info@suwar-magazine.org

عن إدلب وتجارة الأوهام في أستانا

عن إدلب وتجارة الأوهام في أستانا
Whatsapp
Facebook Share

 

 

موجة تصعيد غير مسبوقة على ما يسمّى "منطقة خفض التصعيد" شمال غرب سوريا، تؤدّي إلى مجازر بحقّ المدنيين في إدلب وريفها هذه الأيام، يضاف إليها أنباء يجري تداولها بشأن بدء فصائل من "الجيش الوطني الحرّ" المرتبط بتركيا عمليةً عسكريةً في ريف حلب الشمالي بإسناد مباشر من الجيش التركي، بعدما تردّد عن اجتماعات بين مسؤولين روس ونظرائهم الأتراك لبحث مستقبل المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" في ريف حلب خصوصاً. هذه التطوّرات تستدعي النظر إليها مجتمعة وبشكل مترابط، ولن يكون من المبالغة القول إنها تمثّل النتائج الفعلية لمسار أستانا الذي انتهت قبلها بأيام الجولة الثانية عشرة منه.

 

غني عن البيان أنّ هذه الجولة، كسابقاتها، لم تفضِ إلى تحقيق أيّ شيء على الصعيد السياسي أو حتى في الملفّ الإنساني والتخفيف من معاناة المدنيين، علماً أنّ ذلك كان من الأمور التي ادّعى عرّابو الاجتماعات منذ بدايتها إيلاءه أهمّية قصوى فيها، وأنّه أحد أهم أسباب إطلاق هذا المسار.

 

لا يجادل عاقل بأنه على امتداد مسار أستانا لم تقدّم "الدول الضامنة"، وهي روسيا وتركيا وإيران، سوى إفراغ "الحلّ السياسي" من مضمونه وإفشاله عملياً، ثمّ مراكمة هذا الفشل وتكريسه من خلال الدوران في فراغ العناوين الممجوجة والعموميات التي لا تفضي إلى شيء ذي قيمة. والمفارقة، أنّ هذه الدول استطاعت بالرغم من ذلك تكريس لعبتها تلك بوصفها "مفاوضات" بين النظام والمعارضة، مدّعيةً أنّها تساهم في دفع "العملية السياسية" قُدماً بعد أن استطاعت، بمباركة المبعوث الأممي السابق ستيفان دي مستورا، أن تختزلها في مسخ يسمّى "اللجنة الدستورية" ما تزال ولادته متعثّرة. وكان ممّا سهّل هذا الاختزال أنّ بعض هيئات المعارضة السوريّة لم تكفّ عن التوهّم بأنّ الشروع في "عملية دستورية" هو خطوة أولى في سياق الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرار 2254 وبيان جنيف الأول، في حين أنّ القرار والبيان المذكورين نصّا عليها كخطوة لاحقة تأتي في سياق متكامل وبعد إنجاز سلسلة من الإجراءات، لا كمسألة منفصلة ومحدودة وممسوخة على النحو الذي تجري فيه مفاوضات "اللجنة الدستورية".

 

بناءً على ذلك، ما معنى أن يعلّق المبعوث الأممي الجديد غير بيدرسن الذي شارك في المحادثات، بأنها جرت "بشكل جيد جداً". وأي قيمة لتصريحات المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، والتي قال فيها إنّ "المحادثات تسير على الطريق الصحيح بشأن تشكيل اللجنة الدستورية مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا"، فضلاً عن تأكيده أن "مجموعة العمل المعنية بإطلاق سراح المحتجزين والمختفين قسرياً، وتبادل الجثث والكشف عن مصير المفقودين تواصل أعمالها". فلا "اللجنة الدستورية تشكّلت، ولا أُطلق سراح المعتقلين أو تمّ الكشف عن مصير المفقودين، باستثناء العملية الهزيلة التي سبقت موعد الاجتماع، وشملت مبادلة بضعة مقاتلين من المعارضة كانوا محتجزين لدى النظام بعدد مماثل من مقاتلي النظام الذين كانوا في قبضة إحدى الفصائل.

 

ولا حاجة لتبيان هزال ما يصدر عن "وفد المعارضة" من مواقف وتصريحات، كقول الرائد ياسر عبد الرحيم، وهو الناطق العسكري باسم الوفد، أنّه ومَن معه إنما يسعون من خلال مشاركتهم في أستانا إلى "التخفيف من معاناة المدنيين وذلك بمحاولة وقف القصف الروسي"، وهو ما لم يحصل مطلقاً بل على العكس من ذلك ازدادت وتيرة التصعيد الروسي، والغريب أنّ المتحدّث نفسه قال في إحدى لقاءاته الإعلامية على هامش الاجتماعات: "نعلم أنّ الروس يتلاعبون بنا"، واصفاً إياهم بالمجرمين. فإذا كان "الوفد المعارض" مدركاً أنه لا أكثر من ألعوبة في هذه المهزلة، لماذا يستمرّ فيها إذن؟

 

إنّ هذا المسار لم يكن في أيّ وقت أكثر من "منتدى علاقات عامة" يعمل من خلاله "الضامنون" على تنسيق جهودهم بغية التوصّل إلى تفاهمات تحفظ مصالح كلّ منهم، فأنجزوا سابقاً اتفاق "المدن الأربعة"، واستطاع اثنان منهما استعادة السيطرة على حلب مقابل إطلاق يد الثالث شمالها، وهكذا. من جهة أخرى يسعون معاً قدر الإمكان للحيلولة دون تفجّر الصدام نتيجة ما يعتري شراكتهم الأستانيّة من تعارض في المصالح حيناً وتباين في وجهات النظر أحياناً، ومن ثمّ فإنّ أي تحرّكات عسكرية لأي طرف في المناطق التي "يضمنها" هؤلاء، لن تتمّ بمعزل عن التشاور إن لم يكن التنسيق في شأنها.

 

على مستوىً آخر، يشكّل إصرارهم على مواصلة مسارهم هذا مناسبة للتذكير بأهمّية الدور الذي يلعبه كلّ منهم في سوريا وتكريسه، ومن ثمّ التأكيد على ضرورة إشراكهم في أي تسوية جدّية مقبلة. بل أكثر من ذلك، فقد وجدت إيران في اجتماع أستانا الأخير فرصةً لاستعراض دورها في سوريا كأحد أشكال الردّ على القرار الأمريكي بإدراج "الحرس الثوري" على لوائح الإرهاب، وهو الذي يشكّل القوّة الضاربة الأساسية التي يرتكز عليها نظام الملالي.

 

إنّ واقع الحال والمعطيات المستجدّة تؤكّد مراراً أنّ الحصيلة الفعلية لاجتماعات أستانا لا شأن لها بالبيانات المنمّقة، وابتسامات المجاملة والتفاؤل الكاذب أمام الكاميرات في العاصمة الكازاخية، وإنما تظهر هناك في الميدان على الأرض السوريّة، حيث تؤكّد التطوّرات التي تعقب كل دورة من اجتماعات أستانا، مرة تلو الأخرى، أنّ هؤلاء الضامنين لا يريدون في حقيقة الأمر إلا ضمان وتعزيز مصالحهم والسعي لاقتسام مناطق النفوذ فيما بينهم بعد أن رسموا حدودها بدماء السوريين، وعلى حساب قضيّتهم وبلادهم الممزّقة.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard