والعنيفة ربما يؤدّي عكس الغرض المطلوب منها، وهو "التأثير"، إذ تتواتر الصور بشكل يومي بحيث لا تدعُ مجالاً للناس لكي يفكّروا ويتفكّروا بمحتواها، بل باتت الصورة كالموجة التي ترتفع عالياً ثم ما تلبث أن تتلاشى، لتأتي صورة أخرى بحالة جديدة وسياق نفسي ومعنوي جديد، فيعاود الناس تفاعلهم معها، وتصبح الصورة الأولى مجرّد وثيقة تاريخية للأحداث في سورية، وكأنه مضى عليها دهر.
وبالتالي ما الذي يجعل بعض الصور راسخة في الأذهان بينما يُنسى غيرها أو تبقى مجرّد وثيقة وشاهدة على الأحداث؟
لنعد للوراء ونتذكّر الصور التي أثارت فيضاً من الآراء والجدالات والتغطيات الإخبارية حول مضمونها، ونضعها على طاولة النقاش، وأهمّها صورة الطفلين آلان وعمران، اللتان ربما تُعتبران الأكثر حظّاً في جذب انتباه الرأي العام، وما أثارتهما من ردود دولية، حيث جسّدتا الكثير من المعاني الإنسانية التي لخّصت قصة السوريين.
وفي صورة أخرى يبكي الأب السوري المهاجر بحرقة ويحتضن طفليه عندما وطأت قدماه أرض اليونان، وتمكّن من النجاة، كذلك صورة اللاعب أسامة عبد الحسين وهو يحتضن ولده أثناء محاولته الهروب من الشرطة، لحظة أوقعته الصحفية المجريّة، وصورة سندريلا حلب وهي تلفظ أنفاسها بينما يحاول زوجها إلباسها حذاءها ليأخذها إلى القبر، بدلاً من القصر وفقاً لتقرير أعدّته قناة الجزيرة حول قصّتهما، وغيرها الكثير من الصور التي بقيت أثارها مترسّبة في ذاكرتي.
وكانت آخر هذه الصور ما يتسرّب يومياً من الغوطة الشرقية، لتحكي عن حرب البطون الجائعة، واصطكاك العظام البارزة، وعلى الرغم من فظاعة الانتهاكات التي تُرتكب في سورية، إلا أن جميع الصور آنفة الذكر لم تحمل بين طياتها مشهداً دموياً أو أشلاء مبعثرة، وإنما عرّت الإنسانية بلقطة واحدة، بعيداً عن استهلاك المشاعر البشرية بدعوى نشر الحقيقة، بل التقطت في اللحظة المناسبة لتجسّد معاناة السوريين ضمن إطار حمل الكثير من المعاني والقِيَم الإنسانية.
كل ذلك ربما يرشدنا إلى أن الرأي العام قد تجذب انتباهه الصور التي تحمل بعداً إنسانياً معرفياً أعمق من كونه دموياً، فلا أحد يستطيع أن ينكر قوة المعنى الذي جسّدته العديد من الصور، وربما من الإنصاف اعتبارها بأنها باتت صوراً تاريخية، منها صورة لامرأة يمنية يغطيها الحجاب بشكل كامل تحتضن شاباً جريحاً بجسد عارٍ، حيث فازت بجائزة "صورة الصحافة العالمية" لعام 2011، وتمّ تشبيهها بلوحة "منحوتة الشفقة" واعتبرها محكّمو الجائزة بمثابة رمز للربيع العربي بأسره، كذلك صورة لفتاة فيتنامية تركض عارية والنار تشتعل في ظهرها بعد أن قُصف بيتها بقنبلة “نابالم” من قِبَل القوات الأمريكية.
يوجد اليوم العديد من الاتجاهات والآراء التي تؤيّد عدم نشر الصور العنيفة مهما كانت المبرّرات، كما اجتهد المفكّرون والإعلاميون لتحليل الآثار السلبية للصور والمشاهد العنيفة على الناس، ولاسيّما الأطفال، وخرجوا بعدّة نظريات إعلامية منها:
-نظرية "الاستثارة" والتي تفترض أن كثرة التعرّض للعنف في وسائل الإعلام يُحفِّز المشاهدين على التصرّف العنيف، وتزيد من ضغوطاتهم النفسية، وتشحنهم بطاقة سلبية كبيرة وأفكار عنيفة.
-نظرية "التعزيز" ومفادها أن العنف في وسائل الإعلام يعزِّز من التصرّف العنيف عند بعض المشاهدين ممّن يميلون بطبيعتهم إلى العنف، بينما لا تؤثّر في تصرّفات المشاهدين غير العنيفين بطبعهم. وحسب هذه النظرية فإن العنف هو نتيجة للبيئة التي تَربّى بها المشاهد، والأفكار الاجتماعية التي ترعرع عليها.
بالإضافة لما سبق هناك آثار أخرى محتملة لنشر الصور العنيفة وهي أن التعرّض لكمٍّ هائل من العنف في المحتوى البصري يخلق لدى البعض نوعاً من الاعتياد، وتؤدّي الصور عكس الغرض المطلوب منها، وهو التأثير والتفاعل مع الحدث، أي بدلاً من أن تخلق الصور حالة من الهيجان والتفاعل ضد من يرتكب الانتهاكات، فإنها تخلق نوعاً من الاعتياد على فحواها، لتصبح مشاهدة صور الأشلاء والأجساد المشوّهة أمراً عادياً.
ما زلتُ أفكّر بصوت عال وأتساءل باستهجان عن كمّ الصور التي التُقطت ووضعت المشاهد وجهاً لوجه مع الموت، وتحدّت حرمته، وعرَضت الأشلاء البشرية المتطايرة وانتهكت خصوصية الجسد البشري، ما يبقي الحسرة مشتعلة في قلوب ذوي الضحايا وهم يشاهدون صور أبنائهم تُعرض كمادّة إعلامية استهلاكية هدفها إثارة الشفقة والخوف في قلوب الناس فقط. كما أنني ما زلت أذكر ما حدث عندما قتل الصحفي خالد العيسى، وبدأت صور جثّته تنتشر عبر صفحات "الفيسبوك"، لتتوالى النداءات عبر هذه الصفحات وتطلب من المتصفّحين عدم نشر صور جثّته، لأنها تزيد من حزن عائلته.
ربما نحن اليوم بأشدّ الحاجة إلى رقابة إلكترونية تراقب فحوى ما يُنشر من صور وفيديوهات، قد لا تتناسب وطبيعتنا الإنسانية، وذلك نتيجة الفضاء الإعلامي الواسع الذي نعيشه اليوم، حيث بات من الصعوبة ضبط عملية نشر الصور؛ ولاسيّما في ظلّ غياب القانون، والتشريعات الإعلامية الناظمة لعملية النشر، بما يخصّ الحالة السوريّة، ما يصعّب الأمور ويعقّدها، ويبقى الأمر مرهوناً بمدى وعي المتصفّحين لخطورة نشر الصور العنيفة، وكذلك بجهود القائمين على إدارة مواقع التواصل الاجتماعي في حذف الصور التي تُعتبَر مروّعة، على غرار بعض الدول مثلما فعلت وزارة الداخلية الفرنسية عندما اندلعت أحداث مسرح "لو باتاكلان" حيث راسلت المواقع الاجتماعية وطلبت منهم الامتناع عن نشر صُور الضحايا، كما طلبت الشرطة الفرنسية، على حسابها الرسمي "تويتر"، من كل الفرنسيين عدم مشاركة أي صُور من مسرح الجريمة، احتراماً للضحايا وعائلاتهم.
آراء تفترض مبرّرات لنشر الصور العنيفة:
على الرغم من الاتّجاهات الرافضة لنشر المحتوى البصري العنيف، توجد اتّجاهات فكرية أخرى مغايرة تؤيّد نشر الصور الفظيعة رغم آثارها النفسية، فمن كان سيصدّق أن النظام السوري يلقي البراميل والحاويات المتفجّرة فوق رؤوس الشعب السوري لو لم تلتقط عدسات الكاميرا مشهداً لطائرة وهي تقوم بذلك، ويتمكّن جيريمي بوين، محرّر شؤون الشرق الأوسط في بي بي سي من إحراج بشار الأسد عندما سأله عن تلك البراميل.
ومن كان سيصدّق أن النظام قتل ما يقارب 1400 مدني في ليلة واحدة عندما قصف الغوطة بالأسلحة الكيماوية، لو لم تَجُلْ عدسات المصوّرين أرجاء المشافي الميدانية هناك، وتنقل صُوراً لأشخاص وهم ينتفضون ويختنقون.
ومن كان سيقتنع أن هناك الآلاف من المعتقلين والمخفيين قسرياً لو لم تتسرّب صُور قيصر، والتي أيضاً كان لها دورٌ في مساعدة أهالي، المعتقلين وأقربائهم في التعرّف عليهم وتحديد هويّاتهم.
وكيف للعالم الدولي أن يشنّ حرباً على الإرهاب، لو لم تجتهد الماكينة الإعلامية لداعش في نشر الصور المروّعة، والإصدارات التي لا يمكن للعقل البشري أن يتخيّل حجم بشاعتها، غير أن السحر انقلب على الساحر وتحوّلت هذه الصور التي كانت تسخّرها داعش كأداة سيطرة، تطبيقاً لمبدأ "باقية وتتمدّد" إلى أداة إدانة لها، وتحامل الأطراف الدولية لمحاربتها، ولن أدخل هنا في الحديث عن دور هذه الصور في المساهمة بنشر ظاهرة الإسلاموفوبيا، وربما كانت السبب المباشر في تعميقها لدى المجتمع الدولي.
والأمثلة كثيرة التي يستخدمها دعاة هذا الاتّجاه لدعم وجهة نظرهم حول مشروعية نشر الصور العنيفة، فحتى لو احتوت على جرعات كبيرة من العنف لا ضير من نشرها بوصفها أداة تكشف وتعرّي مرتكبي جرائم الحرب في سورية، كما أنها تُستخدم لدحض الدعاية التي تستخدمها ماكينة النظام السوري الإعلامية، حيث يكفي صورة واحدة التُقطت بالوقت المناسب لتكذيب ادّعاءات النظام وتعريته.
وعلى الرغم من اجتهادات العلماء والمفكرين حول الآثار السلبية المحتملة لنشر الصور العنيفة، اجتهد علماء آخرون لتبيان الأثر الإيجابي لنشر الصور الفظيعة والمروّعة، ومنها نظرية تدعى "التطهير": واستندت في افتراضاتها على نظرية أرسطو وتدعى "الكاثارسيس" وتفترض هذه النظرية بأن التعرّض للعنف في وسائل الإعلام يقلّل من استخدامنا للعنف بالفعل، لأننا نُطهِّر أنفسنا من العنف بواسطة مشاهدته، ويساعدنا على التخلّص من ضغوطاتنا النفسية وأفكارنا السلبية، وبالتالي نقلّل من استخدامنا للعنف أو حتى مجرّد تفكيرنا به.
بعد استعراض مختلف الآراء والتوجّهات حول جدوى عرض الصور التي تتضمّن جرعات من العنف، أو الامتناع عن نشرها، يبقى الحكم النهائي لضرورة نشر هذه الصور، بحكم ظروف الحدث نفسه، وتوظيفها بما يزيد من مصداقية الوسيلة الإعلامية في تأكيده، وذلك وفقاً لسياستها ونوعية جمهورها المستهدف، ومراعاة تنوّع هذا الجمهور.
عادة تلجأ بعض الوسائل الإعلامية لأخذ التدابير اللازمة عند نشر أي محتوى إعلامي يتضمّن مشاهدة عنيفة، كصور الضحايا والجثث والأشلاء أو حتى عمليات الذبح التي تنشرها داعش، بما يتناسب مع الأخلاقيات الإعلامية، والقيم الإنسانية، ومن أجل ذلك تحاول الكثير منها تحذير المشاهدين عند عرض أي محتوى بصري صادم، كذلك تتعمّد تغبيش المشاهد الدموية، وأحياناً التنويه أنها لن تنشر الفيديو نتيجة احتوائه على مشاهده مروّعة.
إننا بأشدّ الحاجة اليوم لنشر الوعي حول أهمّية ما يسمّى "ثقافة الصورة" فهي ليست مجرّد صورة جمالية تُنشر عبر الوسائل الإعلامية لتعبئة ساعات البثّ أو الصفحات أو المواقع، أو وسيلة لكسب عدد المتابعات، وإنما لهذه الصور مدلولات نفسية عميقة وقد تؤثّر أحياناً بالنفوس بطريقة لا تُحمَد عقباها في حال نشرت ما يشكّل صدمة، واحتوت داخل كادرها ما يؤجّج العنف الكامن لدينا.