info@suwar-magazine.org

مشهدان من سيرة سجين .. حتميّة تاريخيّة ؟!

مشهدان من سيرة سجين .. حتميّة تاريخيّة ؟!
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 

 

 

المشهد الأول:

 

فُتح باب زنزانتي يوم الإثنين الموافق العاشر من كانون الأول عام 2012 في سجن اللاذقية المدنيّ كنتُ في حالة تأهّب لأنني أعرف أن  جلسة جديدة من محاكمتي بانتظاري, دقائق أصبحتُ فيها أمام غرفة الثياب المخصّصة للسجناء( لا يُسمح للسجين بمغادرة السجن إلا وهو يلبس لباس السجناء الموحّد، في حين يتمّ التغاضي عن هذا الشرط داخل السجن)، كنّا بحدود عشرة والحراس يصرخون بنا كي نسرع, لبستُ بدلة السجن على عجل، لكنها كانت فضفاضة جداً. تكرّم عليّ أحد الحرّاس وأعطاني زناراً طويلاً، تمكّنت بفضله من ربط سروال البدلة. قيّدونا جميعاً في سلسلة حديدية واحدة، وساقونا كما تُساق الحمير, لحسن حظّنا كانت قاعة المحاكمات لا تبعد سوى أمتار عن السجن، وليست هناك مشكلة سوى في درج سنصعده حتماً، لأن القاعة في الطابق الثاني، وفي الطابق الثاني تمّ فرزنا إلى القضاة المتخصّصين حسب نوع الجرم لكل واحد منّا, ومع أنني أشهد أن القاضي كان لطيفاً معي، وأبدى استياءَه من معاملتي كأنني مجرم جنائي خطير. لكن القوانين هي القوانين ولا يستطيع تغييرها, خرجت من عند القاضي وانتظرت في البهو حتى انتهى كل زملائي المجرمين من جلساتهم، ليعود الحرّاس ويسوقونا إلى السجن من جديد، ومن نفس الطريق الذي يسلكه المراجعون، وكأنهم يتقصّدون أن يخيفوهم بهذا المنظر، لكي لايقتربوا من دائرة الخطر. ونحن نهبط الدرج، شاء القدر أن تُحلّ عقدة زناري ويسقط سروالي وأنا عاجز عن رفعه لأن يديّ مقيّدتان. علت الأصوات من كل الاتجاهات بسبب استعصاء في الحركة, أسرع  أحد الحراس وحلّ المشكلة بربط السروال جيداً على خصري، فاستأنفتِ القافلة المسير.

 

كانت تلك الحادثة زادي لأيام داخل الزنزانة، أنا الذي لم أحمل سكيناً في حياتي، أُهان بهذه الطريقة علناً، وعلى مرأى ومشهد من كل أبناء اللاذقية.  عزّيت نفسي  بالنهاية في الوصول إلى نتيجة مفادها: إن ثورة الحرّية والكرامة ستنتهي  بتغيير في سوريا، يُسدل الستار على تلك المحاكم القراقوشية، ويُجبر دولتنا على التعامل مع سجناء الرأي بطريقة أخرى غير الطريقة السائدة.

 

انتهت محاكمتي قبل نهاية العام، واستقبلت عام 2013 في قاووش فيه كل أنواع القمل والوسخ والمجرمين العُتاة، ولكنني اعتبرت نفسي محظوظاً لاستطاعتي الحصول على الكتب من مكتبة السجن وقراءتها بحرّية، وقد كانت غنيّة جداً ومنّوعة، وخاصة الكتب التاريخية، ومنها قرأت عن سقراط ومحاكمته التي جرت في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان عمر فيلسوفنا بحدود عمري عندما قُدِّم إليها. لقد ضاق خصوم سقراط في أثينا ذرعاً بانتقاداته لهم، واتّهموه بأنه لا يحترم الآلهة، ويفسد الشباب بآرائه, وحاولوا بشتّى الطرق تخويفه وردعه عن السير في هذا الطريق, ولكنه لم يرضخ لتهديداتهم, فما كان منهم إلا أن نظّموا له محكمة لمحاكمته بلغ عدد أعضاؤها خمسمائة شخص، وقد عرضت المحكمة على سقراط رغبتها بتركه مقابل التعهّد بالتخلّي عن إرشاداته ومواعظه للشباب، ولكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً، قائلاً لهم: مادام ضميري يأمرني في إرشاد الناس إلى طريق العقل الصحيح، سأستجيب له. بعد ذلك حكمت عليه المحكمة بالإعدام - عبر شراب سام-  بفارق ضئيل بين المؤيّدين والمعارضين للحكم, ولكنها أمهلت التنفيذ مدة شهر كامل، علّ وعسى أن يهرب الشيخ من أثينا وينجو من تطبيق الحكم. ولكنه رفض الهروب وتجرّع كأس السمّ بعد نهاية الشهر.

 

 قفز إلى ذهني مباشرة بعد قراءة جلسات المحكمة  المقارنة بين محاكمة سقراط ومحاكمتي بعد ألفين وخمسمئة عام من عُمْر البشرية, والتشابه المذهل بيني وبين سقراط في محاولة الاستماع إلى صوت الضمير الداخلي في كلينا الذي يحضّنا على فعل الخير لأجل الناس, لقد كلّفني ذلك الاستماع تسعة عشر عاماً، بين مطاردة واعتقال على خلفية انتمائي لرابطة العمل الشيوعي, وقد واتتني المعرفة والشجاعة لأن أنتقل من خانة الماركسية إلى خانة الليبرالية بعد خروجي من السجن، وكنت أظنّ أن ذلك سيخفّف الضغط عنّي, فالماركسية تقول بالعنف الثوري، أمّا الليبرالية فهي تنبذ العنف بكل أشكاله، وتقول بالإصلاح, ولم يفدني ذلك شيئاً، بل تحوّلت إلى محكمة بعد اعتقالي الأخير؛ لأن ضميري الداخلي ألزمني بالانحياز إلى الثوار المطالبين بالحرّية في سوريا عبر مظاهراتهم .

 

مرة أخرى علّلت نفسي بأن ذلك ناتج عن نظام مفلس وفي نهايات حكمه.

 

 بعد أسبوع بالضبط قرأت في أحد الكتب المقطع التالي: ألَّف رئيس الوزراء البريطاني عام 1829 قوة بوليسية في لندن قوامها ستّة آلاف شرطي مسلح بأسلحة خفيفة من أجل حفظ الأمن في العاصمة. قامت قيامة الشعب في لندن، وساروا بتظاهرة تجمّعت أمام البرلمان وهم يهتفون: اللورد بييل يجمع رجال البوليس من أفراد العصابات ويسلّحهم الشعب يدعو إلى المقاومة - الحرّية أو الموت –

  لعب الفار بعبّي هذه المرّة، فالموضوع على ما يبدو لا يتعلّق بنظامنا فقط, بل في النظام العالمي القائم بأكمله، وكأننا نسير إلى الخلف وليس إلى الأمام، كما تعوّدنا التفكير. تذكّرت إحدى نقاشاتنا في حلقتنا الماركسية داخل اللاذقية، جرت عام 1974 كان عنوانها (الترسيمة الستالينية)، كانت حلقتنا في اللاذقية خليط من الماركسيين مثل قوس قزح - من الولاء لتروتسكي الأممية الرابعة إلى الولاء للماوية إلى الولاء للحركة الشيوعية الرسمية بقيادة الاتحاد السوفياتي. احتدم الجدال حول الترسيمة الخماسية – مشاع, رقّ, إقطاع, رأسمالية, اشتراكية -  بعضهم استشهد بماركس ودراساته الأخيرة حول نمط جديد ساد الشرق، اقترح تسميته نمط الإنتاج الآسيوي, وبعضهم الآخر استشهد بدراسات سمير أمين حول نمط إنتاج سمّاه – نمط الإنتاج الخِراجيّ, وبعضهم تطرّق إلى دراسات الشيوعي اللبناني الشهيد مهدي عامل حول نمط إنتاج سمّاه ( نمط الإنتاج الكولنيالي ). كان أعمق ردّ في الدفاع عن الترسيمة قول أحدهم : اللوحة الخماسية تشبه لوحة فنّية مزركشة بالألوان, إذا نظرت إليها عن قرب، تبدو متنافرة، أمّا إذا نظرت إليها عن بعد فتبدو بمنتهى الانسجام. جاء دوري في الحديث، فاعترضت على تلك الحتميّة، بسبب وجود أسلحة نووية، إذا انفلتت من عقالها قد تدمّر كل حضارتنا وتعيدنا من جديد إلى عصور الهمجية، ردّ عليّ المتحمّسون لمبدأ الحتميّة التاريخية, حتى ولو تمّ ذلك ستعود البشرية، وتصعد في سلّم نصل فيه إلى الطابق الرابع، طابق الشيوعية، حسب وصف أحدهم للتقدّم الاجتماعي .

 

خرجت من السجن في 6/3/2013وانقطعت سلسة أفكاري مع زحمة الحياة وانشغالي بتدبير أمور أسرتي, لكنّ المشهد التالي  في عام 2019 أعادني إلى الموضوع من جديد .

