info@suwar-magazine.org

نبوءة الخلاص من الحروب بحلم طفوليّ.. فيلم (الرجل الذي سيأتي)

نبوءة الخلاص من الحروب بحلم طفوليّ.. فيلم (الرجل الذي سيأتي)
Whatsapp
Facebook Share

 

بنبوءة حالمة مناجية من صميم الأعماق  ومواجعها المستعرة لهيباً في الذاكرة والمتراكمة رماداً في الأوردة المسكونة بنزيف المشاهد التي استحوذت عقلية الأطفال قبل الكبار، مبدّلة السكينة بقلق معجون بالدماء و قسوة مناظر الموت بتجلّياته التي أصابت الأفئدة قبل الألسنة. بخرس وشلل قَدَريّ أمام هذا المصير، ليكون الناس الأبرياء والطفولة حاضرَين فيه كممثّلين أحياء على خشبة ومنصّة الحياة، والتي استطاعت بكثير من الحِنكة والبراعة أن تخطّ تفاصيله السينما اللونية للمخرج الإيطاليّ (جورجيو ديريتي ) عبر فيلمه ( الرجل الذي سيأتي).

 

يروي جورجيو ديريتي عبر فيلمه "الرجل الذي سيأتي" سيرة مدينة تشهد حرباً خاصّة من نوعها، تعرّض لها ريف إحدى المدن الإيطالية، حيث وقعت تحت الاحتلال  النازي من جهة، وظلم النظام الحاكم الفاشي هناك من جهة أخرى،  فقُتِل الكثير من أُناسها  وشُرّدوا واغتُصبت نساؤها وتلعثمت براءة أطفالها، ولم تترك لهم سوى الدمار وبعض الثوار الذين يدافعون عن الناس البسطاء ضحايا هذه الحرب المجنونة التي لم يبقَ لهم فيها إلا تفاصيل لهواجس حلم كامن لدى الطفولة المدمّاة و الأروقة الممزّقة بالخلاص من بشاعتها وحيثيّاتها.

 

يبدأ المخرج (جورجيو ديريتي ) قصّة سيمفونيّته السينمائية الحزينة الواقعية بقصّة الطفولة منطلقاً من حكاية الفتاة مارتينا، وهي طفلة في الثامنة توفي أخوها في الحرب بين ذراعيها لسبب مجهول, فانعقد لسانها وفقدت القدرة على الكلام. وعاقبت نفسها بنفسِها، فأفقدها تأنيبها لضميرها الكثير من أوصاف الطفولة. حتى باتت موضع سخرية أمثالها من أطفال البلدة. تعيش في منزل والدها المزارع الثائر وجدّها المُقعَد على فراش الموت, وجدّتها العجوز المتصلّبة الرأي, ووالدتها الرؤوم الكادحة.

 

وبعد قدوم وازدياد همجيّة الحرب في المدينة التي كانوا يسكنوها، عادت هذه الطفلة مع أسرتها هاربة تبحث عن مأمن لحياتها وعائلتها من ألسنة الحرب وهمجيّتها إلى قريتها الريفية بعد أن التاعوا  جميعاً من نيران و قسوة الحياة هناك، التي لامست كل فرد منهم بدءاً من الأمّ الحامل والأب الباحث عن عمل لتأمين معيشتهم ، والذي أصبح بعد عودته تحت سطوة النظام الإقطاعي الحاكم للبلدة التي بدأ الثوار من أهلها بتشكيل حركة لتحرير البلاد من ظلم الغزاة الألمان والطغاة الإقطاعيين، حيث أخذ الوالد يستقبل الدعوات للانضمام إلى الثوار،  ولكن مع ولادة الأم لطفلها الجديد يحصل ما لم يتمّ حسبانه، حيث بقي الموت الذي كانت العائلة تحاول الهروب منه مستمرّاً، فتتعرّض هذه القرية الريفية الهادئة  لهجوم من قِبَل النازيين عليها، ويحتدم الصراع بين الألمان المحتلّين والإقطاع من جهة، وبين الثوار من جهة أخرى.

 

 

ترصد كاميرا المخرج بتراتب درامي كل إشكال الصراعات بدءاً من الداخلية الخفيفة بين أفراد العائلة الواحدة وصولاً إلى أعنفها وأشدّها، وهو ازدياد حدّة ممارسات الاحتلال النازي العنيفة والظالمة لأفراد البلدة، انتهت بمجزرة بين أهاليها لم ينجُ منها سوى القليل  وبأعجوبة، ومن بينهم الطفلة مارتينا الخرساء وأخوها المولود الجديد، حيث لم يكن ذنب هؤلاء الناس أبداً سوى التعاطف مع الثوار المحاربين من أجل حرّيتهم وسلامهم.

 

لم يغفل المخرج أمام كل جزئيّات هذه المأساة في استعراض تفاصيل الريف بطبيعته  خلال أربعينيات القرن الماضي، والتي غَدَت حزينة، مُحدِثاً فارقاً صورياً لدى المشاهد بين الريف والمدينة، مستذكراً كثيراً من الحيثيّات والتعرّض لبعض الرموز الدينية في القرية مثلاً، كالكنسية الجديدة التي تعبّر عن طقوس الدين المسيحي الذي يعتنقه أهالي البلدة الريفية، والتي فرّوا إليها، واعتبروها ملجأ عند هجوم النازيين عليهم .

 

 مركّزاً على مناظر خلابة من الحقول والغابات والمنازل الأثرية في الريف  بما يخدم غرضه في جعل المشاهد أكثر تعلّقاً بتلك البلدة وبالتالي إحساساً بمأساتها..

 

استطاع المخرج بكل حِرفية ترجمة قصيدته السينمائية بفيلمه ( الرجل الذي سيأتي ) بحساسية شاعر سينمائيّ، التقط المشاهد وعبّر عنها، وعلى الرغم من أن الفيلم يتميّز  بقلّة الحوارات، إلا أنه لا تظهر فيه عيوب في السيناريو، لقد استعاض في كثير من الأوقات بالصورة عن الصوت وحتى عن الموسيقى أحياناً, ولاسيّما حين سرد أحداثاً، هي في الأساس تتمّ بهدوء وسكون، جاعلاً من التشويق فلسفته لمعرفة مصير القرية وأبنائها، وخاصة حينما استخدم الطفلة الخرساء مارتينا التي استعاضت عن كلامها ومأساتها بالكتابة لتجلس في نهاية الفيلم لتدوّن مذكراتها بعينين بريئتين وقلب طفوليّ وفكر متسائل يناجي كل ما حوله السلام، طالباً يدَ  العون أو قدرة إلهية متجسّدة بشخص أو قَدَر في الأيام القادمة، لترأف بها وتُحِلّ العدالة والرحمة وتطفئ نار الحرب في المدينة.

 

فورد بنصّ شديد التعبير والإيحاء، وأصرّ المخرج على إظهاره في مذ كرات الطفلة مارتينا الخرساء، وذلك كفلسفة طفولية للحرب لا تعي إطلاقاً ماهي السياسة تقول فيه التالي: ((عائلتي من المزارعين, هناك القليل منهم.. ولكن لي أخاً صغيراً. يعملون في الأرض لرجل لديه حصان جميل, لكن والدي يقول إنه يأخذ الكثير من الحصاد, وإنه ما زال سيّداً. أحياناً الألمان يأتون ليبتاعوا بعض الأشياء، هم لا يتحدّثون الإيطالية، وأنا لا أعلم لماذا يأتون هنا, في حين يمكنهم أن يكونوا في منازلهم مع أولادهم, لأن لديهم أطفالاً أيضاً. عند الألمان بنادق، وهم يطلقون النار على العدو, لكنني لا أعرف من هو العدو. سمعتُ أنهم في حرب ضد الحلفاء, لكنني لم أرهم مطلقاً. ثم أن هناك الثوار الذين يحاربون، لأنهم يقولون أن على الألمان الرحيل. لدى الثوار أسلحة كذلك, ومعظمهم يتحدّث لغتنا ويرتدي مثلنا…هناك فاشيون أيضاً, يأتون ويتحدّثون لغتنا كذلك، لكنهم يصيحون ويقولون إن الثوار قطّاع طُرق يجب أن يُقتَلوا. هذا ما أفهمه:  كثير من الناس يريدون قتل الآخرين، لكنني لا أعرف لماذا((.

 

بذلك يكون فيلم (الرجل الذي سيأتي) تجسيداً لتلك  الرمزية للخلاص  بنظرة مستقبلية لذاك الشخص المنقذ للأرواح، من بشاعة الحروب مخلّصاً الناس والبلاد بتباشير السلام، ويعيش الأحياء بلا نَزَق البارود وألاعيب أسلحة الكبار والساسة، ليكون كل الأطفال قادرين على النطق بالفرح، ووحدها الدماء تبقى خرساء، سلاماً يعطيهم وأماناً يحميهم.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard