info@suwar-magazine.org

الهزيمة المدوّية للهزيمة

الهزيمة المدوّية للهزيمة
Whatsapp
Facebook Share

 

أطلق العقل العربي على خسارة فلسطين، وإعلان قيام كيان الأبارتيد العنصري الصهيوني اسم (النكبة)، ليشير إلى أن المجتمع العربي منكوب، إنها نكبة عامة تخاطب كيان هلامي هو مجتمع عربي عريض في كيانات مستحدثة لمجتمعات أصغر، هكذا ارتبطت النكبة بالضمير الجمعي للإنسان العربي المنكوب بالعالم من حوله، العالم بالوجه القذر لإمبراطوريات الحرب الكبرى، وقوننة الاحتلال واقتلاع الشعوب، لقد أشارت النكبة إلى فلسطين كجرحٍ مفتوح في خاصرة العالم، وهو الجرح الأكثر اشتعالاً بعد إغلاق جرح هيروشيما وتقطيبهُ جيداً بقوة القانون الدولي والإقرار الياباني بقبول الهزيمة، أما في فلسطين فلم تنجح أنامل الجراحين المهرة للرأسمال المعاصر أن تخيط جرحاً في أرضٍ تعجّ بالولادات العظيمة.

 

لقد نهضت في الثقافة العربية حقيقة أن المنكوب ليس مهزوماً بالضرورة، وتشكلت بوادر لخطابات وطنية عالية الوتيرة، لكنها تمخضت عن مشروع انفعالي أكثر منه واقعاً تتم صياغته بوعي علمي وتاريخي، فكانت تجربة الوحدة بين سوريا ومصر أصدق تعبير على محاولة الوعي العربي للخروج من نكبته والرد عليها بالتماسك والوحدة، لكن الردّ هذا سرعان ما تكشف أنه يعبق بالانفعال، لم تشكل النكبة رافعاً حقيقياً، لأنها كانت واقعاً يومياً معاشاً للجميع، فالإنسان الفلسطيني والعربي على كافة المستويات والصعد واختلاف أنماط الحياة يرفض عميقاً وجود هذا الكيان العنصري، وهو الخارج حديثاً من احتلالات شرسةٍ مزقت المنطقة وشعوبها منذ خمسمئة عام.

 

لقد كان واضحاً على المستوى الفكري والثقافي، بداية إدراك حقيقة النكبة وجوهرها، في أن النكبة هي تأخُّر العقل العربي عن وعي العالم، وهو تأخُّر يرتدي نبلاً بسيطاً رافضاً للأخر والعالم الذي خاض حربين عالميتين مجنونتين، فبدت النكبة أنها رفضٌ دون معرفة.

 

بعد هزيمة حزيران 1967، تدثر مفهوم الهزيمة بدوافع وروافع انفعالية في التفكير والتعبير والعمل الثقافي والسياسي، كان من شأنها سماع أصوات البنادق والقصائد والمقالات والكتب جنباً إلى جنب، ما لبث أن تحول هذا الضجيج إلى مناسبات وبات الشهداء الأفراد من فدائيي منظمة التحرير والمقاتلين العرب في صفوف المقاومة وقصصهم، كأنها جرعة سريعة لبلوغ نشوة اعتياد الهزيمة والرد عليها بالأضاحي من هوامش الفقراء الصادقين في عملهم لرد الهزيمة واستعادة الحقوق.

 

بات مفهوم الهزيمة أكثر حضوراً، وما لبث أن أصبح هذا المفهوم الرافعة الأكثر فتنةً في الخطاب الفكري والثقافي والسياسي والثقافي والاجتماعي في المجتمع العربي، الجميع يعبق بالهزيمة ويحاول الرد عليها، وباتت ضرورة لقيام شتى المشاريع .. من القصائد إلى الرواية والمسرح إلى خطابات التحرر الوطني إلى الفكر وشتى أنواع الفنون، لقد نهل الاستبداد من هذا المفهوم عميقاً، كما نهل الخطاب المضاد له أيضاً بالشراهة نفسها، الجميع يريد ركوب الهزيمة كفارسٍ ليروِّضها ويعلن انتصاره عليها، فبات الجميع لاهثون في الانتصار على الذات، وباتت البنادق التي عجّت في أيدي المقاتلين تغيّر اتِّجاه تصويبها نحو صدور الفقراء لحماية كيانات سلطوية منافية للحياة.

 

راهناً؛ ثمة سقوط مُدَوٍّ يسمعه الجميع ولا يهمس به أحد سوى أنفاس الفقراء، إنه الهزيمة المدوية للهزيمة، لقد حكّت حراكات الفقراء العرب جلد الهزيمة عميقاً لتكتشف أنها جيفةً لا أثر فيها للحياة، فلم يعد ممكناً أن يصدق الفقراء مطولات الرد على الهزيمة في الثقافة والخطاب السياسي وحتى الاجتماعي، وبات الفراغ أكثر سعةً في وعي الإنسان العربي للعالم، ودأبَ مهندسو الهزيمة بالمعالجة السريعة لوعي هذا الفراغ، عبر حشوه بالعقائد، والبحث عن هزائم التاريخ الأكثر فتنةً كي يحقن وعي الناس بها، كي لا يكون للإنسان الذي يعيش في هذه المنطقة من العالم، المنطقة التي تحيط الكيان العنصري، سوى قبول واحدة من الحضيرتين، حضيرة الدين السياسي وحضيرة العسكر، كي يزرب أطفاله بين قضبانها من جديد.

 

لقد هُزمت الهزيمة من الضمير الشعبي العربي، والتحدي هذه المرة ليس لا يمكن أن تحمله روافع الشعارات في التحرير والتنوير، إنما المشاركة الحقيقية في كشط الاستبداد عن الضمير الحي للإنسان المعاصر، ورفض حشو الفراغ الذي تركته الهزيمة بالعقائد والأفكار الخدميّة المعاصرة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard