سوريا الاقتصاديّة في مهبّ المصالح الدوليّة
إذا كانت سوريا الجيوسياسيّة هي حصيلة توازنات دولية، برزت ملامحها الواضحة في اتّفاقية سايكس – بيكو نزولاً عند رغبة القوى الدولية المتسيّدة عرش العالم في حينه، فإنها لن تكون في مأمن من تغيّراتٍ تراجيدية تؤدّي إلى تغيير كل ملامحها السياسية والاقتصادية عند انتفاء مصلحة تلك القوى مع راهن الحال فيها أو عند بروز قوى ومصالح جديدة في الساحة. وينسحب هذا الأمر على الجوار وعلى النُّظُم السياسية التي تشابهت في ظروف وأشكال تكوينها مع الظرف والشكل السوري.
انتهاء الدور
واقع حال هذا البلد يؤكّد صحّة التحليلات التي تشير إلى انتهاء وظيفة سوريا، الدولة القومية، في المساهمة للمحافظة على تحقيق بعض التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة، عبر منظومة علاقات معقّدة كانت تلعب فيها دور البطولة أحياناً، وكانت تتجاوز في علاقاتها تلك جميع المحرّمات والنواميس التي كانت تشكّل خطوطاً حمراء في أذهان السوريين عموماً تحت تأثير الآلة الإعلامية ومؤسّسات السلطة في البلد، ممّا حدا بالقوى الدولية المعولمة إلى الانطلاق نحو التدخّل عبر جغرافيته المستباحة بفضل عسكرة الحراك الذي بدأ في الخامس عشر من آذار 2011م، وتأسيس المليشيات التابعة لمختلف الأطراف العالمية والإقليمية ذات المصلحة فيه، وذلك لإعادة ترتيب التقسيمات الجغرافية فيه بما يخدم ترسيخ نفوذ بعض الجهات الدولية، وبالتالي وضع الترتيبات السياسية والإعلان عن مضمونها بالشكل الذي يؤكّد على انتهاء الدور السوري السابق، واستبداله بدور سوري جديد، تتوضّح فيه معالم الاسترتيجية الدولية في منطقة الشرق الأوسط عموماً.
سوريا مركزيّة واقتصاد مركزيّ جدّاً
استثمرت سوريا وظيفتها الإقليمية المرسومة لها في بناء سوريا اقتصادية وفق أجندتها المحلّية المخطّطة من رجالات الصف الأول في الدولة، والتي تمّ تمريرها إلى التطبيق على امتداد الجغرافيا السورية عبر قنواتها السياسية والسلطوية، والمصقولة بالشعارات التي كان تناقضها واضحاً مع الأفعال الاقتصادية في جميع المراحل والتحوّلات التي مرّ بها النظام وحزبه الحاكم.
ولا يخفى أنه حدثت في سوريا المركزية تطوّراتٌ في الميادين الاقتصادية وتحديداً على صعيد تطوير القطاعات ذات الصلة بالبنية التحتية، والاستثمارات في مجالات الطاقة، وقطاع الخدمات الخاص، لكن المميّز في تلك التطوّرات أنها لم تؤدِّ إلى تطوير واقع حال الاقتصاد لعموم الشعب السوري، بفعل قوة جماعات الضغط الداخلية المتكوّنة داخل المفاصل السياسية والأمنية، والتي تمكّنت بصورةٍ دائمة من توظيف مخرجات الخطط الاقتصادية، والمشاريع الاستثمارية لخدمة دائرةٍ ضيّقةٍ من أصحاب النفوذ من السياسيين ومن يدور في فلكهم من الأغنياء حديثي النعمة الذين ظهروا مع بداية ثمانينيات القرن الماضي بالتزامن مع أحداث مدينتي حلب وحماة، والذين تحوّلوا تدريجياً إلى قوةٍ تنسيقية ما بين السلطات السياسية المركزية وعموم الشعب لتأمين ولاء الأخير للأول.
لقد نجم عن الحالة الاقتصادية السورية المرسومة مركزياً غياب العدالة في توزيع الدخل بين المواطنين لدرجة أن الفئة الفقيرة من المجتمع قد توسّع حجمها على حساب اضمحلال حجم الفئة المتوسطة. ويؤكّد منحنى جيني على تركّز الأموال في أيدي فئات قليلة، تشكّل الدائرة الانتفاعية الضيّقة. وبدأت الأوضاع بالاستقرار على ذلك المنوال، إلى جانب ملاحظة التعايش بين حلقتي الفساد الكبير المتمثّل بحصر الاستثمارات والمشاريع الضخمة بالدائرة الضيقة، والفساد الصغير المتمثّل بانتشار وباء الرشوة في مختلف دوائر الدولة.
وَهْم الاستقرار ومشاريع التتغيير الخارجي
أوهمت ظاهرة الاستقرار الاقتصادي والأمني الوهمي السلطات السورية بحصانة سوريا البلد أمام موجة التغيير التي تصيب المنطقة في إطار مشروع خارجي يسعى إلى إجراء تغييرات جيوسياسية في عموم منطقة الشرق الأوسط، إلا أن أحداث السنوات السبع الأخيرة أكّدت عدم صوابية الموقف الرسمي للدولة السورية، حيث أدّت أوهامها إلى مخرجات اقتصادية كارثية نجمَ عنها إضعاف سوريا الاقتصادية وانحسارها في سوريا الميليشيات والأطراف المتنازعة. فقد أدّى التدمير الممنهج لمختلف القطاعات الاقتصادية إلى تحقيق خسائر تعادل 1170 مليار دولار أمريكي، حسب بعض الدراسات، وتشمل خسائر الدمار وإعادة البناء، وهي تعادل تقريباً 19 ضعفاً للناتج المحلّي الإجمالي السوري لعام 2010م بالأسعار الثابتة. كما أن هذا الاقتصاد قد أصيب بالشلل تحت تأثير العقوبات الدولية. وتأتي في مقدمتها تلك المفروضة من الاتحاد الأوروبي، منذ بدء الحدث السوري، كل ذلك إلى جانب غياب الكفاءة الإدارية والاقتصادية في ظل سيطرة لغة الحرب المنتشرة في عموم الجغرافيا السورية، وانتشار مفردات جديدة في الاقتصاد السوري، مثل مصطلح التعفيش والتكبير اللذين أدّيا إلى فقدان سوريا الاقتصادية لكل مدلولاتها، وإن كانت تسير بأساليب أقرب إلى المافيوية في المراحل السابقة لأحداث 2011م. وقد بات نتيجة ماسبق سوريا الاقتصاد والسياسة والمجتمع مستباحاً أمام مختلف القوى.
لا يبدو السعي الإقليمي والدولي لاحتلال مكانة في سوريا الاقتصادية عبر النفوذ العسكري أمراً مبهماً، بل إنه جليّ بكل تفاصيله، وأدّى إلى خلق حالة من الصراع لرسم دوائر السيطرة ومناطق النفوذ. فالملامح الأولى لضياع سوريا الاقتصادية، بنسختها المركزية، كانت قد ظهرت بولوج القوى الإقليمية إلى الأراضي السورية. وقد تمّ استباحة المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق وامتدادها إلى مدينة حمص بوابة الساحل السوري، إيرانياً، بينما تحوّل الشريط الشمالي الغربي، وبعض الشمال إلى محميّة تركية. وفي الحالتين يتمّ سحب البساط الاقتصادي من تحت أقدام النظام في دمشق، وإن كان ذلك بأساليب وغايات مختلفة.
أياً كانت هذه المشاريع الإقليمية ومهما ازداد جبروتها، فإنها تبقى مصابة بالتقزّم السياسي والاقتصادي والعسكري أمام قوة المشروعين الأمريكي والروسي اللذين يمهّدان لبناء منظومة جيوسياسية جديدة في المنطقة عبر البوّابة السورية، واللذين لا يبدوان متكافئين في حيثيّاتهما. فإذا كانت روسيا تحاول وبكل قوتها إظهار أنها تعمل على توحيد الأراضي السورية، فإن أفعالها تؤكّد أنها تركّز على هدفين أساسيين في سياستها السورية، وهما:
1. إعادة سطوة النظام السوري على معظم الجغرافيا السورية والقضاء على جميع أطراف المعارضة، وذلك لسهولة السيطرة على هذا الطرف الداخلي في الصراع السوري والتحكّم في إرادته.
2. وضع موطئ قدمٍ ثابتة لها في المياه الساخنة عبر قواعدها البرية والبحرية في الساحل السوري، وأداء دور اللاعب الأساسي في كل ما يجري على مستوى الشرق الأوسط من صراعات، وتأمين حصتها من حصيلة التغيّرات الاقتصادية التي يُنتظر حدوثها فيها بدءاً من سوريا، وهي في طريقها إلى تحقيق بعض أهدافها من مساهمتها في الحرب السورية، إلا أنها وعلى الرغم من الكثير من التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية في الملفّ السوري، فإنها تصطدم بالكثير من العراقيل التي تحدّ من سعيها في مشروعها إلى النهاية، خاصةً التناقضات الجليّة التي ظهرت فيما بينها والولايات المتحدة الأمريكية في تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها سورياً.
أمّا المشروع الأمريكي في سوريا فيبدو أنه أكثر شمولاً واستراتيجيةً من تلك التي طرحتها القوى الأخرى، وهو الأكثر تميّزاً بالاستقرار، حيث رسم ملامح سوريا جديدة ومختلفة جذرياً عن سوريا ما قبل الأزمة، واستطاعت أمريكا عبر مشروعها من سحب مقوّمات الاقتصاد المركزي من دمشق، وذلك ببناء عوامل استقرارها في شمال شرق سوريا.
لقد بسطت الولايات المتحدة الأمريكية نفوذها من خلال مشروعها في سوريا على أكثر من 70% من النفط ومصادر الطاقة الأخرى، واحتلّت المنطقة الأكثر أهمية في الجغرافيا السورية، والتي تشكّل صلة الوصل ما بين آسيا الصغرى والبحر الأبيض المتوسط. فبالإضافة إلى مشروعها المحلّي في سوريا، فقد أمّنت الحدّ من الدور الروسي في سوريا وعرقلت سهولة التحرّك للدول الإقليمية والعالمية في الشرق الأوسط، وحقّقت تحديثاً في سيرورة مصالحها من خلال إجراء تغييرات جغرافية محدّدة في منطقة تشكّل صلة الوصل بين قارات العالم.
منطقياً إن إحداث تغيّرات من مثل تلك التي وضعتها القوى الدولية في الأراضي السورية، وما لها من امتدادات جيوسياسية على عموم المنطقة ستكون مصدراً لتضارب المصالح بين تلك القوى وستظهر نتائجها بصورٍ دمويةٍ في بعض الأحيان، وستفرز معطيات جديدة يكون فيها للترتيبات القديمة مواضعها الهامشية مقابل محورية دور القوى والترتيبات الجديدة. انطلاقاً من ذلك سنشهد جغرافيات اقتصادية جديدة بديلة عن سوريا الاقتصادية المركزية، وستنهار سوريا الاقتصادية في مهبّ المصالح الدولية.