info@suwar-magazine.org

الشمال السوريّ بين واشنطن وأنقرة

الشمال السوريّ بين واشنطن وأنقرة
Whatsapp
Facebook Share

 

طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التوسّعية، وحلمه باستعادة "أمجاد" أجداده العثمانيين ليست سرّاً، فتصريحاته وسياساته تؤكّدان ذلك، وهو وجد في سوريا التي مزّقتها الحرب وتتناهشها مختلف القوى الإقليمية والدولية فرصةً للشروع في تنفيذ مشاريعه. هذا ما يفعله في الشمال السوري بذريعة "محاربة الإرهاب وحماية الأمن القومي التركي"، معتمداً ليس على الجيش التركيّ فحسب وإنما باستخدام مقاتلين سوريين ممن ينسبون أنفسهم إلى "الجيش الحرّ"، ارتضَوا أن يكونوا مرتزقةً في خدمته، في وقت تستبيح فيه قوات الأسد وإيران وروسيا ما تبقّى من المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة.

 

نجاح الأتراك والفصائل الموالية لهم في احتلال عفرين بعد انسحاب المقاتلين الأكراد منها كان بلا شكّ دافعاً قويّاً للمضي في العمليات العسكرية والسعي إلى توسيع نطاقها بحيث تشمل كافّة المناطق الشمالية من سوريا على امتداد حدودها مع تركيا وحتى الحدود العراقية على نحو ما أعلن أردوغان مراراً، مؤكّداً أن السيطرة على عفرين ليست سوى جزء من العملية المستمرّة وأنّ الهدف التالي سيكون مدينة منبج. تعفُّن الوضع السوري وغياب أي أفق لتسوية في إطار دولي زاد من جموح أردوغان، الذي يبدو مطمئنّاً إلى تفاهماته مع الروس والإيرانيين من خلال اجتماعات آستانا. غير أنّ ذلك لا يبدو كافياً، فالوقائع الميدانية والسياسية الأخرى تدلّ على وجود عقبات جمّة تعترض خططه وتجعل موقفه أكثر تعقيداً.

 

"التفاهمات" التي تردّد أنها جرت بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ووزير الخارجية الأمريكي ريكس تيليرسون حول إيجاد آلية مشتركة لتسوية مسألة منبج لم تَعُد ذات قيمة، وهي أصلاً لم تكن قد أفضت إلى اتّفاق نهائي قبل إقالة الأخير وإلغاء الاجتماع الذي كان مقرّراً بين الرجلين لهذا الغرض في التاسع عشر من آذار/ مارس الجاري دون تحديد موعد آخر. وأردوغان كان قد أعلن في وقت سابق أن بلاده رفضت عرضاً أمريكياً يقضي بتقاسم منبج بين الجانبين، زاعماً أنّ تركيا لا تريد أن تسيطر لا هي ولا القوات الأمريكية على المدينة وإنما ترغب بتركها لأصحابها.

 

بعض المتحدّثين الأتراك أبدوا تفاؤلاً بشأن التغييرات الأخيرة في الإدارة الأمريكية ظنّاً منهم أنها قد تسهّل من إمكانية التوصّل إلى اتٌفاق، غير أنّ ما عُرف عن مايك بومبيو، خليفة تيليرسون، من تشدّد في مواقفه إزاء ملفّات المنطقة، إضافة إلى تعيين جون بولتون مستشاراً للأمن القومي، وهو الأكثر منه تشدّداً والذي لم يخفِ يوماً موقفه السلبي من أردوغان وسياساته، جميعها معطيات توحي بصعوبة التوصّل إلى تفاهم مع الجانب الأمريكي بشأن منبج، الواقعة تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" أو "قسد" ومن ضمنها "وحدات حماية الشعب" الكردية، بدعم من واشنطن التي بدورها تحتفظ هناك بتواجدها العسكري الوحيد غرب نهر الفرات وتولي اهتماماً خاصّاً بمنبج، حيث أنّه بالتزامن مع التجاذب الدبلوماسي – حتّى اللحظة – بشأنها مع الأتراك، زار وفد من الخارجية الأمريكية المدينة برفقة المستشار ويليام روبوك، الذي أكّد أنّ الأمريكيين "لن يتخلوا عن وعودهم في حماية مدينة منبج حتى حلّ الأزمة السورية في مؤتمر جنيف".

 

صحيح أنّ واشنطن غضّت الطرف عن عملية "غصن الزيتون" في عفرين، وكان إعلانها أن نطاق عمليات التحالف الدولي الذي تقوده لا يشمل تلك المنطقة بمثابة موافقة ضمنية على العملية العسكرية التركيّة، لكنّ الوضع سيختلف عند التوجّه شرقاً نحو منبج، وبشكل أكبر إذا ما تعلّق الأمر بالمناطق الواقعة شرق الفرات، والتي تدخل الأجزاء الشمالية منها ضمن مشاريع أردوغان المعلنة، فهو لم يتوانَ عن ذكر بعض المدن والبلدات بالاسم مثل كوباني/ عين العرب، تل أبيض وحتّى القامشلي، وفيها جميعاً قواعد عسكريّة أمريكية تقدّم دعمها لحلفائها في الحرب على "داعش" من المقاتلين الأكراد و"قسد"، فضلاً عن دورها كمعسكرات لتدريب عناصر تلك القوّات.

 

 

والخطط الأمريكية في هذا الشأن تثير حفيظة الأتراك وتسبّب مزيداً من الخلافات بين الدولتين الحليفتين في الناتو، ذلك أنّه وفقاً للميزانية المقترحة لعام 2019 سيُخصّص البنتاغون ثلائمئة مليون دولار لتدريب وتجهيز "قوات سوريا الديمقراطية"، إضافة إلى مئتين وخمسين مليوناً أخرى من أجل تأسيس قوة أمنية حدودية. لم تَرُقْ هذه الأرقام لأردوغان، واعتبر أنّ الأموال الأمريكية "تدعم الإرهاب"، حتى إنّه عند التعليق على الموضوع لم يجد بدّاً من التحدّث بعنجهيّته المعهودة، ردّاً على تصريحات سابقة لضابط أمريكيّ رفيع المستوى كان قد أعلن من منبج أنّ الأمريكيين سيردّون بقوّة على أيّ هجوم يستهدف قوّاتهم، إذ سخر منه أردوغان بالقول: "من الواضح أن من يقولون سنرد بشكل عدائي إذا ضربتمونا لم يجربوا من قبل صفعة عثمانية"!

 

هذه التفاصيل ما هي إلا ترجمة عملية للخلاف الكبير بين استراتيجيّتي كلّ من واشنطن وأنقرة، وما يعنيه كلّ منهما عندما يتحدّث عن "الحرب على الإرهاب" في سوريا. فالاستراتيجية الأمريكية ترى إلى تنظيم "داعش" بوصفه العنوان الأساسيّ للإرهاب، وتحت ذريعة منع عودة الإرهاب الداعشي تؤسّس لوجود طويل الأمد في سوريا، مع الاعتماد بشكل ملحوظ على حليفها المحلّي الرئيسي ممثّلاً بالأكراد و"قوات سوريا الديمقراطية"، في حين يُصنّف هؤلاء لدى تركيا كإرهابيين وتريد القضاء على أي تواجد لهم على حدودها ومنعهم بالقوّة من إنشاء أي كيان أو إقليم كردي، فضلا ًعن طموحاتها التوسعية في مناطق انتشارهم.

 

ليست واشنطن وحدها من يعيق الخطط الأردوغانية في سوريا. باريس أيضاً تعلن رفضها العمليات التركية، ويبدو أنّ الموقف بين الجانبين مرشّح للمزيد من التصعيد في ظلّ السعي الفرنسي لحشد موقف أوروبي أكثر جدّية في هذا الشأن. ويبقى أنّ الشمال السوري اليوم، شأنه شأن بقيّة أرجاء البلاد، بات موضوعاً لصراعات الآخرين على الأرض السورية. صراعات بقدر ما يمكن أن تزيد من قوّة مَن يخرج منها منتصراً، فهي في الوقت عينه قد تشكّل عامل استنزاف بلا طائل لأطراف عدّة، بما يعيد رسم التوازنات والمعادلات الإقليمية والدولية للمرحلة المقبلة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard