مزار (علي بدراني) المشحون بالحكايات والأساطير وفيض الكرامات
قصة أحد المزارات في الجزيرة السورية
من المرويات المتداولة عنه أنّ الناس في القرى المجاورة كانوا يترجّلون حين يبلغون المزار حتى يجتازوه، وأنّ سارقاً كرّر الحلفان بالمزار ثلاث مرات فكان يعترف بإثم السرقة عوض النفي.
إنّه مزار "علي بدران" في إحدى القرى المحاذية للحدود التركية في الشمال الشرقي السوري، حيث تدور في فلكها الآن الكثير من الأحداث المحورية في رحى الصراع السوري.
في هذه المنطقة تنتشر المزارات الدينية المسوّرة بحجارة بسيطة، ليس فيها أضرحة أو هندسة بنائية خاصة، كما لا تخلو من قصص وحكايا غريبة، على عادة ما تجود به الشعوب حول آثارها، ويهتم الكرد في هذه الجغرافيا بحياكة الحكايا، ورسم القداسة والمهابة حولها.
ويقع مزار "علي بدران" على مسافة حوالي 90 كم شرقي مدينة قامشلي في محافظة الحسكة السورية، وهما بحسب القرويين مزاران أحدهما لشخص يدعى "علي" وآخر لأخته وتدعى "بدري"، بينما يرجّح آخرون أنّها لوالده ويسمّى "بدران"، ولكنّ المتّفق عليه هو مزار "علي"، وتقع إلى جانبه شجرة ضخمة معمّرة، ويبلغ قطرها مترين، لكن الجميع لا ينطقها إلا بهذه الصيغة "علي بدراني" بياء ممالة على عادة الكرد في إمالة الحرف الأخير من اسم المكان.
استشفاء ومهابة
يقول القرويون عن المزار "حِجْرِك" والتي ربما تكون عائدة إلى مفردة الحُجرة، وأسفل المزار ثمة ينابيع منتشرة بكثرة في تلك القرى، وللنبع الذي يجري أسفل مزار "علي بدران" قدسية خاصة، حيث ثمة شجرة توت ضخمة معمّرة، تحتاج إلى ثلاثة رجال مجتمعين ليلفّوها بأيديهم، ولها قدسية شأن المزار.
يقول عابد (82 عاماً) من أهالي القرية (هذه الزيارة تدعى "علي بدران"، هذا "علي" وتلك "بدري" كنا نقول أنّها أخته، لكن تلك الزيارة هي لوالده)، لا يعلم عابد الذي كان يتجوّل مع بعض الشباب والرجال بالقرب من المزار من أين جاؤوا بالشكّ والتأكيد حول القبرين، لكنّه يجزم في النهاية أنّ المزار الذي يقع في الجهة الأخرى من القرية لا يحظى بما تحظاه زيارة "علي" لوالده.
يؤكد عابد أنّ الناس كانت تهاب المزار كثيراً، ولم يكن ليجرؤ أحد على المرور راكباً من جانب القرية، حيث طريق القرى يمرّ بجانب المزار، بل (كانوا يترجّلون حين يبلغون المزار حتى يجتازوه)، وكانوا يقولون (سيصيبنا "علي بدران" ويقتلنا)، ولم يكن القرويون ليسمحوا لأنفسهم بالقيام بتجربة هم بغنى عنها، وسط الكثير من المرويات عن أناس "أصابهم" المزار لأنّهم لم يحترموه.
في منطقة قروية بعيدة عن المنطق الطبي والعلمي كان عليهم أن يلجؤوا إلى مداواة مرضاهم، أحياناً بالذهاب إلى المطبّبين الشعبيين على قلّتهم أو المضي إلى المشايخ أو التمسّح بالمزارات، ولم يكن مزار "علي بدران" بمنأى عن ذلك، حيث كان محط راحة وطمأنينة لـ "المؤمنين بقدسيته" فقد (كان المرضى يأتون إلى الزيارة للاستشفاء، وكانوا يتحسّنون حتماً)، على حد تعبير عابد.
وثمة قصة يردّدها الجميع لكنّهم لا يحدّدون لها توقيتاً بذاته ولا يعرفون لصاحبها مكاناً على الدقة، لكن الجميع يؤكد صحتها، وهي عن شخص كان أبكماً، بعد أن جاء به أهله إلى المزار، وطافوا به حوله، وتبرّكوا بنبعه فإنّه نطق في النهاية، وهي غيض من فيض الكرامات التي حظي بها زوّار "علي بدران".
طقوس الحلفان والقسَم
في القرى المتناثرة في حوض الجزيرة، وبخاصة قبل أن تصل الحداثة الإدارية إليها، وتقام الدعاوى والمحاكم ويتم تنصيب القضاة، كان الناس يحتكمون في دعواهم إما إلى الجاهات العشائرية أو إلى "الآغا/ المختار"، وأحيانا مشايخ الطرق الدينية كالنقشبندية المنتشرة في المنطقة، وأحياناً وفي الخصومات الأقلّ شأناً كسرقة الماشية، والتي لم يكن من داع إلى الذهاب بها إلى الجاهات والأغوات/ المخاتير، ومشايخ الدين، كان ثمة قضاء آخر يتمثّل بالقسَم بالزيارة.
وهذا القسم له طقوسه، حيث يقف الناس على شكل دائرة حول المزار، ويقف المتهم، ويحلف ويقسم بالمزار بأنّه لم يسرق، هذه هي الطقوس بشكل بسيط، لكن الأصعب هو في أدائها، حيث يقول حجي حسين من أهالي القرية وهو أيضاً قد تجاوز الثمانين، (لقد جيء مرة بأحد المتهمين، وكانت تهمته سرقة بعض الماشية، حين جاؤوا ووقفوا حول المزار، فبدأ الجميع بالحلفان)، وكان جميع الحاضرين يقفون على شكل دائرة حول المزار، ويحلفون واحداً تلو الآخر بأنّهم لم يسرقوا ،وكانت الصياغة (أقسم بـ "علي بدراني" بأنّي لم أسرق). يقول حجي حسين وهو يبتسم (حين وصل الدور على المتهم، قال "أقسم بـ "علي بدراني" أنّي قد سرقت، حينها نظر الجميع إليه، وقالوا له "ها قد اعترفت" لكن المتهم طلب إعادة الكرّة، لأنّه تلعثم مهابة من المزار وأخطأ التعبير، إلا أنّه وبتكرار القسم لثلاث مرات أقسم بأنّه هو السارق)، حينها يقول القرويون أنّ السارق أعاد المال، يبتسم حجي حسين ويقول (لا أحد يستطيع أن يكذب في حضرة "علي بدراني")، ثم يستدرك ويقول (لا أحد يستطيع ذلك حتى اللحظة).
لكن وفي المقابل إن قال المتهم (أقسم بـ "علي بدراني" أنّني لم أسرق، أو قال عن شيء "إنّه ملكي")، فلن يستطيع أحد نزعه منه، لأنّه أقسم، و (الذي يقسم ينهي الجدال).
هل المزار هو لـ "علي بن بدران" العلويّ؟!
في العام 2005 تفاجأ أهالي "علي بدران" بقدوم الرجل الأمني أبو رامي "رئيس مفرزة الأمن العسكري بمدينة رميلان النفطية 72 كم عن مدينة قامشلي" المعروف في تلك المنطقة، وهو ينوي أن يبني ضريحاً أسمنتياً حول حجرة زيارة "علي" دون "بدران" في القرية، وقد بناها بالفعل في العام 2005 كما يبدو من الكتابة المدونة، وقد صدّرها بأبيات للشاعر المنتجب العاني عن شخصية من الطائفة العلوية في التاريخ تدعى علي بن بدران، فيما يقول القرويون أنّ الرجل جاء للبحث عن الذهب، بينما يكتفي إبراهيم حاجي بالقول ( أبو رامي بنى الضريح لكن يُقال بأنّه كان يبحث عن الجِرار)، ويتفق معه عابد على أنّ ما يتم تداوله في المنطقة هو (أنّه جاء للبحث عن الذهب، عدا أنّ المزار كان يزوره الكثير من العلويين المقيمين كموظّفين في مدينة رميلان، قبل العام 2011).
ويقول الباحث الأثري رستم عبدو أنّه (وبالنسبة لمزار علي بدران فهي تلة كتلال المنطقة، وهي حتما مليئة بالآثار، ومن الممكن أن تضم قطعاً مميّزة، ولكن موضوع الخزائن والذهب بالشكل الذي يروّج له القرويين عائد في الأغلب إلى بساطة الشعب، حيث يحيكون حولها القصص)، ويؤكد عبدو أنّ من يروّج لإشاعات وجود الذهب والخزائن (هم في العادة من تًجّار الآثار، فحوالي 70 من قطع الآثار المتداولة هي مزوّرة، وأنا لا أعتقد أنّ هناك خزائن في منطقتنا).
ومع أنّ المزار اسمه "علي بدران" إلا أنّ ثمة ما أثار شكوكاً حول أن يكون المزار عائداً لعلي بن بدران، ومن خلال البحث عن هذه الشخصية في التاريخ نجد له ذكراً في موقعين مهمّين للشاعر المنتجب العاني أحد شعراء الطائفة العلوية، وهو من كبار الأشخاص في سلسلة الدعاة العلويّين المنشقّين عن الدعوة الفاطميّة، والمختلفين من أتباع المذهب التوحيدي (الدروز).
يقول المنتجب العاني في قصيدة مدح عن علي بن بدران:
وزُرْ عليٍّ بن بدران تجدْ رجُلاً/ مهذَبَ النَّفسِ في علم وعرفانِ
وفي نميرِ الكِرامِ الغرِّ مُقتبس/ بحار جُودٍ تُروّي كُلَّ ظمآنِ
فاتبع رضاهم وكن بالله معتصماً/ فكل ّ شيءٍ سوى ربّ العُلى فانِ
وقد نُقشت هذه الأبيات المختارة من قصيدة مدح طويلة للعاني في علي بن بدران في مدخل الضريح، والذي كان يزوره العلويون منذ تشييده بحسب القرويين.
وترد ترجمة علي بن بدران والمنتجب العاني في أحد مصادر العلوية التي تقول (وابن بدران المهاجري الذي لم يسمع بمثله في الكرم والسخاء، والمنتجب الدين العاني الذي لا يضاهى بعبقريته ولا بعلمه، المعروف بديوانه الحاوي لأجمل علوم الشعر، وهو إمام الشعراء وأستاذ البلاغة وفقيه كبير في أصول الشريعة، ومن أعلام القرن الثالث، وجهابذة العلم).
ويقول الصحفي والكاتب حمزة همكي وهو من أهالي المنطقة أن (لا علاقة للمزار بالعلويين لا من قريب ولا من بعيد، وقد استغلّ البعض توافق جزء من الاسم مع أحد شخصيات العلويين في التاريخ، وربما يكون الأمر لأسباب سياسية).
ويؤكد همكي أنّ المزار واحد من الكثير من المزارات المنتشرة بكثرة في المنطقة، كما أنّه ليس للعلويين أي أثر في المنطقة برمتها. ويعود تواجد العلويين في منطقة الجزيرة (محافظة حسكة) إلى السبعينات، حيث كانوا يتوافدون لتسلّم الوظائف وبخاصة في المدن النفطية كمدينتي رميلان والجبسة، والدخول في سلك التعليم، كما أنّ غالبية الأفرع الأمنية تُدار من قبلهم.
ويوضح همكي الأمر بقوله (لم يدّخر نظام البعث خلال عقود حكمه جهداً في المحاولة والبحث بمختلف الوسائل لتغيير ديموغرافية المنطقة ذات الغالبية الكردية، وما هو تشييد ضريح علي بدران إلا وسيلة من تلك الوسائل).
شجرة "علي بدران" المقدّسة
حازت الشجرة أيضاً جانباً من القداسة حتى إن بعض مرويات القرية تذهب إلى أنّ أحد القرويين ممن قطع أغصانها شبت النار في بيته وأحرقته هو وزوجته وأولاده.
لكن يبدو أنّ هناك من يعرف للشجرة تاريخاً، على عكس المزار الضائع بين طيّات تاريخ المنطقة، فإبراهيم حاجي (80 عاماً) يقول أنّ والده كان يحدّثهم أن عمّا لهم ويدعى ملا عباس؛ وهم عم لوالد إبراهيم، هو من زرع هذه الشجرة، وعمرها يبلغ مائتي عام.
وقد آلت الشجرة يابسة بعد أن ضربها البرق منذ سنوات، وتراها إلى الآن في الأرض، يقول عصام سلو أحد شباب القرى المجاورة وهو شاب ثلاثيني (من الجيّد أنّ هذه الشجرة ضربها البرق، فإلى متى يؤمن أهلنا بهذه الخرافات)، وكان عصام يبتسم وهو يقول (كانوا يظنون أنّها شجرة مقدّسة، لكن عندما يجدونها، وقد آلت إلى خشب يابس ربما يغيّر الكثيرون رأيهم).
إلا أنّ أحداً، وإلى هذه اللحظة لا يجرؤ على أخذها حطباً أو إزاحتها من ذلك المكان.
ويبقى مزار "علي بدراني" كغيره من المئات من التلال الأثرية في الجزيرة السورية محفوفة بالغموض، حتى يتم التنقيب فيها وكشف أسرارها، إلا أنّها ستظلّ مشحونة بالحكايا والأساطير، والقصص غير المتناهية.