 

المشهد الثاني :

 

تعرّضت قرية كفر نبودة في ريف حماة صيف هذا العام الحارّ لغارات جوّية، ألقت فيها الطائرات  براميل متفجّرة وقنابل فراغية وعنقودية عديدة، ممّا دعا أهاليها لترك بيوتهم حاملين على ظهورهم ما خفّ وغلا ثمنه إلى حقول زيتون مجاورة لا تصل إليها شظايا البراميل والقنابل (وهم محظوظون كون الطقس الحار يسهّل عليهم أمور معيشتهم في العراء أكثر بكثير من الطقس البارد الذي أجبر قرى عديدة في ريف دمشق لترك بيوتهم والالتجاء للبساتين عندما قُصفت تلك القرى قبل سنين في الشتاء)، لايوجد تحت الأشجار سوى كبار السنّ من الرجال والنساء وهم يحتضنون أطفالهم لتهدئة روعهم من شدّة القصف, أمّا الشباب فهم جميعاً خلف المتاريس، يخوضون معركة غير متكافئة, حُسِمت المعركة في النهاية لصالح الروس والنظام. المضحك المبكي في الموضوع هو دخول المئات من العناصر المسلحة من أجل تعفيش ما تركه الأهالي داخل بيوتهم، ولم يستطيعوا حمله على ظهورهم - التعفيش من سمات الحرب السوريّة وجديدها في كفر نبودة تعفيش جديد يشمل موسم البطاطا الذي زرعه الأهالي في قريتهم، والآن هو موسم القطاف، ولذلك احتاط المسلحون، فأدخلوا إلى القرية فرقاً وآليّات مخصّصة لجني المحصول، ويُتوقّع أن تحرق تلك المليشيات ما لم تستطع تعفيشه من البطاطا، كما جرى في قرية الحويز المجاورة  -  جرى ويجري كل ذلك تحت سمع وبصر العالم، وهم يتفرّجون على عذابات أبناء الشعب السوري، وجميعهم مشغولون بتعفيش البطاطا وأسلاك الكهرباء والنحاس لبيعها في السوق, أمّا مَن يتكلّم عن القِيَم والأخلاق مثلي فهو رجعيّ مشدود إلى الماضي, ياويحهم، لقد أسقطوا من الأسلحة لو بِيعت بالسوق وصُرف ثمنها على الفقراء، لَما ظلّ جائع في المنطقة. يا ويحهم، سخّروا العلم لخدمة مافيات السلاح والطاقة، في حين يتضوّر الملايين جوعاً في القرن الواحد والعشرين .

 

عن أي تقدّم اجتماعي نتحدّث، إذا كانت الدول العميقة القائمة في كل البلدان تعتمد على الشرطة والبوليس والجيش والمخابرات أكثر بآلاف المرّات ممّا كان الحال عليه أيام اللورد بييل عام 1829, وإذا كانت دول ديكتاتورية مثل روسيا والصين واضحة في عدائها للديمقراطية،  فماذا سنقول عن ديمقراطية أمريكا - الدولة الحضارية المتطوّرة - التي توصل ديمقراطيتها إلى الحكم في أيامنا معتوهاً لا تهمّه القِيَم ولا الأخلاق بقشرة بصلة، وقد جمع رأس ماله من وراء بيوت الدعارة، ويفاخر بممارسته الجنس داخل حفلات جماعية, وقد ينتخبه الشعب الأمريكي في دورة جديدة .

 

عن أي تقدّم عالمي نتحدّث، إذا كانت فئة لا تتجاوز 4% تتحكّم بثورات الشعوب، وتريد تركيعها بالقوة، وصورة كفر نبودة خير شاهد على ذلك. عن أي ثقافة وحضارة للبشرية نتوهّم أنها ستضغط على تلك الدول العميقة، إذا كانت جيوشها ومخابراتها وأجهزتها تسيطر على العالم الحالي، ليقودها رؤساء دول ثقافتهم ضحلة جداً منحازة للطبقي على حساب الإنساني مثل كيم جونغ إيل وبوتين وأردوغان وخامنئي ونتنياهو ... إلخ.

 

كم كنت ساذجاً وبسيطاً عندما ظننت أن نظامنا سيسقط لا محالة، لأن روح العصر تجاوزته, فإذا بي أُفاجأ بأن هيئات المجتمع الدولي الحالية كلّها وقفت إلى جانبه، بما فيها موظفو هيئة الأمم المتحدة الذين يهمّهم الحصول على رواتبهم أكثر ممّا يهمّهم السهر على تطبيق مبادئ اتّفق عليها العالم سابقاً. ليس النظام وحده يريد إظهاري بتلك الصورة، على ما يبدو، كوني مجرماً خطيراً. وما جرى ويجري في كفر نبودة خير شاهد على ذلك.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard