الإنسان المعاصر بين الدين والعقل وأنماط التوحش
ال
* لكي يعرف الشخص الإيمان الحقيقي، فهو يحتاج، في المقام الأول، و لفترة من الزمن إلى التخلي عن الإيمان الذي آمن به بشكل أعمى، والتحقق بالعقل من كل ما علموه إياه منذ الطفولة.
- ليف تولستوي*
الدين ظاهرة واقعية من ظواهر التاريخ والاجتماع البشري، وهو بطبيعته ينتمي إلى المستوى اللاعقلاني في طبيعة الإنسان، فهو ظاهرة يجتمع فيها الإيمان والتسليم، والحنين إلى المقدس، وحلم اليوتوبيا البديلة اللاواعي، وقلق الوجود الناجم عن رهاب الموت، والباحث عن معنى ومغزى الحياة، وسواها، وهذه عوامل نفسية الطابع.
إضافة إلى عوامل الخيال المعرفي الساعي لفهم وتفسير ظواهر الوجود بعزوها إلى أرباب كونيين تعميما لعلاقة الصنعة والصانع، والبراغماتية العملية في مجالات الأخلاق والتشريع والحكم، الباحثة لها عن أرضية تأسيسيّة صلبة، تقيها عند ربطها بمرجعية من مستوى سماوي فوق بشري من أية منافسة بشرية أخرى. وهذه البراغماتية النفعية والخيال المعرفي بدورهما يرتبطان أيضاً بحالة تدني مستوى العقل في المجتمعات الدينية الأولية وما تلاها، ويرتبطان أيضاً مع العوامل النفسية الفاعلة في الحالة الدينية المذكورة قبلهما.
والدين كظاهرة عند مواجهته بكليته مع العقل العلمي لا يمكنه أن يخرج عن إطار بشريته تلك، ولا يمكن للعقل العلمي أن يقبله في أي إطار خارج إطاره البشري المحكوم دوماً بعوامله وظروفه الواقعية على مستوى كل من الفرد والمجتمع المرتبطين بدورهما جدلياً.
وفي ميزان العقل لا يمكن لأي دين على الإطلاق أن يقدم الدليل القاطع على سماويته ،وكماله وكونه دين الحق الأوحد، فكل دين يدعي مثل هذه الادعاءات .. يقتصر قبول ادعاءاته هذه على أتباعه فقط، الذين يؤمنون بها إيماناً تسليمياً محضاً، انتقل إليهم في جلّ الأحيان بالتلقين من قبل أسلافهم كحال غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، بما فيها تلك المصنّفة باطلة أو ضالّة من قِبل أتباع هذا الدين، الذين لم تتكون قناعاتهم الدينية نتيجة تجربة فكرية خاصة مثلهم مثل سواهم من الأغيار المتدينين في ذلك.
وفي حضرة العقل سيصطدم الدين بالحقائق التالية:
1. فكرة الألوهة - وهي الأساس الذي تقوم عليه كل الأديان- هي نفسها موضع شك من قبل العقل، وإثباتها أو نفيها لا يمكن أن يقوم على أي أساس من أي دين، لأن أسس جميع الأديان عند هذه النقطة هي بحد ذاتها غير مؤسسة، وتحتاج بالتالي إلى تأسيس. تأسيسٍ يقوم على إثبات وجود الله، وهو تأسيس لا يقوم به إلا العقل، مما يعني أن الدين لا يستطيع القيام بدون تأسيس عقلي، وليس أمامه في مواجهة العقل إلا الحصول على اعتراف العقل بأساسه الإلهي، أو السقوط برفض العقل لهذا الأساس. وهذا يعطي المجال للجزم بأن العقل في كلتا الحالتين لا يحتاج إلى الدين كضرورة معرفية أو روحية، ففي حال نفي العقل للوجود الإلهي يصبح الدين ككل باطلاً لا خير فيه، وفي حال أثبت العقل وجود الله، فبمقدوره عندها أن يقول للدين أنا لا أحتاجك، وقد حللت بنفسي المسألة الإلهية، وهي أكبر ما لديك من مسائل، وبمقدوري أن أتابع وحدي في كل المسائل التي تدعي أن لديك حلها.
2. فكرة النبوة نفسها بحاجة أيضاً إلى موافقة ومصادقة العقل، وإن كان مبررها أن العقل لا يستطيع الوصول إلى الحقائق الميتافيزيقية، أو أن العقل الذي من طبيعته الصواب والخطأ والاختلاف، لا يستطيع الوصول إلى الحقائق المطلقة، وفي قمتها الحقيقة الإلهية، مما يقتضي تنزيل هذه الحقيقة من قبل الإله نفسه بواسطة رسل مختارين! لكن هذه الفكرة يمكن للعقل أن يرفضها بناءً على أن الحقيقة الإلهية المزعومة هي نفسها من حيث المبدأ ليست مسلّمة، وهي نفسها بحاجة لمصادقة العقل عليها كما سلف الكلام، أما على أرض الواقع فنجد أن التنزيل أو الإرسال السماوي المزعوم لم يجعل هذه الحقيقة جلية واضحة، ولم يقد الناس إلى الوحدة عليها، فتعدد الأديان ومذاهبها زاد الناس اختلافاً، وخلافاً، بل وعداءً وصراعاً في كثير من الأحيان، ولم يوحّدهم ويوفّق بينهم، بقدر ما فرّقهم وخاصمهم.
3. الاختلافات والخلافات الجمة والضخمة بين الأديان الغفيرة في تعدادها، هي الأخرى، لا يمكن الفصل والحكم فيها إلا من قبل العقل، والعقل وحده، وأي دين يدعي أنه الدين الحق الوحيد من بين جميع الأديان، دعواه تبقى باطلة ما لم يوافقه عليها العقل بعد نظره فيها وفي بقية الأديان، وهذه كرة ثالثة يحتاج فيها الدين إلى اعتراف وتصديق العقل به وعليه.
4. علمياً، كل الأديان قامت في مراحل تاريخية وبيئات اجتماعية كان الإيمان فيها بوجود الآلهة قائماً بشكل مسلم به، وهذا الإيمان لم يصنعه العقل، وإن كان في لحظة ما قد ساهم في تكوينه البدئي، لكن العقل تاريخياً شذّبه وقاده من التعدد إلى التوحيد، ثم جاء الإلحاد خطوة أخرى في استمرارية مسيرة العقل، وجدليته مع الإيمان، فبعد أن كان العقل البدائي يحتاج إلى عدد غفير من الآلهة لتفسير ظواهر بيئته، وللإشراف على ميادين حياته، راح العقل في تطوره يقلص هذا العدد الغفير شيئاً فشيئاً بتوحيد الآلهة المشرفة على ظواهر وميادين متشابهة، ثم نصب كبيراً على هذه الآلهة ليحكمها ويحكم بينها، وفي مرحلة أعلى من التطور العقلي، وجد العقل أنه بحاجة إلى إله واحد فقط ليقوم بكل ما تقدم، ثم تطور لاحقاً إلى درجة أنه لم يعد بحاجة إلى فرضية الله لتفسير العالم، وإدارة حياة الإنسان.
5. حتى اليوم ما يزال الدين يمر من بوابة اللاعقل، وما يزال ظاهرة لاعقلانية تقوم على الإيمان والتسليم، وتنتقل بالتلقين من جيل إلى جيل، وفي هذا يتساوى جميع المتدينين من جميع الأديان رغم ما بينها من خلاف وتناقض وتنافي.
ما تقدم يعني أن الدين والعقل على طرفي نقيض من حيث المبدأ، فالدين في مزاعم سماوية لا يستطيع عقلياً أن يتجاوز العقل، وهو بحاجة، وعلى مستويات مختلفة لقرار العقل واعترافه ومصادقته، وهذه الحقيقة تعري عدم قدرة الدين على أن يقدم للعقل أي شيء لا يمكن للعقل أن يحققه بنفسه، وهذا يتناقض مع مبرر ضرورة الدين القائم على عدم كفاية العقل، وبالتالي ليس أمام الدين إلا أن يغيّب العقل على مستوى المبادئ الدينية، التي يقيمها الدين على أسس الغيب، والإيمان، والتسليم، المعلاة قسراً فوق مستوى العقل، الذي يصبح دوره هنا ثانوياً، وبذلك يغيب العقل عن مسيرة الفعل الحقيقي، ليمضي الدين في طريقه غير العقلاني المحفوف بالمخاطر على الإنسان فرداً ومجتمعاً، والذي كثيراً ما يجعله في الظروف المحيطة المواتية حصناً حامياً للتخلف، ومنبتاً خصباً للتطرف، والعنصرية، والعنف التكفيري.
هنا لا مفر من تفعيل وتنمية دور العقل، للحد من غلواء الإيمانية الغيبية، وما يمكن أن تسببه من ترسيخ للتخلف والانحطاط، وعرقلة أو إقصاء للعلم والمعرفة، أو توليد أو تنمية للتعصب، والعنصرية، المؤديين بدورهما إلى التناحر والصراع.
فهل من الممكن تحقيق درجة كافية من التوازن والتوافق بين الدين والعقل؟، وكيف يمكن الجمع بين ما هو عقلاني، وما هو غير عقلاني وهما نقيضان؟!
حقيقةً إن الطبيعة اللاعقلانية للدين بحد ذاته، بقدر ما هي عامل مناقض للعقل، إلا أنها تجعل الدين دوماً قابلاً لقراءات مختلفة، ومن هنا يمكن للعقل أن يعبر إلى ساحة الدين، لكن هذا العبور غالباً ما يأتي من الخارج، أي من البيئة الاجتماعية التي يتواجد فيها دين ما، ولكي يتمكن العقل من إنجاز هذه المهمة، يجب أن ترتقي سوية حضور العقل في هذه البيئة، وهذا الحضور الارتقائي لكي يتم يحتاج إلى عملية تطوير شاملة، يتكامل فيها العمل التطويري على صعد الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتربية، والتعليم، وغيرها من الصعد.
ومع كل خطوة في مسار التطوير، سيصبح العقل أكثر حضوراً في المجتمع، وسيفرض على الدين تحديات لا يمكنه تجاهلها أو قمعها، فلا يكون أمامه إلا الاستجابة لها ومجاراتها.
فهنا ستجد القوى الدينية نفسها مضطرة لتطوير خطابها الديني، وجعله أقرب ما يمكن إلى العقل والعلم، لأن أية قوة دينية لا تفعل ذلك، وتستمر في خطابها الموغل في اللاعقلانية، سيقل عدد أتباعها بالتدريج نتيجة منافسة القوى العقلانية اللادينية، أو القوى الدينية الأخرى التي تستجيب لتحديات العقل والعلم! ولن يبقى لدى هذه القوة المحافظة في المحصلة إلا العنصر الأميّ معرفياً، والمستلب وعيوياً، والذي ستتناقص كميته أيضاً مع استمرار عملية التطور.
وعندما تقوم القوى الدينية نفسها بتطوير خطابها، حتى ولو كان ذلك فعلاً اضطرارياً، فهي بذلك تقدم خطاباً أفضل لكل من يتبعها سواء كان شخصاً يغلب عليه الاستلاب، أو تغلب عليه الفاعلية، وهذا التطوير في الخطاب، سيصبح واجباً مستمراً، فتوقـّفه عند مرحلة ما سيجعله متخارجاً مع الواقع الاجتماعي الديناميكي المتطور معرفياً الذي سيتجاوزه، مما سيجعل أتباع أية قوة محافظة يضمحلون تدريجياً، فيما لو استمر جمودها العقائدي.
بهذا الشكل، يمكن تحقيق توازن مقبول بين الدين والعقل، ولكنه يبقى توازناً قلقاً ما لم يترسخ التطور الاجتماعي، فالأزمات الاجتماعية – مهما اختلفت أسبابها- تدفع الناس عادة إلى الخلف والأسفل، فبقدر ما تكون الأزمات حادّة، تضعف المناعة العقلانية والنفسية للناس، وتتولّد أو تتفعّل لديهم المحركات النكوصية، التي تعيدهم إلى حظائر اللاعقلانية، والعصبيات العمياء، التي تصبح بدورها عاملاً مفاقما للأزمة، لتحل في المحصلة غريزة القطيع محل الوعي العقلاني، والانتماء الإنساني.
لكن التوازن بين العقل والدين، لا ينعكس إيجابياً على الدين وحده، فمع تقدم وترسخ حضور العقل، وازدياد قوته وفاعليته كما في المجتمعات المتقدمة، يمكن للدين من حيث المبدأ أن يلعب دوره الإيجابي كعامل وقائي يقي العقل من التحول إلى مجرد عقل وظيفي فاقد للضوابط الإنسانية، ومهيمناً عليه من قبل النزعات الاستهلاكية المتضخمة على مستوى الفرد والمجتمع، ومن قبل القوى الساعية إلى الثروة والسيطرة على مستوى المجتمع والدولة، مما يغرق المجتمع في هاوية الثقافة الاستهلاكية، والدولة في أتون السياسة العدوانية، ويفقد المجتمع والفرد بالتالي إنسانيتهما واجتماعيتهما، ويحولهما إلى كتلة بشرية فاقدة للرابطة الإنسانية من الأفراد المنفردين المستلبين في هذه الغابة البشرية، التي دفع المجتمع إليها انفلاتُ القوى الطامعة المتعطشة للمال والسلطة، وما يرتبط به جوهرياً من تزايد للشهوات المتنامية الباحثة عن المتع الحسية كهدف أساسي للحياة، وإضافة إلى هذا وذاك، وبينهما تضخم الأنا الفردية كضرورة، ونتيجة لكليهما.
وعند هذه النقطة يلعب الدين دوره البنّاء كعامل ثقافي وروحي معاً، ويساعد الفرد على حفظ إنسانيته، والمجتمع على الحفاظ على ثقافته واجتماعيته، وبالتضافر مع قوى إنسانية متنوعة أخرى يتمكّن المجتمع من التصدي لقوى السيطرة والاستهلاك، ولهجوم السوق ورأس المال، والانتهازيات بكافة أشكالها، ولاسيما السياسية منها، ويساهم في تعزيز الرابطة بين العقل والأخلاق الإنسانية، مما يحافظ على إنسانية العقل.
وهذا الدور يلعبه الدين اليوم في الغرب الرأسمالي بشكل فعلي، لكنه دور محدود الفاعلية، ولا يكفي قطعاً لتغيير طبيعة الرأسمالية، المتناقضة مع كل من الثقافة والروح الإنسانيتين.
بالطبع يمكن للإنسان المعاصر مع ما بلغه من عقل وعلم في المجتمعات المتقدمة أن يستغني عن الدين كدين بشكل كامل، ولكن هنا يُطرح السؤال عن المسار الذي سيمضي فيه إنسان العقل والعلم المتخلي عن الدين؟. فإن كان الدين بطبيعته اللاعقلانية متناقضاً مع العقل، ومصدراً كبيراً من مصادر الشر عند تغييبه للعقل، وهذا ما نرى الأمثلة الجلية عليه في الإرهاب التكفيري، والصراعات الطائفية في بلدان شرقنا المتدين اللاعقلاني. فالعقل بدوره لا يكفي، والتجربة في البلدان الغربية المتطورة أثبتت أن خيار العقل وحده لا يحمي، ولا ينمّي إنسانية الإنسان، فتلك البلدان هي الأخرى راحت تتخبط في دوامات الاستهلاكية، وتمعن في سياساتها العدوانية، والعقل الغربي لم يمنع الغربيين من خوض الكثير من الصراعات الدامية في ما بينهم، وفي ذورتها حربين عالميتين كارثيتين، ولم يمنعهم من العدوانات الاستعمارية الفاحشة العنف المختلفة الأشكال، التي كثيراً ما وصلت إلى حد الإبادة الجمعية، والتي ما تزال مستمرة حتى اليوم. والعقل الغربي لم يساعد الغربيين على تحقيق العدل الاجتماعي، والرفاه المعيشي العام في مجتمعاتهم، فالتمايز الطبقي ما زال يتفاقم، لتستأثر قلة بالثروة والسلطة، بينما يعاني الملايين من البطالة أو يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعاني أكثرهم غياب الأمان الاقتصادي الحقيقي، فالرأسمالية المأزومة بطبيعتها يمكنها دوماً أن تتسبب بكوارث تلقي بالملايين من العمال على قارعة الطريق عاطلين عن العمل.
فأين العقل الغربي من كل هذا، وهو العقل الأكثر تطوراً عالمياً؟
حقيقةً لقد فصل ذلك العقل نفسه عن الإنسانية، وتحول إلى خادم لأرباب السلطة والمال، ليخدمهم في كل سياساتهم، ويوفر لهم كل ما يحتاجونه من خطط وأدوات، حتى ولو كانت أسلحة دمار شامل.
في مجتمعاتنا العربية العقل مشلول، والدين يلعب دوره في ذلك إلى جانب الديكتاتورية السياسية، والأعراف الاجتماعية المتخلفة، والفساد والطفيلية الاقتصاديين، وفي المحصلة ينتج واقع مأزوم على كافة الصعد، وهذا التأزم المترافق جدلياً مع غياب العقل يعود فينتج ذلك الشكل المأزوم من الدين، الذي كثيراً ما يصل إلى أقصى درجات التوحش.
ما يحتاجه شرقنا العربي هو عملية عقلنة متكاملة مع عملية تطوير شاملة تضعه على المسار الإنساني الصحيح.
وفي المقابل، يحتاج الغرب إلى "عودة الروح" إلى مجتمعاته، بعد أن أقصتها الرأسمالية، وهيمنت على العقل، لتجعله خادماً لتوحشها.
وقد أثبت الواقع العملي من خلال التجربة السوفييتية أن الحل الاقتصادي الاشتراكي، لم يكن وحده بالبديل الإنساني الكافي للرأسمالية الغربية المتوحشة، فقد بقيت الروح الإنسانية غائبة عن الواقع السوفييتي بدرجة لا تقل عن غيابها عن الواقع الرأسمالي، وبقيت الاستهلاكية والاستلاب هما المهيمنان عليه، لاسيما تحت وطأة الديكتاتورية السياسية! وهذا الغياب للروح الإنسانية كان أحد الأسباب الأساسية لانهيار هذه التجربة الاشتراكية وعودة الرأسمالية، لأن البيئة الثقافية والنفسية المتدنية إنسانياً كانت مناسبة لها!
الإنسان يحتاج دوماً إلى روحانيته، إلى روحه الإنسانية، التي من دونها لن يحقق إنسانيته، ولن يجد أي معنى حقيقي لوجوده وحياته الإنسانيين، مهما أعطي من حقوق، وإمكانيات اجتماعية واقتصادية، وحريات مدنية وسياسية، وحيث يغيب العقل لا يمكن للدين أن يلعب أي دور روحي أو إنساني، لكن إقصاء الدين بدوره، وعدم توفير البديل الروحي، لا يجعل العقل وحده قطعاً سبيلاً لتحقيق إنسانية الإنسان، فلكي تتحقق هذه الإنسانية تحتاج إلى ميدان روحي، وفي مجتمع معقلن بما يكفي يمكن للدين أن يلعب مثل هذا الدور، لكن هذا لا يعني قطعاً أنه اللاعب الكافي أو الممكن الوحيد، وربما تكون فلسفة روحية عصرية منتظرة هي الأنسب مبدئياً لإنسان العقل العلمي العصري.
وما نوجزه كخلاصة في خاتمة هذا المقال، هو أن الإنسان الحقيقي لا يحقق إنسانيته إلا بتكامل عقلانيته وروحيته، والدين يمكنه أن يكون لاعباً روحياً بإشراف العقل، لكن ديناً بلا عقل لا يقود إلا إلى حالة من التوحش، وعقلاً بلا دين وبلا أي بديل روحي آخر هو الآخر لن يكون إلا خادماً للتوحش. وهذا ما نجد نماذجه في شكلي التوحش الشرقي والغربي، حيث نجد في الشرق شبه المتمدن توحش غياب العقل الإنساني، وفي الغرب المتمدن رأسمالياً توحش غياب الروح الإنسانية، وللخروج من لجج التوحش هذه إلى شطآن الأمان الإنساني الحقيقي، لا بد للإنسان المعاصر من مكاملة وتنمية ما لديه من قوى العقل والروح، والسير على طريق العقلانية الإنسانية، التي لا ينفصل فيها العقل عن روحية الإنسان، فيبقى عقلاً إنسانياً.
*إن أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية سوف تحوّلك إلى ملحد، ولكن فى قاع الكأس، ستجد الله فى إنتظارك!
- فيرنر هايزنبرغ*