info@suwar-magazine.org

التنوّع الثقافيّ والوحدة الوطنيّة (2)

التنوّع الثقافيّ والوحدة الوطنيّة (2)
Whatsapp
Facebook Share

 

 

تناولنا في مقالة سابقة وجهاً من وجوه التنوّع الثقافيّ في سوريا، عنينا به التنوّع الإثني والديني والمذهبي، وافترضنا أن إمكان تشكّل ثقافة وطنيّة سوريّة يتوقّف على شرطين أساسيّين، من بين شروط أخرى، الشرط الأول هو تساوي الثقافات المختلفة، كالعربية والكردية والآثورية والأرمنية .. إلخ في القيمة الروحيّة، بغضّ النظر عن عدد المنتمين إليها؛ وهذا يفترض تساوي الجماعات الثقافية المختلفة في الكرامة الإنسانية وفي الحرّيات والحقوق، التي حدّدتها شرعة حقوق الإنسان والعهود والاتفاقات ذات الصلة، فلا يحقّ لأيّ ثقافة أن تفرض نفسها ثقافةً معيارية. والشرط الثاني هو اكتشاف المشترك بين هذه الثقافات، على تنوّعها واختلافها، وهذا يفترض الاعتراف المتبادل، والاحترام المتبادل بين الجماعات المعنيّة، ثانياً.

 

لهذين الشرطين بعد عمومي، يحيل على جدلية الاختلاف والتشابه، أو على مبدأ التناغم والاتّساق بين الاختلافات والتعارضات، الذي أشبه ما يكون بقانون تشكّل الوحدة الوطنيّة والثقافة الوطنيّة، المنفتحتين على آفاق إنسانية عامّة؛ بخلاف مبادئ وآليّات الإلحاق والصهر والتذويب والتوحيد والدمج .. إلخ، التي تمارسها السلطات السياسية والسلطات التعليمية والثقافية، وبخلاف مبادئ الاستبعاد والإقصاء والتهميش أيضاً، أي بخلاف جميع المبادئ والآليّات ذات الطابع القسريّ المصحوبة بأشكال مختلفة من العنف.

 

فإن مبدأ الاتّساق والتناغم، الذي تتشكّل بموجبه النظم والمنظومات الإيكولوجية، والذي يُنتج الروائع الأدبية والفنّية والعلمية والعمرانية ... يُظهر تفاهة الذرائع القومية والوطنية والدينية، التي تتذرّع بها السلطات المستبدّة للقضاء على أي محاولة للانعتاق والاستقلال الذاتي والتحقّق الكياني للأفراد والجماعات، وأيّ محاولة للنقد والمعارضة وأيّ دعوة إلى الإصلاح.

 

لقد آثرنا استعمال مفهوم التنوّع الثقافي بدلاً من التعدّد الثقافي، الذي يفترض الثقافات هويّاتٍ ناجزةً، لكي نتلافى الإيحاء الأيديولوجي الذي رافق ميلاد "التعدّدية الثقافيّة"، التي تهتمّ بتعيين التخوم الفارقة، الفاصلة، بين الثقافات، ولا سيّما بين ثقافة الأكثرية، وثقافات "الأقليات"، في حين يشير مفهوم التنوّع إلى الفروق الفاصلة – الواصلة بين الثقافات، التي تعدّ كل منها حقلاً للتفاعلات المرافقة والناظمة لعمليات التشكّل الاجتماعي – السياسي وأنماط العيش، التي لا تتوقّف، ضمن حقل أوسع فأوسع باطّراد، في أفق الإنسانية المثقّفة. إن مفهوم التنوّع الثقافي يستدعي مفهوم التناغم الثقافي أو الاتّساق الثقافي، بدلاً من "التوحيد"، الذي يفترض التجانس، ويستبعد الاختلاف ويطمس الحدود، نعني بالتناغم "التنسيق الملائم للاختلافات والتناقضات". فالتناغم بالتعريف هو الاتّساق، الذي يعني انضمام المختلفات بعضها إلى بعض وانتظامها في نسق أو نظام، أو اجتماع المختلفين والمختلفات على نظام مشترك ومقبول منهم ومنهنّ جميعاً، وكل ما انضمّ وانتظم فقد اتّسق، حسب القاموس. (راجع/ي، لسان العرب مادة وسق)

 

في ضوء ما تقدّم، سوف نتوقّف عند وجه آخر من وجوه التنوّع الثقافي، هو وجود ثقافتين مختلفتين لدى أيّ جماعة وفي أيّ مجتمع، ولكن هاتين الثقافتين متلازمتان، وتؤثّر كل منهما في الأخرى وتتأثّر بها، نعني الثقافة الشفوية والثقافة المكتوبة، تتوسّط بينهما ثقافة مُذاعة أو مُتلفزة أو مُمسرحة، أو غير ذلك من الأشكال التي تتوسّط بين الكلام والكتابة، وتنهل منهما، ولا سيما الثقافة التي تشكّلها، اليوم، أو تسهم في تشكيلها الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي يحلو لكثيرين أن يصفوها بالثقافة المُعَولمة، على ما لهذا الوصف من إيحاء استنكاريّ، يحجب حقيقة الموصوف.

 

كثيراً ما يلتبس مفهوم الثقافة الشفوية بمفهوم "الثقافة الشعبية"، ومفهوم الثقافة المكتوبة بمفهوم الثقافة العالِمة، ويصفها بعضهم بـ "الثقافة الرفيعة"، على اعتبار الثقافة الشعبية ثقافة وضيعة. هذا الالتباس يرجع إلى أوقات ماضية كانت فيها نسبة الأمية الهجائية عالية جداً، وكانت الكتابة والقراءة موقوفتين على "نخبة" قليلة العدد، تحوط المقدّس وتحافظ عليه، وتحدّد ما يمكن نشره أو إذاعته على "العامّة" شفاهة أو كتابة، وتعيّن حدود الحلال والحرام والمحظور والمُباح والخير والشرّ والحقّ والباطل ... إلخ، ذلك قبل ظهور المدرسة العلمانية وتشكُّل فئة المتعلّمين وتوسُّعِها، ثم فئة الكتّاب والباحثين والعلماء ... وانفتاح عدد قليل منهم على ثقافات عالمية، واهتمامهم بالنقل عنها والترجمة منها.

 

لهاتين الثقافتين، الشفوية والمكتوبة، امتداد أفقي، في أي جماعة أو مجتمع؛ هذا الامتداد يجعل من أيّ ثقافة إثنية أو دينية أو مذهبية ...  ومن أيّ "ثقافة قومية" أو ثقافة وطنية، ثقافتين، بل ثلاثاً: ثقافة محكيّة – مسموعة، و / أو محكيّة وممثَّلة - مسموعة ومرئية، وثقافة مكتوبة - مقروءة، تؤثّر كل منها في الأخريين وتتأثّر بهما؛ وهذا ممّا يولّد مشكلات لسانية ولغوية جديدة، ويكشف عن مدى التعقيد في الحياة الاجتماعية والبنى الثقافية.

 

فكلما ازداد التعقيد تزداد حظوظ الحرّية.

 

مع ذلك تظلّ الثقافتان الشفوية والمكتوبة، وفق التقسيم التقليدي، خاضعتين لمنطق التنوّع والاختلاف، تنوّع الحقول واختلاف الميول والاتّجاهات لا على صعيد المجتمع الكلّيّ، أو المجتمع الكبير فقط، بل على صعيد المجتمعات الصغيرة أيضاً، ويضاف إلى هذا الاختلاف والتنوّع اختلاف اللهجات الناتج من عوامل إيكولوجية، تؤثّر في بنية الجهاز الصوتيّ، ومخارج الحروف، وفي بنية اللغة ذاتها. وإذ لا تنفصل الثقافة عن اللغة، تكون الثقافة شكل حضورنا في العالم وحضور العالم في أذهاننا ونفوسنا، سواء على صعيد الخبرات اللغوية والممارسات الخطابية وأنماط السلوك أم على صعيد المعارف المنظَّمة والمُؤرشفة والمخزَّنة والشفرات، التي تعيّن ملامح الشخصية الفردية والجمعية، والتي يرى فيها بعضهم محدّدات للهوية.

 

الاستثناء السوريّ، على الصعيد الثقافي، هو اندماج الثقافة، منذ وقت طويل، في الاقتصاد السياسي للسيطرة الشمولية والعنف، حتى غدت الثقافة واحدة من أهمّ أدوات هذا العنف وتلك السيطرة، فكانت نتيجةَ هذا الاندماج، الذي كان، في واقع الحال، محاولة للسيطرة على التنوّع والاختلاف، أن انمسخت الثقافة وتحوّلت إلى "ثقافة جماهيرية"، بالمعنى الذي بلورته حنة أرندت لهذا النوع من الثقافة. تلك المحاولة، التي أحرزت نجاحاً ظرفياً كان لها وجهان متناقضان: الإلحاق والإتباع والتذويب القسريّ من جانب والإقصاء والتهميش من الجانب المقابل: الوجه الأول كان يعرض صورة وهميّة لمجتمع متجانس، "مجتمع بلا طبقات"، بلا إثنيّات، بلا مذاهب دينية، وبلا اتّجاهات فكرية وسياسية، مجتمع الحزب القائد والرأي الواحد والأسد إلى الأبد، والوجه الآخر هو القمع المعمّم، لفرض تلك الصورة الوهمية على أنها الصورة الحقيقية.

 

تضعنا هذه التقسيمات أمام لوحة ثقافية مركّبة الخطوط والألوان والأضواء والظلال، والأصوات والأصداء، تفرض علينا تعريفاً جديداً للثقافة بأنها ترجمة مكانية - زمانية حيّة للطبيعة البشرية، التي تؤسّس العالم، وتتأسّس فيه، والتي تنمو، وتتحسَّن، فيه بقدر ما تنمِّيه، وتحسِّنه. الثقافة ترجمة لطبيعتنا الإنسانية، مثلما أجسادنا - أرواحنا ترجمة لشفراتنا الجينية وخصائصها الفردية – النوعية، بلغة من أربعة حروف. هذه الترجمة صارت تفرض علينا إعادة التفكير في ثنائية المادية والمثالية، وفي مقولتي البنية التحتية والبنية الفوقية، وفصل الماهيّة عن الوجود، وأولوية الجماعة أو المجتمع على الفرد، ونقد مبدأ الأولوية ذاته؛ لتأسيس رؤية نقدية جديدة قائمة على مبدأ الاتّساق والتناغم بين الاختلافات والتعارضات، التي تنسج النظم والمنظومات. فقد حان الوقت لكي ننظر إلى "الوحدة الوطنية" و"الثقافة الوطنية" نظرة نسقيّة أو منظوميّة، وفق مبدأ التناغم والاتّساق والانتظام الحرّ والمشاركة المبدعة.

 

وإذ نميل إلى ترجيح أوّلية الكلام وأسبقيّته على الكتابة، نعتبر الكتابة تطوّراً نوعياً في تاريخ الإنسان. لم يعد الإنسان، بعد هذا التطوّر، حيواناً ناطقاً. فقد كشفت الكتابة عن خصائص جديدة للطبيعة البشرية، تضعها في مقابل الطبيعة الأوّلية وفي معارضتها، إذ الكتابة بشرية خالصة، تستعمل أدوات طبيعية، كالأقلام والحبر والورق. فليس عبثاً أن التطوّر التاريخي يتّجه إلى القضاء على الأمّية الهجائية وتطوير الكتابة إلى كتابة رقمية، (لغة البرمجة المؤلّفة من حرفين أو رمزين)، لا تستغني لا عن اللغة ما قبل الرقمية ولا عن حقول المعرفة والثقافة.

 

إضافة إلى الثقافة الجماهيرية، التي أشرنا إليها، واعتبرناها استثناء سورياً، نريد أن نتوقّف عند سمتين تميّزان الثقافات الشفوية في سوريا، هذه الثقافات لا يمكن اعتبارها محض ثقافات جماهيرية أو شعبية، لأنها متفشّية في المدارس والجامعات وأوساط النخبة. السمة الأولى أن كل واحدة من هذه الثقافات يمكن أن تعبّر عن شخصية نموذجية، أو عن نموذج من نماذج الشخصية الفردية – الجمعية: شخصية العربي، شخصية الكردي، شخصية الأرمني ... إلخ، أو شخصية المسلم السنّي، أو شخصية المسيحي، أو شخصية العلوي أو الدرزي ... إلخ، وقلما تعبّر عن شخصية السوري أو السورية. هنا ينطرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمّية والخطورة، هو: إذا كانت النصوص المكتوبة تتّجه إلى قارئ/ـة مجهول/ـة، ومن ثم، تعدّ ارتقاء من المحلّية إلى الوطنية، ثم إلى العالمية (من طريق الترجمة)، فإلى أيّ مدى عبّرت الثقافة المكتوبة في سوريا، أو تعبّر اليوم عن شخصية سوريّة؟ بتعبير آخر: هل تتوفّر الثقافة المكتوبة على قدر من التناغم والاتّساق، أكثر من الثقافات الشفوية؟ وبكلمات أقلّ: هل تشكّلت ثقافة سوريّة؟

 

السمة الثانية تتعلّق بكون الثقافات الشفوية تعيّن فضاءات خاصة، على تدرّج في مدى الخصوصية، من الأسرة أو العائلة الممتدّة إلى العشيرة فالطائفة فالجماعة الإثنية، ومن ثم، إن هذه الثقافات هي التي تشكّل وعي الناشئة، فتسهم في إعادة إنتاج التقليد، وإعادة إنتاج التحاجز الاجتماعي، خاصة حين تتماهى الثقافة والهوية.

 

وإذ نعتبر الثقافة "بلازما وجودية"، تغذّي الروح الإنسانية، وبنية منظَّمة، ومنظِّمة للحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، نعتبر أن المعيار الرئيس لنموّ الثقافة وثرائها وارتقائها هو مدى ما تتيحه من فرص للتفكير الحرّ، بل مدى ما تقتضيه من التفكير الحرّ. يتعلّق الأمر بكيفية استهلاك الثقافة، أو كيفية إنفاق رأس المال الثقافي، الذي يفترض أنه ينمو طرداً ويتجدّد بزيادة إنفاقه. على هذا الصعيد، لا يستطيع المرء إلا أن يكون مغتمَّاً لواقع الثقافة في سوريا، قبل الحديث عن ثقافة سوريّة منسوجة على نول التناغم والاتّساق.

 

وللحديث صِلَة

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard