الاقتصاد السوريّ، الانهيار واستحالة العودة
تاريخياً، تؤكّد الحقائق المتعلّقة بالتطورات الاقتصادية، وعوامل التنمية أنه لا تندر حالات التحوّل التراجيدي في النظم الاقتصادية، في الظروف الاعتيادية للنمو. فقد يرى المرء تراجعاً في مؤشرات النمو الاقتصادي والاجتماعي بفعل أخطاءٍ في السياسات الاقتصادية أو بفعل ما تفرضه الظروف الطبيعية التي يمرّ بها البلد الذي يشهد التحوّل، ولا شك أن ذلك لا يعصى على الحلول التصحيحية المقدمة من الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين للخروج من المأزق الاقتصادي. إلا أنه تندر حالات الانهيار الاقتصادي في جميع النُّظم الاقتصادية وفي مختلف الظروف، لأنه يندر أن تجتمع جميع القوى اللازمة والشروط الكافية لعملية الانهيار، لكن إذا شاءت الظروف ومسبّباتها اجتماعَ تلك القوى، فلن تتوقف عملية الانهيار عند الحدود الاقتصادية، بل ستتجاوزها إلى انهيار المجتمع ليس بمختلف تكويناته وتوجّهاته فحسب، بل بآماله وأحلامه وخططه المستقبلية التي تتحوّل سراباً.
انهيار اقتصادي ثنائيُّ المصدرِ
إن سخرية قدر السوريين فرضت عليهم معايشة أسوأ انهيار اقتصادي شهدته دولةٌ شرق أوسطية منذ بدايات القرن العشرين، وتجاوز في حجم كارثيّته ما شهدته دولة العراق المجاورة التي ما برحت أن تخرج من الحروب المتتالية منذ انطلاق حرب السنوات الثماني مع إيران في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، لتدخل في أزمات التفكّك الاجتماعي والتدهور الاقتصادي تحت تأثير عوامل التدخّل الخارجي لإخراج القذارة المتراكمة داخلياً إلى السطح وإبرازها بالشكل الذي يؤدّي إلى استحالة التعايش لقرون قادمة. فالانهيار السوري أشدّ وطأةً من ذلك الذي يعيشه العراق، ولا شك أن انعكاسات ذلك على الاقتصاد يحمل بكل قوةٍ دلالات انهيار المنظومة الاقتصادية التي ترسّخت قواعدها على امتداد الجغرافيا السورية، وإن كانت تلك المنظومة لا تملك من مقوّمات القوة سوى عامل الحماية الأمنية لها، وهو العامل الأقوى لبقائها على مدى خمسة عقود.
انطلاقاً من ذلك فالانهيار الاقتصادي السوري ليس وليد لحظة الحراك التالي لأحداث الخامس عشر من شهر آذار 2011، بل هو انهيار ثنائي المصدر، إذ أنه من جهة نابعٌ من فلسفة اقتصادية سفسطائية سادت لنصف قرن، ولا تُفهم حيثيّاته النظرية والتطبيقية إلا من منظور بناء مصالح فئات مؤطّرة ومحدّدة، سِمَتها الواضحة الولاء المطلق للسلطة السياسية، ودخلت ساحة الاقتصاد من بوّابة الولاء، لا من بوّابة الانتماء إلى دائرة الإنتاج والخدمات التي كانت تتمايز في سوريا الخمسينيات عن دائرة السياسيين التي كانت تبحث عن الاستقرار دون جدوى.
ولم تمضِ سنوات سطوة الفلسفة الغوغائية في الاقتصاد السوري دون اختناقات كادت أن تؤدي بالنظام إلى هاوية السقوط في مراحل مبكّرة نسبياً من عمره، إلا أنه كان يشهد انسلاخات شكلية من السياسات الاقتصادية، فالانتقال من الادّعاء ببناء النموذج الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الموسوم بكلمة الاجتماعي غيّرت في شكل القطّة الصيّادة، دون أن تمسّ مالك القطّة بسوء، وظل الأمر سيّان في مرحلتي بناء النظام الاشتراكي وبناء نظام اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي جاء متأخراً جداً عن الركب العالمي بغضّ النظر عن مضمونه.
ومن جهةٍ أخرى نجم الانهيار عن منهجية واضحة لتدمير البنى التحتية من طرفي النزاع السوري، إذ تبيّن بعد ستّ سنوات من الصراع على الأرض السورية، أن العدوّ الأول للمتنازعين لم يكن سوى سوريا البلد والصناعة والزراعة والنمو، لأن حجم الدمار لا يمكن أن يُفسّر إلا عندما نضع في حساباتنا نواتج سقوط البراميل من طرف وتفكيك المصانع أو حرقها من طرفٍ آخر. طبعاً هذا لا ينفي مطلقاً وجود منتمين لسوريا التي يُراد لها البناء والتنمية في هوامش مراكز القرار.
الارتهان للخارج
النتيجة الطبيعية للسياسات الاقتصادية في مرحلة ما قبل الحرب إلى جانب انهيار المنظومة الأخلاقية في ظل الحرب هي خلق حالةٍ مأساوية، توسّعت دائرتها لتشمل الأداء التنموي اقتصادياً وبشرياً، من خلال تدميرهما بصورةٍ مباشرة، ليتدهور الوضع إلى الدرك الأسفل ببلوغ الخسائر أرقاماً فلكية، ينتهي معها كل أملٍ ببناء سوريا الوطن في الأمد المنظور. إذ تصدر بعض الإشارات التي تبيّن حاجة الاقتصاد السوري إلى تريليون دولار أمريكي للعودة إلى الوضع الذي كان يسود قبيل الحرب مباشرةً، كيف لا؟ وشهد البلد دماراً شاملاً أدّى إلى ارتهان سوريا الدولة والسيادة إلى قوى خارجية تقاسمت النفوذ في الجغرافيا والثروات والقرارات، وشرذمت القوى البشرية عبر خلق ولاءات جديدة لقوى لا تعرف من سوريا سوى الموقع والثروات لأهمّيتهما الإستراتيجية في حساباتهم.
تعدّدت مظاهر الانهيار وتوسّعت رقعتها في ظل مفردات جديدة في القاموس السوري، ولعل صفوة تلك المفردات تكمن في توسّع النفوذ الإيراني في مركز القرار السياسي والعسكري السوري. نفوذٌ أداته السطوة المالية، والقوة العسكرية المتعدّدة الجنسيات والمستقدَمة في هيئة قوات إنقاذ لقيم حسين وزينب. والتي لا تمتّ بكل تأكيد بأي صلة بمؤشّرات التنمية الاقتصادية والبشرية وأهمّيتها للخلاص من المستنقع الدموي الذي أغرق الحياة في وحل الطائفية الذي يتحدّد في عموم الجغرافيا السورية. جوهر الوجود الإيراني في المعادلة السورية هو الحفاظ على الهياكل لتستظلّ بها في طريقها الممتدّ من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، وإن كان ذلك من عوامل ترسيخ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. فالتنمية المطلوبة إيرانياً هي تنمية الهجرة الخارجية والتغيير الديموغرافي لمصلحة القوى المستوطنة في أطراف دمشق لرسم ملامح سياسة اقتصادية واجتماعية جديدة لسوريا، تكون فيها السيطرة الاقتصادية لإيران وأعوانها.
إذا كان الإدراك الإيراني للحدث السوري متولّداً من زاوية حمايتها للنظام السياسي إلى جانب الانهيار الاقتصادي لحماية امتدادها غرباً وبناء عمق إستراتيجي متواصل جغرافياً يمتد إلى المتوسط مع الحفاظ على وحدة الجغرافيا والإرادة التي تفرض الضرورات الإيرانية موالاتها المطلقة لها. فإن الدور الروسي والأمريكي يتميّز بشمولية أكبر، ولا يتوقّف عند الحدود المرسومة إيرانياً. وقد بدأت كلتا الدولتين برسم خارطة نفوذهما في سوريا عبر تقسيمها إلى مناطق نفوذ تحدّد من خلالها إستراتيجيّتيهما المستقبليّتين في منطقة الشرق الأوسط عموماً، استعداداً للانطلاق نحو مرحلة تسود فيها توازنات جديدة، وتُرسم فيها خرائط تخدم تلك التوازنات.
العودة المستحيلة
لذلك نرى بأن البحث في التبعات الاقتصادية للأزمة السورية تتجاوز الأرقام الصماء التي يمكننا تحليلها وإطلاق الروح فيها لاستشفاف المستقبل السوري، لأن تلك الأرقام وما يمكن أن نستنتج منها لا تفيد إلا في حالة بقاء سوريا الجغرافيا ثابتاً رغم تغيّر كل الظروف، وبات ذلك مستحيلاً بعد الانتشار الأمريكي في الشمال والروسي في الغرب، مما أدّى إلى غياب جدوى البحث في عوامل انهيار الاقتصاد السوري وسُبل إعادة بنائه.
تفيد التجربة العراقية المشابهة للحالة السورية، والأقدم انهياراً ببقاء تفكّك المنظومة الاقتصادية -كنتيجة لحالة التغييرات السياسية- ثابتاً في المعادلة العراقية، إلى جانب تحوّل السياسة إلى متغيّر تابع للقوى الإقليمية والدولية على حدٍ سواء. وقياساً على ذلك، وبشيء من التحليل المنطقي، لا يمكن رؤية الاقتصاد السوري إلا من زاوية ثبات عامل التفكّك في ظل التغييرات السياسية التي ترسمها القوى الخارجية لمرحلة ما بعد توقّف آلة الحرب عن العمل بعد هذه السنوات من الدمار.
يبقى تحقيق الاستقرار مرتبطاً بتحقيق التوازن في المصالح الدولية على امتداد خارطة المنطقة، مما يوحي بأن عملية الاستقرار الاقتصادي لن يجد طريقه إلى التطبيق في الأمد القريب، إذ أن الحدث السوري يشكّل العاصفة التغييرية التي تهبّ رياحها باتجاه خرائط سياسية أخرى في المنطقة، وتستهدف تغييرها تحقيقاً للمصالح الدولية التي تعاني الركود تحت ظروف تطبيق نظم سياسية واقتصادية باتت عبئاً على القوى الممثّلة لتلك المصالح.